الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  6540 21 - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن حصين عن فلان قال: تنازع أبو عبد الرحمن وحبان بن عطية، فقال أبو عبد الرحمن لحبان: لقد علمت ما الذي جرأ صاحبك على الدماء، يعني عليا، قال: ما هو لا أبا لك؟ قال: شيء سمعته يقوله. قال: ما هو؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير وأبا مرثد، وكلنا فارس قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة حاج. قال أبو سلمة: هكذا قال أبو عوانة: حاج، فإن فيها امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأتوني بها، فانطلقنا على أفراسنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسير على بعير لها، وكان كتب إلى أهل مكة بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقلنا: أين الكتاب الذي معك؟ قالت: ما معي كتاب. فأنخنا بها بعيرها، فابتغينا في رحلها، فما وجدنا شيئا، فقال صاحباي: ما نرى معها كتابا، قال: فقلت: لقد علمنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حلف علي: والذي يحلف به لتخرجن الكتاب أو لأجردنك، فأهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الصحيفة، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ياحاطب، ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله ما لي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله، ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع الله [ ص: 93 ] به عن أهله وماله، قال: صدق، لا تقولوا له إلا خيرا. قال: فعاد عمر فقال: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضرب عنقه. قال: أوليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة، فاغرورقت عيناه، فقال: الله ورسوله أعلم.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عذره في تأويله، وشهد بصدقه وأخرجه عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة الوضاح اليشكري عن حصين ، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين، ابن عبد الرحمن السلمي عن فلان، قال الكرماني : هو سعد بن عبيدة ، بضم العين المهملة مصغرا، أبو حمزة ، بالحاء المهملة وبالزاي، ختن أبي عبد الرحمن السلمي ، انتهى. قلت: وقع فلان هنا مبهما، وسمي في رواية هشام في الجهاد، وعبد الله بن إدريس في الاستئذان: سعد بن عبيدة ، وكأن الكرماني ما اطلع عليه ذاهلا حتى قال: قيل سعد بن عبيدة ، وسعد تابعي روى عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر والبراء رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " تنازع أبو عبد الرحمن " هو السلمي المذكور، وصرح به في رواية عفان .

                                                                                                                                                                                  قوله: " وحبان " بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة، وحكى أبو علي الجياني أن بعض رواة أبي ذر ضبطه بفتح أوله، قال بعضهم: وهو وهم. قلت: حكى المزي أن ابن ماكولا ذكره بالكسر، وأن ابن الفرضي ضبطه بالفتح، وكذا ذكره في المطالع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لقد علمت ما الذي " كذا في رواية الكشميهني ، وكذا في أكثر الطرق، وفي رواية الحموي والمستملي : من الذي، ويروى: لقد علمت الذي، بدون (ما) و (من)، ووقع في الجهاد في باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة بلفظ: ما الذي.

                                                                                                                                                                                  قوله: " جرأ " بفتح الجيم وتشديد الراء وبالهمزة، من الجرأة، وهو الإقدام على الشيء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يعني عليا " ، أي يعني بقوله: من الذي جرأ علي بن أبي طالب . قال الكرماني : فإن قلت: كيف جاز نسبة الجرأة على القتل إلى علي رضي الله تعالى عنه؟ قلت: غرضه أنه لما كان جازما بأنه من أهل الجنة، عرف أنه إن وقع منه خطأ فيما اجتهد فيه عفي عنه يوم القيامة قطعا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال ما هو " أي قال حبان ما هو الذي جرأه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لا أبا لك " بفتح الهمزة، جوزوا هذا التركيب تشبيها له بالمضاف، وإلا فالقياس: لا أب لك، وهذا إنما يستعمل دعامة للكلام، ولا يراد به الدعاء عليه حقيقة، وقيل: هي كلمة تقال عند الحث على الشيء، والأصل فيه أن الإنسان إذا وقع في شدة عاونه أبوه، فإذا قيل: لا أبا لك فمعناه: ليس لك أب، جد في الأمر جد من ليس له معاون، ثم أطلق في الاستعمال في موضع استبعاد ما يصدر من المخاطب من قول أو فعل.

                                                                                                                                                                                  قوله: "شيء " مرفوع لأنه فاعل (جرأ).

                                                                                                                                                                                  قوله: "يقوله " جملة وقعت صفة لقوله (شيء)، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى (شيء)، وكذا بالضمير في رواية المستملي ، وفي رواية الكشميهني : يقول، بحذف الضمير.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال ما هو " أي قال حبان المذكور: ما هو؟ أي ذلك الشيء.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال بعثني " أي قال أبو عبد الرحمن ، قال علي : بعثني، وسقطت (قال) الثانية على عادتهم بإسقاطها في الخط، والتقدير: قال أبو عبد الرحمن قال علي رضي الله تعالى عنه: بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والزبير " بالنصب عطف على نون الوقاية، لأن محلها النصب، وفي مثل هذا العطف خلاف بين البصريين والكوفيين .

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأبا مرثد " بفتح الميم وسكون الراء وفتح الثاء المثلثة، واسمه كناز بفتح الكاف وتشديد النون وبالزاي، الغنوي بالغين المعجمة، وتقدم في غزوة الفتح من طريق عبيد الله بن أبي رافع عن علي ذكر المقداد بدل أبي مرثد ، ومضى في الجهاد في باب إذا اضطروا الزبير ، وفي باب الجاسوس: بعثني أنا والزبير والمقداد ، قال الكرماني : ذكر القليل لا ينفي الكثير.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فارس " أي راكب فرس.

                                                                                                                                                                                  قوله: " روضة حاج " بالحاء المهملة وبالجيم، وهو موضع قريب من مكة ، قاله في التوضيح، وقال النووي : وهي بقرب المدينة ، وقال الواقدي : هي بالقرب من ذي الحليفة ، وقيل: من المدينة نحو اثني عشر ميلا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال أبو سلمة " هو موسى بن إسماعيل شيخ البخاري المذكور فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " هكذا قال أبو عوانة " هو أحد الرواة، " حاج " بالحاء المهملة والجيم، قال النووي : قال العلماء: هو غلط من أبي عوانة [ ص: 94 ] وكأنه اشتبه عليه بمكان آخر يقال فيه ذات حاج بالحاء المهملة والجيم، وهو موضع بين المدينة والشام يسلكه الحاج، وزعم السهيلي أن هشيما كان يقولها أيضا حاج بالحاء المهملة والجيم، وهو وهم أيضا، والأصح خاخ بمعجمتين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "تسير " من السير، جملة وقعت حالا من المرأة التي معها الكتاب، وفي رواية محمد بن فضيل عن حصين : تشتد من الاشتداد بالشين المعجمة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فابتغينا " أي طلبنا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال صاحباي " وهما الزبير ، وأبو مرثد ، ويروى: فقال صاحبي بالإفراد، باعتبار أن واحدا منهما قال.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لقد علمنا " وفي رواية الكشميهني : لقد علمتما بالخطاب لصاحبيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم حلف علي : والذي يحلف به " أي قال: والله، لأن الذي يحلف به هو لفظة الله .

                                                                                                                                                                                  قوله: " أو لأجردنك " أي أنزع ثيابك حتى تكوني عريانة، وكلمة (أو) هنا بمعنى إلى، وينتصب المضارع بعدها بـــــــ (أن) مضمرة نحو قوله: لألزمنك أو تقضيني حقي، أي إلى أن تقضيني حقي، وفي رواية ابن فضيل : أو لأقتلنك، ويروى: لأجزرنك بجيم، ثم زاي، أي أصيرك مثل الجزور إذا ذبحت، ويروى: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، قال ابن التين : كذا وقع بكسر القاف وفتح الياء آخر الحروف وتشديد النون، قال: والياء زائدة، وقال الكرماني : هو بكسر الياء وفتحها، كذا جاء في الرواية بإثبات الياء، والقواعد التصريفية تقتضي حذفها، لكن إذا صحت الرواية فلتحمل على أنها وقعت على طريق المشاكلة لــــــــ"تخرجن"، وهذا توجيه الكسرة، وأما الفتحة فتحمل على خطاب المؤنثة الغائبة على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، قال: ويجوز فتح القاف على البناء للمجهول، فعلى هذا فترفع (الثياب)، واختلف: هل كانت هذه المرأة مسلمة أو على دين قومها؟ فالأكثر على الثاني، فقد عدت فيمن أهدر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دمهم يوم الفتح، وكانت مغنية، فأهدر دمها لأنها كانت تغني بهجائه وهجاء أصحابه، وذكر الواقدي أنها من مزينة ، وأنها من أهل العرج بفتح العين المهملة وسكون الراء وبالجيم، وهي قرية بين مكة والمدينة ، وذكر الثعلبي أنها كانت مولاة أبي صيفي بن عمرو بن هاشم بن عبد مناف ، وقيل: عمران بدل عمرو ، وقيل: مولاة بني أسد بن عبد العزى ، وقيل: كانت من موالي العباس ، وفي تفسير مقاتل بن حبان : أن حاطبا أعطاها عشرة دنانير، وكساها برداء، وقال الواحدي أنها قدمت المدينة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: جئت مسلمة؟ قالت: لا، ولكن احتجت. قال: فأين أنت عن شباب قريش ؟ وكانت مغنية، قالت: ما طلبت من بعد وقعة بدر شيئا من ذلك، فكساها وحملها، فأتاها حاطب ، فكتب معها كتابا إلى أهل مكة ، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريد أن يغزو فخذوا حذركم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فأهوت " أي مالت.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إلى حجزتها " بضم الحاء المهملة وسكون الجيم وبالزاي، وهي معقد الإزار.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وهي محتجزة بكساء " من احتجز بإزاره: شده على وسطه، وقد مر في باب الجاسوس أنها أخرجته من عقاصها: أي من شعورها، قال الكرماني : لعلها أخرجته من الحجزة أولا وأخفته في الشعر، ثم اضطرت إلى الإخراج منه أو بالعكس.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فأتوا بها " أي بالصحيفة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويروى" فأتوا بها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " فإذا فيه " أي في الكتاب: من حاطب إلى ناس من المشركين من أهل مكة سماهم الواقدي في روايته: سهيل بن عمرو العامري ، وعكرمة بن أبي جهل المخزومي ، وصفوان بن أمية الجمحي .

                                                                                                                                                                                  قوله: " ما لي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله " ، وفي رواية المستملي " ما بي أن لا أكون " بالباء الموحدة بدل اللام، وفي رواية عبد الرحمن بن حاطب " أما والله ما ارتبت منذ أسلمت في الله "، وفي رواية ابن عباس قال" والله إني لناصح لله ورسوله ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " يد " أي منة أدفع بها عن أهلي ومالي، وفي رواية أعشى ثقيف : والله ورسوله أحب إلي من أهلي ومالي "، وفي رواية عبد الرحمن بن حاطب " ولكني كنت امرأ غريبا فيكم، وكان لي بنون وإخوة بمكة ، فكتبت لعلي أدفع عنهم ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " هنالك " ، وفي رواية المستملي : هناك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال صدق " أي قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " صدق حاطب " فيحتمل أن يكون قد عرف صدقه من كلامه، ويحتمل أن يكون بالوحي.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فعاد عمر " أي إلى كلامه الأول في حاطب ، وفيه إشكال: حيث عاد إلى كلامه الأول بعد أن صدق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حاطبا . وأجيب عنه بأنه ظن أن صدقه في عذره لا يدفع عنه ما وجب عليه من القتل.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فلأضرب عنقه " قال الكرماني : فلأضرب بالنصب، وهو في تأويل مصدر محذوف، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي اتركني فتركك للضرب، وبالجزم [ ص: 95 ] والفاء زائدة على مذهب الأخفش ، واللام للأمر، ويجوز فتحها على لغة سليم ، وتسكينها مع الفاء عند قريش ، وأمر المتكلم نفسه باللام فصيح قليل الاستعمال، وبالرفع: أي فوالله لأضرب.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أوليس من أهل بدر " ، وفي رواية الحارث : " أليس قد شهد بدرا "، وهو استفهام تقرير، وجزم في رواية عبيد الله بن أبي رافع أنه شهد بدرا ، وزاد الحارث : فقال عمر رضي الله تعالى عنه: بلى، ولكنه نكث، وظاهر أعداءك عليك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لعل الله اطلع عليهم " أي على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة . قال العلماء: معناه الغفران لهم في الآخرة، وإلا فلو توجه على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا، ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد قال: وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مسطحا الحد، وكان بدريا، وفي التوضيح: وقد اعترض بعض أهل البدع بهذا الحديث على قضية مسطح حين جلد في قذف عائشة رضي الله تعالى عنها وكان بدريا، قالوا: وكان ينبغي أن لا يحد كحاطب ، والجواب أن المراد: غفر لهم عقاب الآخرة دون الدنيا، وقد قام الإجماع على أن كل من ارتكب من أهل بدر ذنبا بينه وبين الله فيه حد، وبينه وبين الخلق من القذف أو الجراح أو القتل، فإن عليه فيه الحد والقصاص، وليس يدل عفو العاصي في الدنيا، وإقامة الحدود عليه على أنه يعاقب في الآخرة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في ماعز والغامدية : " لقد تاب توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم " .

                                                                                                                                                                                  قوله: " فاغرورقت عيناه " أي عينا عمر رضي الله تعالى عنه، وهو من الاغريراق.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية