الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  609 31 - حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة الرجال، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " وما فاتكم فأتموا ".

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة: الأول: أبو نعيم الفضل بن دكين.

                                                                                                                                                                                  الثاني: شيبان بفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف بعدها الباء الموحدة ابن عبد الرحمن النحوي.

                                                                                                                                                                                  الثالث: يحيى بن أبي كثير .

                                                                                                                                                                                  الرابع: عبد الله بن أبي قتادة .

                                                                                                                                                                                  الخامس: أبو قتادة واسمه الحارث بن ربعي الأنصاري .

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه أن رواته ما بين بصري وكوفي، وفيه القول في موضعين.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن إسحاق بن منصور عن أبي بكر بن أبي شيبة .

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " بينما " أصله بين فزيدت فيه الميم والألف وربما تزاد الألف فقط، فيقال: بينا وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل ومبتدإ وخبر ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح أن لا يكون إذ وإذا في جوابيهما تقول: بينا زيد جالس دخل عليه عمرو وإذ دخل عليه عمرو وإذا دخل عليه عمرو، وقوله: " جلبة الرجال " بالألف واللام في رواية الأكثرين وفي رواية الأصيلي : " جلبة رجال " بدون الألف واللام، والجلبة بالفتحات الأصوات، وذلك الصوت كان بسبب حركتهم وكلامهم واستعجالهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ما شأنكم " الشأن بالهمزة والتخفيف أي: الحال أي: ما حالكم حيث وقع منكم الجلبة؟

                                                                                                                                                                                  قوله: " لا تفعلوا " أي: لا تستعجلوا وذكر بلفظ الفعل لا بلفظ الاستعجال مبالغة في النهي عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " بالسكينة " بفتح السين وكسر الكاف التأني والهينة، ويروى " فعليكم السكينة " بدون حرف الجر، وبالنصب نحو: عليك زيدا أي: الزمه، ويجوز الرفع على أنه مبتدأ وخبره هو قوله: " عليكم ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " فما أدركتم " أي: القدر الذي أدركتموه في الصلاة مع الإمام فصلوا معه وما فاتكم منها فأتموه.

                                                                                                                                                                                  وفي هذه اللفظة اختلاف، فعند أبي نعيم الأصبهاني " وما فاتكم فاقضوا " وكذا ذكرها الإسماعيلي من حديث شيبان عن يحيى، وفي رواية أبي داود من حديث أبي هريرة " فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " وكذا هو في أكثر روايات مسلم، وفي رواية " فاقض ما سبقك "، وفي رواية لأبي داود " فاقضوا ما سبقكم "، وعند أحمد من حديث ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عنه " وما فاتكم فاقضوا " وفي (المحلى) من حديث ابن جريج عن عطاء، عن أبي هريرة أنه قال: " إذا كان أحدكم مقبلا إلى الصلاة فليمش على رسله، فإنه في صلاة، فما أدرك فليصل، وما فاته فليقض بعدما قال عطاء: وإني لا أصنعه " وفي (مسند أبي قرة)، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أبي سلمة، عنه بلفظ " فاقضوا " قال: وذكر سفيان عن سعد بن إبراهيم، حدثني عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عنه بلفظ " وليقض ما سبقه ".

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) اختلف العلماء في القضاء والإتمام المذكورين: هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ وترتب على ذلك خلاف فيما يدركه الداخل مع الإمام هل هو في أول صلاته أو آخرها، على أربعة أقوال:

                                                                                                                                                                                  أحدها: أنه أول صلاته وأنه يكون بانيا عليه في الأفعال والأقوال وهو قول الشافعي وإسحاق والأوزاعي، وهو مروي عن علي وابن المسيب والحسن وعطاء ومكحول ورواية عن مالك وأحمد، واستدلوا بقوله: " وما فاتكم فأتموا " لأن لفظ " الإتمام واقع على باق من شيء [ ص: 151 ] قد تقدم سائره، وروى البيهقي من حديث عبد الوهاب، عن عطاء، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله تعالى عنه " ما أدركت فهو أول صلاتك " وعن ابن عمر بسند جيد مثله.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال فيبنى عليها، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال فيقضيها وهو قول مالك وقال ابن بطال عنه: ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من القراءة بأم القرآن وسورة، وقال سحنون : هذا الذي لم يعرف خلافه دليله ما رواه البيهقي من حديث قتادة أن علي بن أبي طالب قال: " ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك به من القرآن ".

                                                                                                                                                                                  الثالث: أن ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقرأ فيها بالحمد وسورة مع الإمام، وإذا قام للقضاء قضى بالحمد وحدها لأنه آخر صلاته وهو قول المزني وإسحاق وأهل الظاهر.

                                                                                                                                                                                  الرابع: أنه آخر صلاته وأنه يكون قاضيا في الأفعال والأقوال وهو قول أبي حنيفة وأحمد في رواية، وسفيان ومجاهد وابن سيرين، وقال ابن الجوزي : الأشبه بمذهبنا ومذهب أبي حنيفة أنه آخر صلاته، وقال ابن بطال : روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخعي والشعبي وأبي قلابة، ورواه ابن القاسم عن مالك وهو قول أشهب وابن الماجشون، واختاره ابن حبيب، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " وما فاتكم فاقضوا " ورواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي ذر وابن حزم بسند مثله عن أبي هريرة والبيهقي بسند لا بأس به على رأي جماعة عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  والجواب عما استدل به الشافعي ومن تبعه وهو قوله: " فأتموا " أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام فحمل قوله: " فأتموا " على أن من قضى ما فاته فقد أتم لأن الصلاة تنقص بما فات، فقضاؤه إتمام لما نقص.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قال النووي : وحجة الجمهور أن أكثر الروايات " وما فاتكم فأتموا " وأجيب عن رواية " واقض ما سبقك " بأن المراد بالقضاء الفعل لا القضاء المصطلح عليه عند الفقهاء، وقد كثر استعمال القضاء بمعنى الفعل، فمنه قوله تعالى: فقضاهن سبع سماوات في يومين وقوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم وقوله تعالى: فإذا قضيت الصلاة ويقال: قضيت حق فلان، ومعنى الجميع الفعل.

                                                                                                                                                                                  (قلت): أما الجواب عن قوله: " فأتموا " فقد ذكرناه آنفا، وأما قوله: المراد بالقضاء الفعل فمشترك الدلالة لأن الفعل يطلق على الأداء والقضاء جميعا، ومعنى فقضاهن سبع سماوات قدرهن، ومعنى قضيتم مناسككم فرغتم عنها، وكذا معنى فإذا قضيت الصلاة ومعنى قضيت حق فلان أنهيت إليه حقه، ولو سلمنا أن القضاء بمعنى الأداء فيكون مجازا، والحقيقة أولى من المجاز ولا سيما على أصلهم أن المجاز ضروري لا يصار إليه إلا عند الضرورة والتعذر.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): حكى البيهقي عن مسلم أنه قال: لا أعلم هذه اللفظة يعني فاقضوا رواها عن الزهري إلا ابن عيينة وأخطأ.

                                                                                                                                                                                  (قلت): تابعه ابن أبي ذئب فرواها عن الزهري كذلك، وكذا وقع في رواية لمسلم وأبي داود كما ذكرنا عن قريب، وقال الكرماني : " وما فاتكم فأتموا " دليل للشافعية حيث قالوا: ما أدركه المسبوق مع الإمام فهو أولها لأن التمام لا يكون إلا للآخر لأنه لا يقع على باقي شيء تقدم أوله، وعكس أبو حنيفة فقال: ما أدراك مع الإمام فهو آخرها. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هو عكس حيث غفل عن رواية " فاقضوا " وما قال فيه العلماء وقد ذكرناه، ولو تأدب لأحسن في عبارته، وليس أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه فيما قاله وحده، وقد ذكرنا أنه قول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم وقول سفيان وابن سيرين ومجاهد والنخعي والشعبي وأبي قلابة وآخرين.

                                                                                                                                                                                  ومما يستفاد من الحديث: الحث في الإتيان إلى الصلاة بالسكينة والوقار، وسواء فيه سائر الصلوات سواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا.

                                                                                                                                                                                  وفيه: جواز قول الرجل: فاتتنا الصلاة، وأنه لا كراهة فيه عند جمهور العلماء وقد مر الكلام فيه، والله أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية