الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  6116 68 - حدثنا موسى ، حدثنا معتمر سمعت أبي ، حدثنا قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا فيمن كان سلف أو قبلكم ، آتاه الله مالا وولدا - يعني أعطاه مالا وولدا - قال : فلما حضر قال لبنيه : أي أب كنت لكم ؟ قالوا : خير أب . قال : فإنه لم يبتئر عند الله خيرا - فسرها قتادة لم يدخر - وإن يقدم على الله يعذبه ، فانظروا فإذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني - أو قال : فاسهكوني - ثم إذا كان ريح عاصف فأذروني فيها . فأخذ مواثيقهم على ذلك ، وربي ففعلوا ، فقال الله : كن ، فإذا رجل قائم ، ثم قال : أي عبدي ، ما حملك على ما فعلت ؟ قال : مخافتك - أو فرق منك - فما تلافاه أن رحمه الله ، فحدثت أبا عثمان فقال : سمعت سلمان غير أنه زاد : فأذروني في البحر ، أو كما حدث .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " مخافتك " . وموسى : هو ابن إسماعيل التبوذكي ، ومعتمر : يروي عن أبيه سليمان التيمي ، وعقبة : بضم العين وسكون القاف ، ابن عبد الغافر أبو نهار الأزدي العوذي البصري ، وأبو سعيد : سعد بن مالك الخدري رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 74 ] والحديث مر في ذكر بني إسرائيل عن أبي الوليد ، ويحيى في التوحيد عن عبد الله بن أبي الأسود ، وأخرجه مسلم في التوبة عن عبيد الله بن معاذ وغيره .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أو قبلكم " شك من الراوي . قوله : " يعني أعطاه مالا " هذا تفسير لقوله " آتاه الله " ، وهو بالمد بمعنى أعطاه وبالقصر بمعنى المجيء . قوله : " مالا " بعد قوله " أعطاه " رواية الكشميهني ، ولا معنى لإعادة لفظ " مالا " ، وفي رواية غيره " أعطاه " بلا ذكر مالا . قوله : " فلما حضر " بضم الحاء وكسر الضاد المعجمة ، أي : فلما حضره أوان الموت . قوله : " خير أب " بالنصب ، أي : كنت خير أب ، وبالرفع أي : أنت خير أب . قوله : " لم يبتئر " من الابتئار ، افتعال من البأر ، بالباء الموحدة والراء ، ومعناه : لم يدخر ولم يخبئ ، هكذا فسره قتادة ، وأصله من البئيرة بمعنى الذخيرة والخبيئة ، قال أهل اللغة : بأرت الشيء وابتأرته إبارة ، وابتئره إذا خبأته ، ووقع في رواية ابن السكن " لم يأبتر " بتقديم الهمزة على الباء الموحدة ، حكاه عياض ، ومعناه : لم يقدم خيرا ، يقال بأرته وابتأرته ، كما ذكرناه ، ووقع في التوحيد في رواية أبي زيد المروزي " لم يبتئر أو لم يبتئز " بالشك في الزاي أو الراء ، وفي رواية الجرجاني بنون بدل الباء الموحدة والزاي ، قيل : كلاهما غير صحيح ، ويروى في غير البخاري " يبتهر " بالهاء بدل الهمزة وبالراء ، ويمتئر بالميم بدل الباء الموحدة وبالراء .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وإن يقدم على الله يعذبه " كذا هنا بسكون القاف وفتح الدال من القدوم ، وهو بالجزم على الشرطية ، وكذا " يعذبه " بالجزم ; لأنه جزاء ، والمعنى أنه إن بعث يوم القيامة على هيئته يعرفه كل أحد ، فإذا صار رمادا مبثوثا في الماء أو الريح لعله يخفى ، ووقع في حديث حذيفة عند الإسماعيلي من رواية أبي خيثمة عن جرير بسند حديث الباب " فإنه إن يقدر علي ربي لا يغفر لي " وكذا في حديث أبي هريرة " لئن قدر الله علي " قيل : كيف غفر لهذا الذي أوصى بهذه الوصية وقد جهل قدرة الله على إحيائه ؟ وأجيب بأن الناس اختلفوا في تأويل هذا الحديث فقيل : أما عفو الله عما كان منه في أيام صحته من المعاصي فلندمه عليها وتوبته منها عند موته ، ولذلك أمر ولده بإحراقه وتذريته في البر والبحر خشية من عذاب ربه ، والندم توبة ، قلت : فيه نظر ، لأن كون الندم توبة إنما هو لهذه الأمة ، ألا يرى ما حكى الله عن قابيل بقوله : فأصبح من النادمين فلم يكن ندمه توبة ، وقيل : إن معنى قوله " إن قدر الله علي " : القدرة التي هي العجز ، وإنه كان عنده أنه إذا أحرق وذري أعجز ربه عن إحيائه ، فهو على أنه غفر له لجهله بالقدرة ; لأنه لم يكن تقدم في ذلك الزمان أنه لا يغفر الشرك به ، وليس في العقل دليل على أن ذلك غير جائز في حكمة الله تعالى ، وإنما نقول : لا يجوز أن يغفر الشرك بعد نزول قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به وأما جواز غفران الله ذلك فلفضله الأعم وغنائه الأتم ، لأنه لا يضره كفر كافر ، ولا ينفعه إيمان مؤمن . وقيل : معنى " إن قدر الله علي " : إن ضيق علي ، كقوله تعالى : ومن قدر عليه رزقه أي : ضيق ، ولم يرد بذلك وصف خالقه بالعجز عن إعادته . وقيل : إنما غفر له لأنه غلب على فهمه من الجزع الذي كان لحقه من خوف الله وعذابه فيعذر ، ومثل هذا إنما يكون كفرا ممن يقصد به الكفر ، وهو يعقل ما يقول . وقيل : غفر له بأصل توحيده الذي لا تضر معه معصية ، وعزي ذلك إلى المرجئة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فأحرقوني " وفي رواية حذيفة الذي أخرجه البخاري في بني إسرائيل " فاجمعوا لي حطبا كثيرا ، ثم أوروا نارا حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فخذوها واطحنوها " . قوله : " فاسحقوني " من السحق ، وهو دق الشيء ناعما ، أو قال " فاسهكوني " شك من الراوي من السهك قالوا : السحق والسهك ، بمعنى واحد ، وقيل : السهك دونه ، وهو أن يفت الشيء أو يدق قطعا صغارا . قوله : " فاذروني " يصح أن يقرأ موصول الألف من ذرأت الشيء فرقته ، ويصح أن يكون أصله من الثلاثي المزيد فيه فيقطع الهمزة من قولهم : أذرت العين دمعها وأذريت الرجل عن فرسه أي رميته . وقال ابن التين : قرأناه بقطع الهمزة . قوله : " فأخذ مواثيقهم " جمع ميثاق ، وهو العهد . قوله : " وربي " هو على القسم عن المخبر بذلك عنهم لتصحيح خبره ، ويحتمل أن يكون حكاية الميثاق الذي أخذه ، أي : قال لمن أوصاه قل : وربي لأفعلن ذلك . وفي صحيح مسلم " فأخذ منهم ميثاقا ففعلوا ذلك وربي " ، قال القاضي عياض : وفي بعض نسخه " ففعلوا ذلك وذري " قال : فإن صحت هذه الرواية فهي وجه الكلام ، ولعل الذال سقطت لبعض النساخ وتابعه الباقون . وقال الكرماني : ولفظ البخاري يحتمل أن يكون بصيغة الماضي من التربية ، أي : ربي أخذ المواثيق والمبايعات ، لكنه موقوف على الرواية ، وقال بعضهم : وأبعد الكرماني ، ثم نقل ذلك عنه ، قلت : ما جزم بذلك حتى يقال فيه : وأبعد ، وإنما قيد بصحة الرواية [ ص: 75 ] مع الاحتمال الذي ذكره . قوله : " فإذا رجل قائم " وقع المبتدأ هنا نكرة لأن وقوعه هنا بعد إذا المفاجأة من المخصصات ، كما في قولك : خرجت فإذا سبع . قوله : " أي عبدي " يعني : يا عبدي . قوله : " أو فرق " هو شك من الراوي ، وهو بفتح الفاء والراء وبالقاف الخوف . قوله : " فما تلافاه أن رحمه " ، كلمة " ما " موصولة ، وكلمة " أن " مصدرية ، أي : الذي تلافاه ، أي : تداركه ، بأن رحمه أي : بالرحمة ، والضمير المنصوب في تلافاه يرجع إلى عمل الرجل ، ويجوز أن يكون ما نافية ، وكلمة الاستثناء محذوفة على مذهب من يجوز حذفها ، أي : ما تلافاه إلا أن رحمه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فحدثت أبا عثمان " قال الكرماني : القائل بحدثت قتادة ، وقال بعضهم : هو سليمان والد المعتمر . قلت : الذي يظهر أن قول الكرماني هو الصواب ، فلينظر فيه ، وأبو عثمان : هو عبد الرحمن بن مل النهدي ، بالنون المفتوحة . قوله : " فقال " أي : أبو عثمان " سمعت هذا من سلمان " أي : الفارسي ، وحذف المسموع منه الذي استثنى منه ما ذكر ، والتقدير : سمعت سلمان يحدث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمثل هذا الحديث ، غير أنه زاد قوله : " أو كما حدث " شك من الراوي ، يشير به إلى أنه معنى حديث أبي سعيد لا بلفظه كله .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية