الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  659 82 - حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، سمعت أبا هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أما يخشى أحدكم، أو ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن فيه وعيدا شديدا وتهديدا ومرتكب الشيء الذي فيه الوعيد آثم بلا نزاع.

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله وهم أربعة:

                                                                                                                                                                                  الأول: حجاج بن منهال السلمي الأنماطي البصري أبو محمد، وقد مر ذكره في باب ما جاء: إن الأعمال بالنية في آخر كتاب الإيمان، الثاني: شعبة بن الحجاج، الثالث: محمد بن زياد بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف الجمحي المدني سكن البصرة، الرابع: أبو هريرة رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه السماع، وفيه القول في ثلاثة مواضع، وفيه أن رواته ما بين بصري وواسطي ومدني، وفيه أنه من رباعيات البخاري .

                                                                                                                                                                                  ذكر من أخرجه غيره:

                                                                                                                                                                                  هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة، ولكن بهذا الإسناد أخرجه مسلم عن عبد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة، وأخرجه أبو داود عن حفص بن عمرو عن شعبة، وأخرجه الترمذي عن قتيبة عن حماد بن زيد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه النسائي عن قتيبة عن حماد بن زيد عن محمد بن زياد، وأخرجه ابن ماجه عن حميد بن مسعدة، وسويد بن سعيد عن حماد بن زيد عن محمد بن زياد، وروى الطبراني في (معجمه الكبير) من حديث موسى بن عبد الله بن يزيد عن أبيه أنه كان يصلي بالناس هاهنا، وكان الناس يضعون رؤوسهم قبل أن يضع رأسه ويرفعون رؤوسهم قبل أن يرفع رأسه، فلما انصرف التفت إليهم، فقال: يا أيها الناس لم تأثمون وتؤثمون؟ صليت بكم صلاة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لا أخرم عنها، وروى أيضا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما يأمن الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يعود رأسه رأس كلب، ولينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم، وروى أيضا في (الأوسط) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: صلى رجل خلف النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فجعل يركع قبل أن يركع ويرفع قبل أن يرفع، فلما قضى النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - صلاته، قال: من الفاعل هذا؟ قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا خداج الصلاة، إذا ركع الإمام فاركعوا وإذا رفع فارفعوا .

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: ( أما يخشى أحدكم )، وفي رواية الكشميهني : أولا يخشى، قلت: اختلفت ألفاظ هذا الحديث، فرواية مسلم والترمذي وابن ماجه : أما يخشى الذي يرفع رأسه؟ وفي رواية النسائي : ألا يخشى؟ وفي رواية البخاري وأبي داود من رواية شعبة : أما يخشى أو ألا يخشى؟ بالشك قال الكرماني : الشك من أبي هريرة، وكلمة أما بتخفيف الميم حرف استفتاح مثل ألا وأصلها ما النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، وهو هاهنا استفهام توبيخ وإنكار. قوله: ( إذا رفع رأسه قبل الإمام )، زاد ابن خزيمة من رواية حماد بن زيد عن محمد بن زياد في صلاته، وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر الذي يرفع رأسه والإمام ساجد. قوله: ( أن يجعل الله رأسه رأس حمار )، وهاهنا أيضا اختلفت ألفاظ الحديث، ففي رواية يونس بن عبيد عند مسلم : ما يأمن الذي يرفع رأسه في صلاته أن يحول الله صورته في صورة حمار، وفي رواية الربيع بن مسلم عند مسلم: أن يجعل الله وجهه وجه حمار، وفي رواية لابن حبان من رواية محمد بن ميسرة عن محمد بن زياد : أن يحول الله رأسه رأس كلب، وفي رواية الطبراني في (الأوسط) من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة [ ص: 224 ] عن أبي هريرة مرفوعا: ما يؤمن من يرفع رأسه قبل الإمام ويضعه، وفي رواية الدارقطني من رواية مليح السعدي عن أبي هريرة قال: الذي يرفع رأسه قبل الإمام ويخفضه قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان . ورواه البزار أيضا كما ذكرنا، وذكرنا الآن أيضا عن ابن مسعود : أن يعود رأسه رأس كلب . وهو موقوف ولكنه لا يدرك بالرأي فحكمه حكم المرفوع. قوله: ( أو يجعل صورته صورة حمار )، قال الكرماني أيضا: الشك فيه من أبي هريرة، وقال بعضهم: الشك من شعبة ثم أكد هذا بقوله: فقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة وابن خزيمة من رواية حماد بن زيد، ومسلم من رواية يونس بن عبيد، والربيع بن مسلم كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد، قلت: لا يلزم من إخراجهم بغير تردد أن لا يخرج غيرهم بغير تردد، وإذا كان الأمر كذلك يحتمل أن يكون التردد من شعبة أو من محمد بن زياد أو من أبي هريرة، فمن ادعى تعيين واحد منهم فعليه البيان، وأما اختلافهم في الرأس أو الصورة ففي رواية حماد بن زيد وحماد بن سلمة : رأس، وفي رواية يونس : صورة، وفي رواية الربيع : وجه، وقال بعضهم: الظاهر أنه من تصرف الرواة، قلت: كيف يكون من تصرفهم ولكل واحد من هذه الألفاظ معنى في اللغة يغاير معنى الآخر؟ ! أما الرأس فإنه اسم لعضو يشتمل على الناصية والقفاء والفودين، والصورة الهيئة، ويقال: صورته حسنة؛ أي هيئته وشكله، ويطلق على الصفة أيضا، يقال: صورة الأمر كذا وكذا أي صفته، ويطلق على الوجه أيضا، يقال: صورته حسنة؛ أي وجهه، ويطلق على شكل الشيء وعلى الخلقة، والوجه اسم لما يواجهه الإنسان وهو من منبت الناصية إلى أسفل الذقن طولا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا، والظاهر أن هذا الاختلاف من اختلاف تعدد القضية، ورواة الرأس أكثر، وعليه العمدة، وقال عياض: هذه الروايات متفقة لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه، وفيه نظر لأن الوجه خلاف الرأس لغة وشرعا.

                                                                                                                                                                                  ثم العلماء تكلموا في معنى أن يجعل رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار، قال الكرماني : قيل: هذا مجاز عن البلادة لأن المسخ لا يجوز في هذه الأمة، وقال القاضي أبو بكر بن العربي : ليس قوله " أن يحول الله رأسه رأس حمار في هذه الأمة بموجود فإن المسخ فيها مأمون، وإنما المراد به معنى الحمار من قلة البصيرة وكثرة العناد؛ فإن من شأنه إذا قيد حزن وإذا حبس طفر لا يطيع قائدا ولا يعين حابسا، قلت: في كلامهما إن المسخ لا يجوز في هذه الأمة وإن المسخ فيها مأمون نظر، وقد روي وقوع ذلك في آخر الزمان عن جماعة من الصحابة، فرواه الترمذي من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف .. الحديث، وروي أيضا عن علي، وأبي هريرة، وعمران بن حصين، وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسهل بن سعد، وروى أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة، وروى عبد الله بن أحمد في (زوائد المسند) من حديث عبادة بن الصامت وابن عباس، وروى أبو يعلى والبزار من حديث أنس، وروى الطبراني أيضا من حديث عبد الله بن بشر وسعيد بن أبي راشد، وروى الطبراني أيضا في (الصغير) من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس أيضا: ولكن أسانيدها لا تخلو من مقال، وقال الشيخ تقي الدين : إن الحديث يقتضي تغيير الصورة الظاهرة، ويحتمل أن يرجع إلى أمر معنوي مجازا فإن الحمار موصوف بالبلادة، قال: ويستعار هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فروض الصلاة ومتابعة الإمام، وربما يرجح هذا المجاز بأن التحويل في الصورة الظاهرة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام، وقد بينا أن الحديث لا يدل على وقوع ذلك، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك بكون فعله صالحا لأن يقع ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، قلت: وإن سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يؤخر العقاب إلى وقت يريده الله تعالى كما وقفنا في بعض الكتب، وسمعنا من الثقات أن جماعة من الشيعة الذين يسبون الصحابة قد تحولت صورتهم إلى صورة حمار وخنزير عند موتهم، وكذلك جرى على من عق والديه وخاطبهما باسم الحمار أو الخنزير أو الكلب.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، وفيه الوعيد المذكور لمن رفع رأسه قبل الإمام، ونظر ابن مسعود إلى من سبق إمامه، فقال: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت . وعن ابن عمر نحوه، وأمره بالإعادة، والجمهور على عدم الإعادة، وقال القرطبي : من خالف الإمام فقد خالف [ ص: 225 ] سنة المأموم، وأجزأته صلاته عند جميع العلماء. وفي (المغني) لابن قدامة : وإن سبق إمامه فعليه أن يرفع ليأتي بذلك مؤتما بالإمام، فإن لم يفعل حتى لحقه الإمام سهوا أو جهلا فلا شيء عليه، فإن سبقه عالما بتحريمه، فقال أحمد في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لقوله: ( أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام ).. الحديث، ولو كان له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب، وقال ابن بزيزة : استدل بظاهره قوم لا يعقلون على جواز التناسخ، قلت: هذا مذهب مردود، وقد بنوه على دعاوى باطلة بغير دليل وبرهان.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية