الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  713 134 - حدثنا موسى قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر قال: قلنا لخباب: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بم كنتم تعرفون ذاك؟ قال: باضطراب لحيته.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " باضطراب لحيته "، وذلك لأنهم كانوا يراقبونه في الصلاة حتى كانوا يرون اضطراب لحيته من جنبيه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم ستة: الأول: موسى بن إسماعيل المنقري أبو سلمة التبوذكي، وقد تكرر ذكره.

                                                                                                                                                                                  الثاني: عبد الواحد بن زياد بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف.

                                                                                                                                                                                  الثالث: سليمان الأعمش .

                                                                                                                                                                                  الرابع: عمارة بضم العين المهملة وتخفيف الميم ابن عمير تصغير عمر، التيمي ابن تيم الله الكوفي .

                                                                                                                                                                                  الخامس: أبو معمر بفتح الميمين عبد الله بن سخبرة بفتح السين المهملة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الباء الموحدة، وبالراء الأزدي .

                                                                                                                                                                                  السادس: خباب بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الباء الموحدة، وفي آخره باء أخرى ابن الأرت بفتح الهمزة وبالراء، وتشديد التاء المثناة من فوق أبو عبد الله التيمي، لحقه سبي في الجاهلية، فاشترته امرأة خزاعية، فأعتقته، وهو من السابقين إلى الإسلام، سادس ستة المعذبين في الله على إسلامهم، شهد المشاهد، وروي له اثنان وثلاثون حديثا، وللبخاري خمسة، مات سنة سبع وثلاثين بالكوفة، وهو أول من صلى عليه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه منصرفه من صفين.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه القول في أربعة مواضع بصيغة الإفراد من الماضي، وبصيغة الجمع في موضع، وفيه أن رواته ما بين بصري وكوفي، وفيه عن عمارة، وفي رواية حفص بن غياث، عن الأعمش حدثنا عمارة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه، ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الصلاة، عن محمد بن يوسف، عن سفيان الثوري، وعن عمر بن حفص، عن أبيه، وعن قتيبة، عن جرير، وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد، عن عبد الواحد، وأخرجه النسائي فيه عن هناد بن السري، عن أبي معاوية، وأخرجه ابن ماجه فيه، عن علي بن محمد، عن وكيع ستتهم عن الأعمش، عن عمارة بن عمير عنه به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " أكان " الهمزة فيه للاستفهام والاستخبار. قوله: " يقرأ " قال الكرماني : يقرأ أي غير الفاتحة؛ إذ لا شك في قراءتها.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا تحكم ولا دليل عليه، فظاهر الكلام أن سؤالهم عن خباب عن قراءة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الظهر والعصر، عن مطلق القراءة؛ لأنهم ربما كانوا يظنون أن لا قراءة فيهما لعدم جهر القراءة فيهما، ألا ترى ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الوارث، عن موسى بن سالم، حدثنا عبد الله بن عبيد الله، قال: " دخلت [ ص: 305 ] على ابن عباس في شباب من بني هاشم، فقلنا لشاب: سل ابن عباس أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا لا، فقيل له: إن ناسا يقرؤون في الظهر والعصر، فقال: فلعله كان يقرأ في نفسه، فقال خمشا هذه شر من الأولى، كان عبدا مأمورا بلغ ما أرسل به " الحديث.

                                                                                                                                                                                  وروى الطحاوي من حديث عكرمة : " عن ابن عباس أنه قيل له: إن ناسا يقرؤون في الظهر والعصر؟ فقال: لو كان لي عليهم سبيل لقلعت ألسنتهم، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ، وكانت قراءته لنا قراءة، وسكوته لنا سكوتا "، وأخرجه البزار عن عكرمة : " أن رجلا سأل ابن عباس عن القراءة في الظهر والعصر، فقال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلوات فنقرأ فيما قرأ فيه، ونسكت فيما سكت، فقلت: كان يقرأ في نفسه، فغضب، وقال: أتتهمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم ".

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أحمد، ولفظه عن عكرمة قال: قال ابن عباس : " قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر أن يقرأ فيه، وسكت فيما أمر أن يسكت فيه " وما كان ربك نسيا و لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة

                                                                                                                                                                                  وإلى هذه الأحاديث ذهب قوم، منهم: سويد بن غفلة، والحسن بن صالح، وإبراهيم ابن علية، ومالك في رواية، وقالوا: لا قراءة في الظهر والعصر أصلا.

                                                                                                                                                                                  (قلت): فإذا كان الأمر كذلك كيف يقول الكرماني : " يقرأ ": أي غير الفاتحة، ويأتي بالتقييد في موضع الإطلاق من غير دليل يقوم به، ولكن لا بدع في هذا منه؛ فإنه لم يطلع على أحاديث هذا الباب، ولا على اختلاف السلف فيه، وقصده مجرد تمشية مذهبه؛ نصرة لإمامه من غير برهان، ونذكر عن قريب الكلام فيه مستوفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال: نعم ": أي نعم كان يقرأ. قوله: " فقلنا " بالفاء العاطفة، ويروى " قلنا " بدون الفاء قوله: " بم كنتم " أصله بما، فحذفت الألف تخفيفا. قوله: " تعرفون ذلك "، ويروى " ذاك "، وفي رواية الطحاوي : " بأي شيء كنتم تعرفون ذلك "، وفي لفظ للبخاري : " بأي شيء كنتم تعلمون قراءته "، وفي رواية ابن أبي شيبة : " بأي شيء كنتم تعرفون قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " باضطراب لحيته " بكسر اللام: أي بحركتها، وقد جاء في بعض الروايات: " لحييه " بفتح اللام وبالياءين أولاهما مفتوحة والأخرى ساكنة وهي تثنية لحي بفتح اللام وسكون الحاء، وهو منبت اللحية من الإنسان، وفي المحكم: اللحية اسم لجمع من الشعر ما ينبت على الخدين والذقن، واللحي الذي ينبت عليه العارض، والجمع ألح ولحى وألحاء، وفي الجامع للقزاز يقال: لحية بكسر اللام، ولحية بفتح اللام، والجمع لحى ولحى.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) استدل بالحديث المذكور على وجوب القراءة في الظهر والعصر، قال الطحاوي رحمه الله بعد أن روى هذا الحديث: فلم يكن في هذا دليل عندنا على أنه قد كان يقرأ فيهما؛ لأنه قد يجوز أن تضطرب لحيته بتسبيح يسبحه، أو دعاء، ولكن الذي حقق القراءة منه في هاتين الصلاتين ما قد رويناه من الآثار التي في الفصل الذي قبل هذا.

                                                                                                                                                                                  (قلت): أراد بها ما رواه عن أبي قتادة، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن سمرة، وعمران بن حصين، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وعلي .

                                                                                                                                                                                  أما حديث أبي قتادة فأخرجه البخاري على ما يأتي عن قريب، وكذلك حديث جابر بن سمرة .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه مسلم عنه: " أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية - أو قال: نصف ذلك - وفي العصر الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك ".

                                                                                                                                                                                  وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه مسلم عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف قال: أيكم قرأ، أو أيكم القارئ؟ قال رجل: أنا. قال قد علمت أن بعضكم خالجنيها ": أي نازعني قراءتها.

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أبي هريرة فأخرجه النسائي، عن عطاء قال: قال أبو هريرة : " كل صلاة يقرأ فيها فما أسمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم ".

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أنس فأخرجه النسائي من حديث عبد الله بن عبيد قال: سمعت أبا بكر بن النضر قال: كنا بالطف عند أنس، فصلى بهم الظهر، فلما فرغ قال: إني صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر فقرأ لنا بهاتين السورتين في الركعتين بسبح اسم ربك الأعلى، وبهل أتاك حديث الغاشية "، وهذه الأحاديث قد حققت القراءة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، وانتفى ما روي عن ابن عباس الذي ذكرناه عن قريب؛ لأن غيره من الصحابة قد تحققوا قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر.

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي في جواب هذا: إنه وهم من ابن عباس؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ في الظهر والعصر من طرق كثيرة، كحديث قتادة وخباب بن الأرت وغيرهما.

                                                                                                                                                                                  (قلت): عندي جواب أحسن من هذا مع رعاية الأدب في حق ابن عباس، وهو أن ابن عباس استند في هذا [ ص: 306 ] أولا على قوله تعالى: أقيموا الصلاة وهو مجمل، بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله، ثم قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، والمروي هو الأفعال دون الأقوال، فكانت الصلاة اسما للفعل في حق الظهر والعصر، والفعل والقول في حق غيرهما، ولم يبلغ ابن عباس قراءته صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فلذلك قال في جوابه عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب : فلما بلغه خبر قراءته صلى الله عليه وسلم - فيهما، وثبت عنده رجع عن ذلك القول، والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر ".

                                                                                                                                                                                  (ومما يستفاد منه) ما ترجم عليه البخاري وهو رفع البصر إلى الإمام، وقد اختلف العلماء في ذلك أعني في رفع البصر إلى أي موضع في صلاته، فقال أصحابنا، والشافعي، وأبو ثور: إلى موضع سجوده، وروي ذلك عن إبراهيم، وابن سيرين، وفي التوضيح: واستثنى بعض أصحابنا إذا كان مشاهدا للكعبة فإنه ينظر إليها، وقال القاضي حسين : ينظر إلى موضع سجوده في حال قيامه، وإلى قدميه في ركوعه، وإلى أنفه في سجوده، وإلى حجره في تشهده؛ لأن امتداد النظر يلهي، فإذا قصر كان أولى، وقال مالك : ينظر أمامه، وليس عليه أن ينظر إلى موضع سجوده وهو قائم، قال: وأحاديث الباب تشهد له؛ لأنهم لو لم ينظروا إليه عليه الصلاة والسلام - ما رأوا تأخره حين عرضت عليه جهنم، ولا رأوا اضطراب لحيته، ولا استدلوا بذلك على قراءته، ولا نقلوا ذلك، ولا رأوا تناوله فيما تناوله في قبلته حين مثلت له الجنة، ومثل هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما جعل الإمام ليؤتم به "؛ لأن الائتمام لا يكون إلا بمراعاة حركاته في خفضه ورفعه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية