الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  618 40 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إنه يدل على وجوب الصلاة بالجماعة لما فيه من وعيد شديد يدل على أن تاركها يدخل فيه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله ولطائف إسناده) أما رجاله فقد ذكروا غير مرة، وأبو الزناد بالزاي والنون عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز، وأما لطائف إسناده ففيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه اثنان لم يذكرا باسمهما فأحدهما ذكر بالكنية والآخر باللقب، وفيه عن الأعرج، وفي رواية السراج من طريق شعيب عن أبي الزناد سمع الأعرج، وفيه أن رواته كلهم مدنيون ما خلا شيخ البخاري .

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الأحكام عن إسماعيل، وأخرجه النسائي في الصلاة [ ص: 160 ] أيضا عن قتيبة عن مالك.

                                                                                                                                                                                  (ذكر اختلاف ألفاظ هذا الحديث) وعند البخاري في باب فضل صلاة العشاء في الجماعة: " ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء " الحديث، وفي لفظ له " لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم "، وفيه " ثم آخذ شعلا من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بغير عذر "، وفي لفظ: " ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم "، وعند أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه " لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار "، وعند أبي داود " ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم " وفي مسند السراج " آمر فتيتي إذا سمعوا الإقامة من تخلف أن يحرقوا عليهم إنكم لو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا "، وفي لفظ آخر: " أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء حتى تهور الليل وذهب ثلثه أو نحوه، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس عزون، وإذا هم قليلون، فغضب غضبا شديدا لا أعلم أني رأيته غضب غضبا أشد منه، ثم قال: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أتتبع هذه الدور التي تخلف أهلوها عن هذه الصلاة فأضرمها عليهم بالنيران " وفي كتاب الطوسي مصححا: " ثم آتي قوما يتخلفون عن هذه الصلاة فأحرق عليهم " يعني: صلاة العشاء، وفي مسند عبد الله بن وهب حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا عجلان، عنه: " لينتهين رجال من حول المسجد لا يشهدون العشاء أو لأحرقن بيوتهم " وفي كتاب الثواب لحميد بن زنجويه " آمر رجالا في أيديهم حزم حطب لا يؤتى رجل في بيته سمع الأذان إلا أضرم عليه بيته "، وفي الأوسط للطبراني : " آمر رجالا إذا أقيمت الصلاة أن يتخلفوا دون من لا يشهد الصلاة فيضرموا عليهم بيوتهم " قال: " ولو أن رجلا أذن الناس إلى طعام لأتوه والصلاة ينادى بها فلا يأتونها "، وفي معجمه الصغير: " ثم أنظر فمن لم يشهد المسجد فأحرق عليه بيته "، وفي كتاب الترغيب والترهيب لأبي موسى المديني الأصبهاني : " خرج بعدما تهور الليل فذهب ثلثه، ثم قال: لو أن رجلا نادى الناس إلى عرق أو مرماتين أتوه لذلك وهم يتخلفون عن هذه الصلاة ".

                                                                                                                                                                                  وعند الدارقطني في مسنده: " لو كان عرقا سمينا أو مغرفتين لشهدوها "، وفي مصنف عبد الرزاق بسند صحيح " لقد هممت أن آمر فتياني أن يجمعوا إلي حزما من حطب ثم أنطلق فأحرق على قوم بيوتهم لا يشهدون الجمعة " رواه عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة ، ولما رواه البيهقي من طريق أحمد بن منصور الرمادي، عن عبد الرزاق كذا قال كذا الجمعة، وكذلك روي عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، والذي يدل عليه سائر الروايات أنه عبر بالجمعة عن الجماعات، وروي في المعجم الأوسط عن ابن مسعود بالإطلاق من غير تقييد بالجمعة والذي فيه التقييد بالجمعة رواه السراج، عن أبي الأحوص، عن عبد الله.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " والذي نفسي بيده " أي: والله الذي نفسي بيده، وهو قسم كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما كان يقسم به.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لقد هممت " جواب القسم أكده باللام وكلمة قد، ومعنى هممت أي: قصدت من الهم وهو العزم. وقيل: دونه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فيحطب " بالفاء وهو على صيغة المجهول، وهو رواية الكشميهني، وفي رواية الحموي والمستملي " ليحطب " باللام، ورواية الكشميهني هو رواية الأكثرين، ورواية الموطإ أيضا، وقال الكرماني : وفي بعض الروايات " ليحطب " بالنصب ولام كي وبالجزم ولام الأمر، وقال أيضا: ليحتطب أي: ليجمع، يقال: حطبت واحتطبت إذا جمعت الحطب، وقال بعضهم: ومعنى يحطب يكسر ليسهل إشعال النار به.

                                                                                                                                                                                  (قلت): ليس المعنى كذلك والمعنى أن آمر بحطب فيحطب أي: فيجمع، وكذلك معنى يحتطب كما ذكرناه، ولم يقل أحد من أهل اللغة أن معنى يحطب يكسر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ثم آمر بالصلاة " الألف واللام فيها إن كانت للجنس فهو عام، وإن كانت للعهد ففي رواية أنها العشاء وفي أخرى الفجر، وفي أخرى الجمعة، وفي أخرى يتخلفون عن الصلاة مطلقا، ولا تضاد بينها لجواز تعدد الواقعة، نعم إذا كان المراد الجمعة، فالجماعة شرط فيها، ومحل الخلاف إنما هو في غيرها، وقال البيهقي : والذي يدل عليه سائر الروايات أنه عبر بالجمعة عن الجماعة، ونوزع فيه لأن أبا داود والطبراني رويا من طريق يزيد بن جابر، عن يزيد بن الأصم، فذكر الحديث قال يزيد : قلت ليزيد بن الأصم : يا أبا عوف الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يؤثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها، فظهر من ذلك أن الراجح من حديث أبي هريرة أنها غير الجمعة، وظهر من هذا أن البيهقي وهم في هذا، نعم جاء في حديث ابن [ ص: 161 ] مسعود أخرجه مسلم، وفيه الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل برأسه ومخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، لا يقدح أحدهما في الآخر لإمكان كونهما واقعتين كما أشرنا إلى ذلك عن قريب.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فيؤذن لها " كذا هو باللام أي: أعلم الناس لأجلها ويروى بالباء أي: أعلمت بها، والهاء مفعول ثان.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ثم أخالف " من باب المفاعلة، قال الجوهري : قولهم هو يخالف إلى فلان أي: يأتيه إذا غاب عنه، وقال الزمخشري : يقال: خالفني إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه، قال تعالى: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه والمعنى أخالف المشتغلين بالصلاة قاصدا إلى بيوت الذين لم يخرجوا عنها إلى الصلاة، فأحرقها عليهم، ويقال: معنى أخالف إلى رجال: أذهب إليهم، والتقييد بالرجال يخرج الصبيان والنساء.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فأحرق " بالتشديد من التحريق، والمراد به التكثير يقال: حرقه بالتشديد إذا بالغ في تحريقه، ويروى " فأحرق من الإحراق " ورواية التشديد أكثر وأشهر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والذي نفسي بيده " أعاد يمينه لأجل المبالغة في التهديد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " عرقا " بفتح العين وسكون الراء جمعه عراق، قال الأزهري في التهذيب: هي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحوم رقيقة طيبة فتكسر وتطبخ وتؤخذ إهالتها من طفاحتها ويؤكل ما على العظام من لحم رقيق، وتشمس العظام ولحمها من أطيب اللحوم عندهم، يقال: عرقت اللحم وتعرقته وأعرقته إذا أخذت اللحم منه نهشا بأسنانك، وعظم معروق إذا ألقي عنه لحمه أي: قشر، والعرام مثل العراق، قاله الرياشي، وقال القتبي : سمعت الرياشي يروي عن أبي زيد أنه قال: قول الناس ثريدة كثيرة العراق خطأ لأن العراق العظام، وفي الموعب لابن التياني عن ابن قتيبة : تسمى عراقا إذا كانت جرداء لا لحم عليها، وتسمى عراقا وعليها اللحم، وزعم الكلبي أن العراق العظم الذي أخذ أكثر مما بقي عليه، وبقي عليه شيء يسير، وعن الأصمعي العرق بجزم الراء الفدرة من اللحم، وفي المحكم العراق العظم بغير لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق، والعرق الفدرة من اللحم وجمعها عراق وهو من الجمع العزيز، وحكى ابن الأعرابي في جمعه عراق بالكسر وهو أقيس، وفي المغرب: العرق العظم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أو مرماتين " بكسر الميم وفتحها وهي تثنية مرماة، وقال الخليل : هي ما بين ظلفي الشاة، وحكاه أبو عبيدة وقال: لا أدري ما وجهه، ونقله المستملي في روايته في كتاب الأحكام عن الفربري، عن محمد بن سليمان، عن البخاري قال: المرماة بكسر الميم مثل منساة وميضاة ما بين ظلفي الشاة من اللحم، قال عياض : فالميم على هذا أصلية، وقال الأخفش : المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصال محددة يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب وهي المرماة والمدحاة، وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف، وقال: ويؤيده ما حدثني ثم ساق من طريق أبي رافع عن أبي هريرة بلفظ " لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل " وقيل: المرماة سهم يتعلم عليه الرمي وهو سهم دقيق مستو غير محدد، وقال أبو سعيد المرماتان في الحديث سهمان يرمي بهما الرجل فيحرز سبقه يقول يسابق إلى إحراز الدنيا وسبقها ويدع سبق الآخرة.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): لم وصف العرق بالسمن والمرماة بالحسن؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): ليكون الباعث النفساني في تحصيلهما، وقال الطيبي : الحسنتين بدل من المرماتين إذا أريد بها العظم الذي لا لحم عليه، وإن أريد بهما السهمان الصغيران، فالحسنتان بمعنى الجيدتان صفة للمرماتين، قال: والمضاف محذوف يعني في قوله: " لشهد العشاء " أي: صلاة العشاء، فالمعنى لو علم أنه لو حضر الصلاة لوجد نفعا دنيويا، وإن كان خسيسا حقيرا لحضرها لقصور همته على الدنيا ولا يحضرها لما لها من مثوبات العقبى ونعيمها.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه أن جماعة استدلوا به على أن الجماعة فرض عين، وقال صاحب التلويح: اختلف في صلاة الجماعة هل هي شرط في صحة الصلاة كما قال داود بن علي وأحمد بن حنبل أو فرض على الأعيان كما قاله جماعة من العلماء ابن خزيمة وابن المنذر، وهو قول عطاء والأوزاعي وأبي ثور وهو الصحيح عند أحمد، وقال في شرح المهذب: وقيل: إنه قول للشافعي، وعن أحمد واجبة ليست بشرط. وقيل: سنة مؤكدة كما قاله القدوري، وفي شرح الهداية عامة مشايخنا أنها واجبة، وقد سماها بعض أصحابنا سنة مؤكدة، وفي المفيد الجماعة واجبة وتسميتها سنة لوجوبها بالسنة، وفي البدائع إذا فاتته الجماعة لا يجب عليه الطلب في مسجد آخر بلا خلاف بين أصحابنا لكن إن أتى مسجدا يرجو إدراك الجماعة فيه فحسن، وإن صلى في مسجد حيه فحسن، وعن القدوري يجمع بأهله، وفي التحفة إنما تجب على من قدر عليها من غير [ ص: 162 ] حرج وتسقط بالعذر فلا تجب على المريض ولا على الأعمى والزمن ونحوهم هذا إذا لم يجد الأعمى والزمن من يحمله، وكذا إذا وجدا عند أبي حنيفة وعندهما يجب، وعن شرف الأئمة وغيره تركها بغير عذر يوجب التعذير، ويأثم الجيران بالسكوت عن تاركها، وعن بعضهم لا تقبل شهادته، فإن اشتغل بتكرار اللغة لا يعذر في ترك الجماعة وبتكرار الفقه أو مطالعته يعذر، فإن تركها أهل ناحية قوتلوا بالسلاح، وفي القنية يشتغل بكرار الفقه ليلا ونهارا ولا يحضر الجماعة لا يعذر ولا نقبل شهادته، وقال أبو حنيفة : سها أو نام أو شغله عن الجماعة شغل جمع بأهله في منزله، وإن صلى وحده يجوز واختلف العلماء في إقامتها في البيت، والأصح أنها كإقامتها في المسجد، وفي شرح خواهر زاده هي سنة مؤكدة غاية التأكيد. وقيل: فرض كفاية، وهو اختيار الطحاوي والكرخي وغيرهما، وهو قول الشافعي المختار. وقيل: سنة، وفي الجواهر عن مالك : هي سنة مؤكدة. وقيل: فرض كفاية واستدل من قال بفرضية عينها بحديث الباب، وقال: لو كانت فرض كفاية لكان قيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بها كافيا، ولو كانت سنة فتارك السنة لا يحرق عليه بيته؛ إذ سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يهم إلا بحق ويدل على وجوبها صلاة الخوف إذ فيها أعمال منافية للصلاة، ولا يعمل ذلك لأجل فرض كفاية ولا سنة، وبما في صحيح مسلم " أن أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، قال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب. وخرجه أبو عبد الله في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن عباس، عن ابن أم مكتوم " قلت: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، قال: تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم، قال فحيهلا " وقال: صحيح الإسناد إن كان سمع عن ابن أم مكتوم، وأخرجه من حديث زائدة عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن أم مكتوم بلفظ " إني كبير شاسع الدار ليس لي قائد يلازمني، فهل تجد لي من رخصة؟ قال: تسمع النداء؟ قلت: نعم، قال: ما أجد لك رخصة ". قال الحاكم : وله شاهد بإسناد صحيح، فذكر حديث أبي جعفر الرازي، عن حسين بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن شداد، عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال " يعني ابن أم مكتوم " فقال: لقد هممت أن آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن هذه الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم، قال: فقلت: يا رسول الله لقد علمت ما بي " الحديث، وعند أحمد " أتى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد في القوم رقة، فقال: إني لأهم أن أجعل للناس إماما، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه، فقال ابن أم مكتوم : يا رسول الله إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ فقال: أتسمع إقامة الصلاة؟ قال: نعم، قال: فأتها " وأعل ابن القطان حديث ابن أم مكتوم، فقال: لأن الراوي عنه أبو رزين وابن أبي ليلى، فأما أبو رزين فإنا لا نعلم سنه، ولكن أكبر ما عنده من الصحابة علي رضي الله عنه وابن أم مكتوم قتل بالقادسية زمن عمر رضي الله عنه، وابن أبي ليلى مولده لست بقين من خلافة عمر رضي الله تعالى عنه. انتهى. قال صاحب التلويح: فيه نظر من وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: أن قوله: أبو رزين لا نعلم مولده غير جيد لأن ابن حبان ذكر أنه كان أكبر سنا من أبي وائل، وأبو وائل قد علم إدراكه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا لا تنكر روايته عن ابن أم مكتوم .

                                                                                                                                                                                  الثاني: قوله: أعلى ما له الرواية عن علي مردود بروايته الصحيحة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  الثالث: قوله: مات ابن أم مكتوم بالقادسية مردود بقول ابن حبان في كتاب الصحابة: شهد القادسية ثم رجع إلى المدينة فمات بها في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  الرابع: قوله: إن سن ابن أبي ليلى لا يقتضي له السماع من عمر مردود بقول أبي حاتم الرازي، وسأله ابنه: هل يسمع عبد الرحمن من بلال؟ فقال: بلال خرج إلى الشام قديما في خلافة عمر، فإن كان رآه صغيرا فهذا أبو حاتم لم ينكر سماعه من بلال المتوفى سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة، بل جوزه فكيف ينكر من عمر رضي الله تعالى عنه؟ ورواه البيهقي من حديث ابن شهاب الخياط عن العلاء بن المسيب عن ابن أم مكتوم " قلت: يا رسول الله إن لي قائدا لا يلازمني في هاتين الصلاتين العشاء والصبح، فقال: لو يعلم القاعدون عنهما ما فيهما لأتوهما ولو حبوا "، وفي الأوسط من حديث البزار " أن ابن أم مكتوم شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يرخص له في صلاة العشاء والفجر، وقال: إن بيني وبينك أشب " بفتح الهمزة وفتح الشين المعجمة، وفي آخره باء موحدة، وهو كثيرة الشجر يقال: بلدة أشبة إذا كانت ذات شجر وأراد هاهنا النخل، فقال: هل تسمع الأذان؟ قال: نعم، مرة أو مرتين، فلم يرخص له في ذلك، وعنده أيضا من حديث [ ص: 163 ] عدي بن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة : " جاء رجل ضرير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أسمع النداء، فلعلي لا أجد قائدا ويشق علي أن أتخذ مسجدا في بيتي، فقال صلى الله عليه وسلم: أيبلغك النداء؟ قال: فإذا سمعت فأجب " وقال: تفرد به زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الله بن مغفل، وعند مسلم من حديث أبي هريرة " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب " وأخرجه السراج في مسنده من حديث عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: أتى ابن أم مكتوم الأعمى، الحديث. وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم " من يسمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر " خرجه ابن حبان في صحيحه من حديث سعيد بن جبير عنه، وفسر العذر في حديث سلمان بن قرم بلفظ " من سمع النداء ينادى به صحيحا فلم يأته من غير عذر لم يقبل الله له صلاة غيرها، قيل: وما العذر؟ قال: المرض والخوف ".

                                                                                                                                                                                  وبما رواه ابن ماجه من حديث الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير، عن الحكم بن مينا، أخبرني ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول على أعواده: " لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعة أو ليختمن الله على قلوبهم ".

                                                                                                                                                                                  وبما رواه ابن ماجه أيضا من حديث الوليد بن مسلم، عن الزبرقان بن عمرو الضمري، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لينتهين رجال على ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم ".

                                                                                                                                                                                  وبما رواه أبو سعيد بن يونس في تاريخه من حديث واهب بن عبد الله المغافري، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: " لأنا على أمتي في غير الخمر أخوف عليهم من الخمر سكنى البادية وترك المساجد ".

                                                                                                                                                                                  وبما رواه الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس رضي الله عنه " لو أن رجلا دعا الناس إلى عرق أو مرماتين لأجابوه وهم يدعون إلى هذه الصلاة في جماعة فلا يأتونها، لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس في جماعة فأضرمها عليهم نارا، فإنه لا يتخلف إلا منافق " وبما رواه أبو داود في سننه بسند لا بأس به، عن أبي الدرداء مرفوعا " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية ".

                                                                                                                                                                                  وبما رواه ابن عدي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا " من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر " وضعفه.

                                                                                                                                                                                  وبما رواه أبو نعيم الدكيني بسند صحيح يرفعه " من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له .

                                                                                                                                                                                  وبما رواه الكجي في سننه عن حارثة بن النعمان يرفعه " يخرج الرجل في غنيمته فلا يشهد الصلاة حتى يطبع على قلبه " في إسناده عمر مولى عفرة وعن أبي زرارة الأنصاري قال: قال صلى الله عليه وسلم: " من سمع النداء فلم يجب كتب من المنافقين " ذكره أبو يعلى أحمد بن علي المثنى في مسنده بسند فيه ضعف.

                                                                                                                                                                                  وبما رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال صلى الله عليه وسلم: " لولا شيء لأمرت رجلا يصلي بالناس ثم لحرقت بيوتا على ما فيها ".

                                                                                                                                                                                  وأما استدلال من قال بأنها سنة أو فرض كفاية فيما تقدم في هذا الكتاب من الأحاديث التي فيها صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ لأن صيغة أفعل تقتضي الاشتراك في الفضل وترجيح أحد الجانبين، وما لا يصح لا فضل فيه، ولا يجوز أن يقال: إن أفضل قد يستعمل بمعنى الفاضل، ولا يقال: إن ذلك محمول على صلاة المعذور فذا لأن الفذ معرف بالألف واللام فيفيد العموم ويدخل تحته كل فذ من معذور وغيره، ويدل أيضا أنه أراد غير المعذور بقوله: " أو في سوقه " لأن المعذور لا يروح إلى السوق وأيضا فلا يجوز أن يحمل على المعذور لأن المعذور في أجر الصلاة كالصحيح، واستدلوا أيضا بما رواه الحاكم وصححه عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه " صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع رجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل ". وبقوله صلى الله عليه وسلم للذين صليا في رحالهما من غير جماعة: " إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة " فلو كانت الجماعة فرضا لأمرهما بالإعادة، ومثل هذا جرى لمحجن الديلي، ذكره في الموطإ، وأما الجواب عن حديث الباب فعلى أوجه:

                                                                                                                                                                                  أحدهما: ما قاله ابن بطال وهو أن الجماعة لو كانت فرضا لقال حين توعد بالإحراق: من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته لأنه وقت البيان، ونظر فيه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة، فلما قال صلى الله عليه وسلم: " لقد هممت " إلخ دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان.

                                                                                                                                                                                  (قلت): ليست فيه دلالة [ ص: 164 ] من الدلالات الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام ولا فيه دلالة أصولية فافهم.

                                                                                                                                                                                  الثاني: ما قاله الباجي وهو أن الخبر ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة إنما المراد المبالغة لأن الإجماع منعقد على منع عقوبة المسلمين بذلك، قيل: إن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قبل ذلك جائزا فحمل التهديد على حقيقته غير ممتنع.

                                                                                                                                                                                  الثالث: ما قاله ابن بزيزة عن بعضهم أنه استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه صلى الله تعالى عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه ثم نظر فيه ابن بزيزة بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه.

                                                                                                                                                                                  الرابع: ما قيل: إن تركه صلى الله تعالى عليه وسلم تحريقهم بعد التهديد يدل على عدم الفرضية.

                                                                                                                                                                                  الخامس: ما قاله عياض وهو أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هم ولم يفعل.

                                                                                                                                                                                  السادس: ما قاله النووي وهو أنها لو كانت فرض عين لما تركهم، وهذا أقرب من الأول.

                                                                                                                                                                                  السابع: ما قيل: إن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة ورد بما رواه مسلم " لا يشهدون الصلاة " أي: لا يحضرون، وفي رواية عجلان عن أبي هريرة " لا يشهدون العشاء في الجميع " أي: في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعا " لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم ".

                                                                                                                                                                                  الثامن: ما قيل: إن الحديث ورد في الحقيقة على مخالفة أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم.

                                                                                                                                                                                  التاسع: أنه ورد في حق المنافقين، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصهم، فلا يتم الدليل، ورده بعضهم بأنه يستبعد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان معرضا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم " وقد قال: لا يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه " ورده ابن دقيق العيد بأنه لا يتم إلا إن ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبا عليه، ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخبرا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قوله صلى الله تعالى عليه وسلم " ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر " يوضح بأنه ورد في المنافقين، ولكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية عجلان " لا يشهدون العشاء في الجميع "، وأوضح من ذلك ما رواه أبو داود " ويصلون في بيوتهم وليس بهم علة " فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا نفاق كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته وإنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله تعالى به من الكفر والاستهزاء، نبه عليه القرطبي، وقال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة بل إن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق.

                                                                                                                                                                                  العاشر: ما قيل: إن فرضية الجماعة كان في أول الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلوات على المنافقين ثم نسخ، حكاه عياض .

                                                                                                                                                                                  الحادي عشر: ما قيل: إن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات، وحسنه القرطبي ورد بالأحاديث الواردة المصرحة بالعشاء.

                                                                                                                                                                                  وفيه من الفوائد: تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة لأن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفي به عن الأعلى بالعقوبة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): يكون هذا من باب الدفع بالأخف.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز العقوبة بالمال بحسب الظاهر، واستدل به قوم من القائلين بذلك من المالكية، وعزي ذلك أيضا إلى مالك، وأجاب الجمهور عنه بأنه كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ.

                                                                                                                                                                                  وفيه: جواز إخراج من طلب بحق من بيته إذا اختفى فيه وامتنع بكل طريق يتوصل إليه، كما أراد عليه الصلاة والسلام إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم.

                                                                                                                                                                                  وحكى الطحاوي في أدب القاضي الصغير له أن بعضهم كان يرى الهجوم على الغائب، وبعضهم لا يرى، وبعضهم يرى التسمير على الأبواب، وبعضهم لا يراه، وقال: بعض الحكام أجلس رجلا على بابه ويمنع من الدخول والخروج من منزله، إلا الطعام والشراب فإنه لا يمنع عنهما، ويضيق حتى يخرج فيحكم عليه، قال الخصاف : ومن رأى الهجوم من أصحابنا على الخصم في منزله إذا تبين ذلك، فيكون ذلك بالنساء والخدم والرجال، فيقدم النساء في الدخول ويفتش الدار ثم يدخل البيت الذي فيه النساء خاصة، فإذا وجد أخرج، ولا يكون الهجم إلا على غفلة من غير استئمار، يدخل النساء أولا كما قلنا آنفا.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة .

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز الحلف من غير استحلاف كما في حلف النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز التخلف عن الجماعة لعذر كالمرض والخوف من ظالم أو حيوان ومنه خوف فوات الغريم.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كانت فيه مصلحة، واستدل ابن العربي منه في شيئين: أحدهما على جواز إعدام محل المعصية كما هو [ ص: 165 ] مذهب مالك .

                                                                                                                                                                                  (قلت): وبذلك روي عن بعض أصحابنا وادعى الجمهور النسخ فيه كما في العقوبة بالمال، والثاني استدل به على مشروعية قتل تارك الصلاة تهاونا بها، وفيه نظر لا يخفى، والله تعالى أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية