الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  722 143 - حدثنا موسى، قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه ويثنون عليه معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة ، يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا، فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، قال: وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة: في قوله: "فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا نزاع في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته دائما، وهو يدل على وجوب القراءة، لكن التطابق إنما يكون في الجزء الأول من الترجمة، وهو قوله: وجوب القراءة للإمام، وقوله: "ما أخرم عنها" أي: عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجزء الخامس والسادس من الترجمة، وهو الجهر فيما يجهر والمخافتة فيما يخافت، ولا نزاع أنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر في محل الجهر ويخفي في محل الإخفاء، وهذا القول يدل أيضا على الجزء الثالث والرابع؛ لأنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يترك القراءة في الصلاة في الحضر ولا في السفر؛ لأنه لم ينقل تركه أصلا، ولم يبق من الترجمة إلا الجزء الثاني وهو قراءة المأموم، فلا دلالة في الحديث عليه، وبهذا التقدير يندفع اعتراض الإسماعيلي وغيره، حيث قالوا: لا دلالة في حديث سعد على وجوب القراءة، وإنما فيه تخفيفها في الأخريين عن الأوليين، وقال ابن بطال: وجه دخول حديث سعد في هذا الباب أنه لما قال: أركد وأخف، علم أنه لا يترك [ ص: 5 ] القراءة في شيء من صلاته، وقد قال إنها مثل صلاته صلى الله عليه وسلم، قلت: هذا قريب مما ذكرنا ولكن لا يدل على وجوب القراءة على المأموم، وقال الكرماني : فإن قلت: ما وجه تعلقه بالترجمة؟ قلت: وجهه أن ركود الإمام يدل على قراءته عادة فهو دال على بعض الترجمة، انتهى. قلت: ليس الأمر كذلك بل يدل على كل الترجمة ما خلا قوله: "والمأموم" فمن أمعن النظر فيما قالوا وفيما قلت عرف أن الوجه هو الذي ذكرته على ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  ذكر الرجال المذكورين فيه : الأول : موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي ، الثاني : أبو عوانة بفتح العين المهملة واسمه الوضاح بفتح الواو وتشديد الضاد المعجمة وبعد الألف حاء مهملة ، ابن عبد الله اليشكري ، مات سنة ست وسبعين ومائة في ربيع الأول ، الثالث : عبد الملك بن عمير مصغر عمرو بن سويد الكوفي ، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، مات سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة ، وكان على قضاء الكوفة ، الرابع : جابر بن سمرة بن جنادة العامري السوائي يكنى أبا خالد ، وقيل أبو عبد الله، له ولأبيه صحبة ، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وستة وأربعون حديثا ، اتفقا على حديثين وانفرد مسلم بستة وعشرين ، وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص ، سكن الكوفة وابتنى بها دارا ، وتوفي في أيام بشر بن مروان على الكوفة بها ، وقيل : توفي سنة ست وستين أيام المختار ، الخامس : سعد بن أبي وقاص ، واسم أبي وقاص مالك بن أهيب ويقال وهيب بن عبد مناف أبو إسحاق الزهري ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة ، وحمل على رقاب الناس إلى المدينة ودفن بالبقيع سنة خمس وخمسين وهو المشهور ، وهو آخر العشرة المبشرة وفاة ، واختلف في عمره فأنهى ما قيل ثلاث وثمانون سنة ، السادس : عمر بن الخطاب ، السابع : عمار بن ياسر العبسي أبو اليقظان ، قتل بصفين سنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وتسعين سنة ، وصلى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، الثامن : أسامة بن قتادة ، التاسع : الرجل الذي بعثه سعد في قوله : " فأرسل معه رجلا " وهو محمد بن مسلمة بن خالد الحارثي الأنصاري فيما ذكره الطبري وسيف ، وحكى ابن التين أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل في ذلك عبد الله بن أرقم ، وروى ابن سعد من طريق مليح بن عوف قال : بعث عمر محمد بن مسلمة وأمرني بالمسير معه وكنت دليلا بالبلاد ، فهؤلاء ثلاثة أنفس ، وقوله في الحديث : " أو بعث معه رجالا " وأقل الجمع ثلاثة ، فيحتمل أن يكون هؤلاء الرجال هم هؤلاء الثلاثة .

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري في الصلاة أيضا عن سليمان بن حرب ، عن شعبة ، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي ، وعن موسى بن إسماعيل وأبي النعمان ، فروايتهما كلاهما عن أبي عوانة ، وأخرجه مسلم فيه عن محمد بن المثنى ، عن ابن مهدي ، عن شعبة به ، وعن أبي كريب ، عن محمد بن بشر ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن عمير وأبي عون الثقفي به ، وعن يحيى بن يحيى عن هشيم ، وعن قتيبة وإسحاق بن إبراهيم ، كلاهما عن جرير ، عن عبد الملك بن عمير به ، وأخرجه أبو داود فيه عن حفص بن عمر ، عن شعبة به ، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي ، عن يحيى ، عن شعبة به ، وعن حماد بن إسماعيل بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن داود الطائي ، عن عبد الملك بن عمير في معناه .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " شكا أهل الكوفة “ أي بعض أهل الكوفة لأن كلهم ما شكوه ، وفيه مجاز من إطلاق اسم الكل على البعض ، وفي رواية زائدة عن عبد الملك في صحيح أبي عوانة : " ناس من أهل الكوفة " وكذا في مسند إسحاق بن راهويه ، عن جرير ، عن عبد الملك وسمى الطبري وسيف ، عنهم جماعة وهم : الجراح بن سنان وقبيصة وأربد الأسديون ، وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الملك ، عن جابر بن سمرة قال : " كنت جالسا عند عمر رضي الله تعالى عنه إذ جاء أهل الكوفة يشكون إليه سعد بن أبي وقاص حتى قالوا إنه لا يحسن الصلاة " وأما الكوفة فذكر الكلبي أنها إنما سميت الكوفة بجبل صغير احتطت عليه مهرة فهم حوله ، وكان مرتفعا فسهلوه اليوم ، وكان يقال له كوفان ، وكان عاشر كسرى يجلس عليه ، وفي الزاهر لابن الأنباري : سميت كوفة لاستدارتها أخذا من قول العرب رأيت كوفانا ، وكوفانا بضم الكاف وفتحها للرملة المستديرة ، ويقال : سميت كوفة لاجتماع الناس بها من قولهم : قد تكوف الرجل يتكوف تكوفا إذا ركب بعضه بعضا ، ويقال : الكوفة أخذت من الكوفان ، يقال : هم في كوفان أي في بلاء وشر ، ويقال : سميت كوفة لأنها قطعة من البلاد من قول العرب قد أعطيت [ ص: 6 ] فلانا كيفة أي قطعة ، يقال : كفت أكيف كيفا إذا قطعت ، فالكوفة فعلة من هذا ، والأصل فيها كيفة فلما سكنت الياء وانضم ما قبلها جعلت واوا ، وقال قطرب : يقال القوم في كوفان أي محرقون في أمر يجمعهم ، وقال أبو القاسم الزجاجي : سميت كوفة بموضعها من الأرض وذلك أن كل رملة يخالطها حصباء تسمى كوفة ، وقال آخرون : سميت كوفة لأن جبل سانيد يحيط بها كالكفاف عليها ، وقال ابن حوقل : الكوفة على الفرات وبناؤها كبناء البصرة ، مصرها سعد بن أبي وقاص ، وهي خطط لقبائل العرب ، وهي خراج بخلاف البصرة ; لأن ضياع الكوفة قديمة جاهلية ، وضياع البصرة إحياء موات في الإسلام ، وفي معجم ما استعجم سميت الكوفة لأن سعدا لما افتتح القادسية نزل المسلمون الأكار فإذا هم أليق ، فخرج فارتاد لهم موضع الكوفة وقال : تكوفوا في هذا الموضع أي اجتمعوا ، وقال محمد بن سهل : كانت الكوفة منازل نوح عليه الصلاة والسلام وهو الذي بنى مسجدها ، وقال اليعقوبي في كتابه : هي مدينة العراق الكبرى والمصر الأعظم وقبة الإسلام ودار هجرة المسلمين ، وهي أول مدينة اختط المسلمون بالعراق في سنة أربع عشرة ، وهي على معظم الفرات ومنه تشرب أهلها ، ومن بغداد إليها ثلاثون فرسخا ، وفي تاريخ الطبري : لما احتوى المسلمون الأنبار كتب سعد إلى عمر رضي الله تعالى عنه يخبره بذلك ، فكتب إليه : انظر فلاة إلى جانب البحر ، فارتاد المسلمون بها منزلا ، فبعث سعد رجلا من الأنصار يقال له الحارث بن سلمة ويقال عثمان بن الحنيف ، فارتاد لهم موضعا من الكوفة ، وفي الصحاح : الكوفة الرملة الحمراء وبها سميت الكوفة . قوله : " عمارا " هو عمار بن ياسر ، وقد ذكرناه ، وقال خليفة : استعمل عمارا على الصلاة ، وابن مسعود على بيت المال ، وعثمان بن الحنيف على مساحة الأرض . قوله : " فشكوا " قال بعضهم : ليست هذه الفاء عاطفة على فعزله بل هي تفسيرية إذ الشكوى كانت سابقة على العزل ، قلت : الفاء إذا كانت تفسيرية لا تخرج عن كونها عاطفة ، وليست الفاء هاهنا عطفا على فعزله ، وإنما هي عطف على قوله : " شكا أهل الكوفة " عطف تفسير ، وقوله : “ فعزله واستعمل عليهم عمارا " جملة معترضة . قوله : " حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي " هذا يدل على أن شكواهم كانت متعددة ، منها قصة الصلاة وصرح في رواية " فقال عمر : لقد شكوك في كل شيء حتى في الصلاة " ومنها ما ذكره ابن سعد وسيف أنهم زعموا أنه حابى في بيع خمس باعه ، وأنه صنع على داره بابا مبوبا من خشب ، وكان السوق مجاورا له فكان يتأذى بأصواتهم ، فزعموا أنه قال لينقطع الصويت ، ومنها ما ذكره سيف أنهم زعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج في السرايا ، وقال الزبير بن بكار في كتاب النسب : رفع أهل الكوفة عليه أشياء كشفها عمر فوجدها باطلة ، ويشهد لذلك قول عمر في وصيته فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه أمر سعد بن أبي وقاص على قتال الفرس في سنة أربع عشرة ، ففتح الله تعالى العراق على يديه ، ثم اختط الكوفة سنة سبع عشرة ، واستمر عليها أميرا إلى سنة إحدى وعشرين في قول خليفة بن خياط ، وعند الطبري سنة عشرين فوقع له مع أهل الكوفة ما وقع . قوله : " فأرسل إليه فقال : يا أبا إسحاق " فيه حذف تقديره فوصل إليه أي الرسول فجاء إلى عمر ، وأبو إسحاق كنية سعد كني بذلك بأكبر أولاده ، وهذا تعظيم من عمر له ، وفيه دلالة على أنه لم تقدح فيه الشكوى عنده . قوله : " أما أنا والله " كلمة أما بالتشديد وهي للتقسيم وفيه مقدر لأنه لا بد لها من قسيم تقديره أما هم فقالوا ما قالوا وأما أنا فأقول إني كنت كذا ، ولفظة والله لتأكيد الخبر في نفس السامع ، وكان القياس أن يؤخر لفظة والله عن الفاء ولكن يجوز تقديم بعض ما هو في حيزها عليها ، والقسم ليس أجنبيا وجواب القسم محذوف ، وقوله : “ فإني كنت " يدل عليه ويروى إني كنت بدون الفاء . قوله : " صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " بالنصب أي صلاة مثل صلاته صلى الله عليه وسلم . قوله : " ما أخرم " بفتح الهمزة وكسر الراء أي لا أنقص وما أقطع ، وحكى ابن التين عن بعض الرواة أنه بضم أوله ، وقال بعضهم : جعله من الرباعي ، قلت : ليس من الرباعي بل هو من مزيد الثلاثي لأن الاصطلاح هكذا عند أهل الصرف . قوله : " صلاة العشاء " كذا هو هاهنا بالإفراد ، وفي الباب الذي بعده صلاتي العشي بالتثنية والعشي بكسر الشين وتشديد الياء كذا هو في رواية الأكثرين في الموضعين ، وفي رواية الكشميهني : " بعد صلاتي العشاء " والمراد من صلاتي العشاء الظهر والعصر ولا يبعد أن يقال صلاتي العشاء بالمد ويكون المراد المغرب والعشاء ، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي عوانة بلفظ : " صلاتي العشاء " ووجه تخصيص صلاة العشاء بالذكر من بين الصلوات لاحتمال كون شكواهم [ ص: 7 ] منه في هذه الصلوات أو لأنه لما لم يهمل شيئا من هذه التي وقتها وقت الاستراحة ففي غيرها بالطريق الأولى ، قاله الكرماني ; ولكن يقال مثله في الظهر لأنه وقت القائلة والعصر لأنه وقت المعاش والصبح لأنه وقت لذة النوم ، والأقرب أن يقال الوجه هو أن شكواهم كانت في صلاتي العشي فلذلك خصصهما بالذكر . قوله : " فأركد " بضم الكاف أي أسكن وأمكث في الأوليين أي الركعتين الأوليين ، يقال ركد يركد ركودا إذا ثبت ودام ، ومنه الماء الراكد أي الساكن الدائم ، وركدت السفينة سكنت من الاضطراب ، وركد الريح سكن ، وفي رواية لمسلم : " وأمد في الأوليين " بدل فأركد وهو بمعناه أي أطول وأمد ، ثم الظاهر أن مده وتطويله كان بكثرة القراءة ، ولا يقال كان ذلك بما هو أعم من القراءة كالركوع والسجود لأن القيام ليس محلا للدعاء ولا لمجرد السكوت ، وإنما هو محل القراءة . قوله : " وأخف " بضم الهمزة وكسر الخاء المعجمة من باب الإفعال ، يقال أخف الرجل في أمره يخف فهو مخف ، وفي الكشميهني أحذف بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وكسر الذال المعجمة أي أحذف التطويل ، وليس المراد حذف أصل القراءة وفيه خلاف نذكره إن شاء الله تعالى ، وكذا وقع في رواية الدارمي عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري بلفظ أحذف ، ووقع في رواية الإسماعيلي من رواية محمد بن كثير عن شعبة أحذم بالميم موضع الفاء من حذم يحذم حذما إذا أسرع ، وأصل الحذم الإسراع في كل شيء ، ومنه حديث عمر رضي الله تعالى عنه : " إذا أقمت فاحذم “ أي أسرع . قوله : " في الأخريين “ أي الركعتين الأخريين . قوله : " ذاك الظن " جملة اسمية من المبتدأ والخبر ، ويروى ذلك الظن ، وقوله : “ بك " يتعلق بالظن أي هذا الذي تقوله يا أبا إسحاق هو الذي يظن بك ، وفي رواية مسعر عن عبد الملك وأبي عون معا ، فقال سعد : أتعلمني الأعراب الصلاة ، أخرجه مسلم ، وفيه دلالة على أن الذي شكوه كانوا جهالا لأن الجهالة فيهم غالبة ، والأعراب بفتح الهمزة ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة ، والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس ولا واحد له من لفظه وسواء أقام بالبادية أو المدن . قوله : " فأرسل معه رجلا " أي أرسل عمر مع سعد رجلا ، وقد ذكرنا من هو الرجل ، قال الكرماني : إن كان سعد غائبا فكيف خاطبه بقوله : " ذاك الظن بك " وإن كان حاضرا فكيف قال فأرسل إليه ثم أجاب بقوله كان غائبا أولا ثم حضر ، انتهى ، قلت : لفظ الحديث : " فأرسل معه " كما ذكرنا ولا يتأتى ما ذكره إلا إذا كان اللفظ فأرسل إليه وليس كذلك . قوله : " أو رجالا " كذا هو بالشك وفي رواية ابن عيينة فبعث عمر رجلين وقد ذكرناه . قوله : " يسأل عنه أهل الكوفة " أي يسأل عن سعد أهل الكوفة كيف حاله بينهم ويروى : " فسأل عنه " ووجه ذلك أنه معطوف على مقدر تقديره فأرسل رجلا إلى الكوفة فانتهى إليها فسأل عنه ، ومثل هذه الفاء تسمى فاء الفصيحة وأما وجهه على قوله : " يسأل عنه " بلفظ المضارع الغائب فهو من الأحوال المقدرة المنتظرة . قوله : " ولم يدع “ أي لم يترك الرجل المبعوث المرسل مسجدا من مساجد الكوفة إلا سأل عنه ، أي عن سعد . قوله : " ويثنون معروفا " أي والحال أن أهل الكوفة يثنون عليه معروفا وهو كل أمر خير ، وفي رواية ابن عيينة فكلهم يثني عليه خيرا . قوله : " لبني عبس " بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وفي آخره سين مهملة وهو قبيلة كبيرة من قيس . قوله : " أبا سعدة " بفتح السين وسكون العين المهملتين وفي آخرها هاء ، وفي رواية سيف أنشد الله رجلا يعلم حقا إلا قال، قوله : " أما إذا نشدتنا " كلمة أما بالتشديد للتفصيل والتقسيم والقسيم محذوف تقديره أما غيري إذا أنشدتنا أي حين نشدتنا فأثنوا عليه وأما نحن إذا سألتنا فنقول كذا وكذا ، ومعنى نشدتنا أي سألتنا بالله ، يقال نشدتك الله سألتك بالله . قوله : " لا يسير بالسرية " الباء فيه للمصاحبة والسرية بتخفيف الراء وتشديد الياء آخر الحروف قطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو وجمعها السرايا ، سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري أي النفيس ، وقيل سموا ذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية وليس بالوجه لأن لام السر راء وهذه ياء ، وقيل يحتمل أن تكون صفة لمحذوف أي لا يسير بالطريقة السرية أي العادلة ، والأول أولى وأوجه لقوله بعد ذلك لا يعدل ، والأصل عدم التكرار ، والتأسيس أولى من التأكيد ، ويؤيده رواية جرير وسفيان بلفظ : " ولا ينفر في السرية " قوله : " في القضية “ أي الحكومة والقضاء ، وفي رواية جرير وسيف في الرعية . قوله : " قال سعد " وفي رواية جرير : " فغضب سعد " وحكى ابن التين أنه قال [ ص: 8 ] له أعلي تشجع . قوله : " أما والله " بتخفيف الميم حرف استفتاح . قوله : " لأدعون " اللام فيه للتأكيد ، وكذلك نون التأكيد المثقلة ، أي لأدعون عليك بثلاث دعوات . قوله : " قام " أي في هذه القضية . قوله : " وسمعة " بضم السين أي ليراه الناس ويسمعون ويشهدون ذلك عنه ليكون له بذلك ذكر . قوله : " فأطل عمره " مراده أن يطول في غاية بحيث يرد إلى أسفل السافلين ويصير إلى أرذل العمر ويضعف قواه وينتكس في الخلق محنة لا نعمة ، أو مراده طول العمر مع طول الفقر وهذا أشد ما يكون في الرجل ، ويحصل الجواب بذلك عما قيل الدعاء بطول العمر دعاء له لا دعاء عليه . قوله : " وأطل فقره " وفي رواية جرير : " وشدد فقره " وفي رواية سيف : " وأكثر عياله " وهذه الحالة بئست الحالة وهي طول العمر مع الفقر وكثرة العيال . قوله : " وعرضه للفتن " أي اجعله عرضة للفتن أو أدخله في معرضها أي أظهره بها ، والحكمة في هذه الدعوات الثلاث أن أسامة بن قتادة المذكور نفى عن سعد الفضائل الثلاث التي هي أصول الفضائل وأمهات الكمالات وهي : الشجاعة التي هي القوة الغضبية حيث قال : لا يسير بالسرية ، والعفة التي هي كمال القوة الشهوانية حيث قال : لا يقسم بالسرية ، والحكمة التي هي كمال القوة العقلية حيث قال : ولا يعدل في القضية ، فالثلاثة تتعلق بالنفس والمال والدين ، فقابلسعد هذه الثلاثة بثلاثة مثلها فدعا عليه بما يتعلق بالنفس وهو طول العمر ، وبما يتعلق بالمال وهو الفقر ، وبما يتعلق بالدين وهو الوقوع في الفتن ، ثم اعلم أنه كان يمكن الاعتذار عن قوله : " ولا ينفر بالسرية" بأن يقال رأى المصلحة في إقامته ليرتب مصالح من يغزو ومن يقيم ، أو كان له عذر مانع من ذلك كما وقع له في القادسية ، وكذا يمكن الاعتذار عن قوله : " ولا يقسم بالسوية " بأن يقال إن للإمام تفضيل بعض الناس بشيء يختص به لمصلحة يراها في ذلك ، وأما قوله : " ولا يعدل في القضية " فلا خلاص عنه لأنه سلب عنه العدل بالكلية وذلك قدح في الدين . قوله : " فكان بعد " ويروى : " وكان بعد " بالواو أي كان أسامة بعد ذلك قيل هذا عبد الملك بن عمير بينه جرير في روايته . قوله : " إذا سئل " على صيغة المجهول ، أي إذا سئل أسامة عن حال نفسه ، وفي رواية ابن عيينة إذا قيل له : كيف أنت ؟ يقول : أنا شيخ كبير مفتون ، فقوله : “ شيخ كبير " خبر مبتدأ محذوف وهو أنا كما قلنا ، وكبير صفته ، وقوله : “ مفتون " صفة بعد صفة ، فقوله : “ شيخ كبير " إشارة إلى الدعوة الأولى ، ومفتون إلى الدعوة الثالثة ، وإنما لم يشر إلى الدعوة الثانية وهي قوله : " وأطل فقره " لأنها تدخل في عموم قوله : " أصابتني دعوة سعد " وقد صرح بذلك في رواية الطبراني من طريق أسد بن موسى ، وفي رواية أبي يعلى ، عن إبراهيم بن حجاج كلاهما ، عن أبي عوانة ولفظه : " قال عبد الملك : فأنا رأيته يتعرض للإماء في السكك فإذا سألوه قال : كبير فقير مفتون " وفي رواية إسحاق ، عن جرير : " فافتقر وافتتن " وفي رواية : " فعمي واجتمع عنده عشر بنات ، وكان إذا سمع بحسن المرأة تشبث بها ، فإذا أنكر عليه قال : دعوة المبارك سعد " وفي رواية ابن عيينة : " ولا تكون فتنة إلا وهو فيها " وفي رواية محمد بن جحادة ، عن مصعب بن سعد في هذه القصة قال : وأدرك فتنة المختار فقتل فيها ، وعند ابن عساكر : وكانت فتنة المختار حين غلب على الكوفة من سنة خمس وستين إلى أن قتل سنة سبع وسبعين . قوله : " أصابتني دعوة سعد " إنما أفرد الدعوة مع أنها كانت ثلاث دعوات لأنه أراد بها الجنس فكان سعد معروفا بإجابة الدعوة ، روى الطبراني من طريق الشعبي قال : " قيل لسعد : متى أصبت الدعوة ؟ قال : يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم استجب لسعد ، وروى الترمذي وابن حبان والحاكم من طريق قيس بن أبي حازم ، عن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم استجب لسعد " إذا دعاك . قوله : " من الكبر " بكسر الكاف وفتح الباء الموحدة . قوله : " وإنه " أي وإن أسامة المذكور . قوله : " يغمزهن " أي يعصر أعضاءهن بالأصابع ، وفيه أيضا إشارة إلى الفتنة وإلى الفقر أيضا إذ لو كان غنيا لما احتاج إلى غمز الجواري في الطرق .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستنبط منه وهو على وجوه :

                                                                                                                                                                                  الأول : وجوب القراءة في الركعتين الأوليين من الصلوات وعدم وجوبها في الأخريين ، واستدل بعض أصحابنا لأبي حنيفة ومن قال بقوله في عدم وجوب القراءة في الأخريين بالحديث المذكور ، وعن هذا قال صاحب الهداية وغيره : إن شاء قرأ في الأخريين وإن شاء سبح وإن شاء سكت ، وهو المأثور عن علي وابن مسعود وعائشة إلا أن الأفضل أن يقرأ ، وقال أصحابنا : المصلي مأمور بالقراءة بقوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر منه والأمر [ ص: 9 ] لا يقتضي التكرار فتتعين الركعة الأولى منها ، وإنما أوجبناها في الثانية استدلالا بالأولى لأنهما تتشاكلان من كل وجه ، وقد ذكرنا فيما مضى أن القراءة في الصلاة مستحبة غير واجبة عند جماعة منهم الأحمر وابن علية والحسن بن صالح والأصم ، وروى الشافعي ، عن مالك بإسناده ، عن محمد بن علي بن الحسين : أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها شيئا ، فقيل له فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسن ، قال : فلا بأس . قلنا : هذا منقطع بين محمد بن علي وبين عمر ، وفي إسناده أيضا مجهول ، وفي شرح مسند الشافعي لابن الأثير روى الشعبي ، عن زياد بن عياض ، عن أبي موسى : صلى عمر فلم يقرأ شيئا فأعاد ، قال : ورواه أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عمر أنه صلى المغرب فلم يقرأ فأعاد ، وروى الشافعي فيما بلغه ، عن زيد بن حبان ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الحارث ، عن علي رضي الله تعالى عنه قال له رجل : إني صليت فلم أقرأ ، قال : أتممت الركوع والسجود ، قال : نعم ، قال : تمت صلاتك ، وقال ابن المنذر : روينا عن علي أنه قال : اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين ، وعن مالك رواية شاذة أن الصلاة صحيحة بدون القراءة ، وقال ابن الماجشون : من ترك القراءة في ركعة من الصبح أو أي صلاة كانت تجزيه سجدتا السهو ، وروى البيهقي ، عن زيد بن ثابت: القراءة في الصلاة سنة ، وعن الشافعي في القديم : إن تركها ناسيا صحت صلاته ، وفي المصنف من جهة أبي إسحاق ، عن علي وعبد الله بن مسعود أنهما قالا : اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين ، وعن منصور قال : قلت لإبراهيم : ما نفعل في الركعتين الأخريين من الصلاة ؟ قال : سبح واحمد الله وكبر ، وعن الأسود وإبراهيم والثوري كذلك .

                                                                                                                                                                                  الوجه الثاني استدل بقوله : " أركد في الأوليين " من يرى تطويل الركعتين الأوليين على الأخريين في الصلوات كلها ، وهو مذهب الشافعي حكاه في المهذب وفي الروضة ، الأصح التسوية بينهما وبين الثالثة والرابعة ، قال : والمختار تطويل أولى الفجر على الثانية وغيرها ، وهو قول محمد بن الحسن والثوري وأحمد بن حنبل ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يطيل الركعة الأولى على الثانية إلا في الفجر خاصة ، وفي شرح المهذب لأصحابنا وجهان أشهرهما لا يطول ، والثاني يستحب تطويل القراءة في الأولى قصدا ، وهو الصحيح المختار ، واتفقوا على كراهة إطالة الثانية على الأولى إلا مالكا فإنه قال : لا بأس أن يطيل الثانية على الأولى ، مستدلا بأنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بسورة الأعلى وهي تسع عشرة آية وفي الثانية بالغاشية وهي ست وعشرون آية ، وفي الصلاة لأبي نعيم : حدثنا شيبان ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يطول في الركعة الأولى من الظهر والعصر والفجر ويقصر في الأخرى ، فإن جهر فيما يخافت فيه أو خافت فيما يجهر فيه ، فعند أبي حنيفة يسجد للسهو ، وعن أبي يوسف إن جهر بحرف يسجد ، وفي رواية عنه إن زاد فيما يخافت فيه على ما يسمع أذنيه فتجب سجدتا السهو ، والصحيح أنها تجب إذا جهر مقدار ما تجوز به الصلاة ، وفي المصنف ممن كان يجهر بالقراءة في الظهر والعصر خباب بن الأرت وسعيد بن جبير والأسود وعلقمة ، وعن جابر قال : سألت الشعبي وسالما وقاسما والحكم ومجاهدا وعطاء عن الرجل يجهر في الظهر والعصر فقالوا : ليس عليه سهو ، وعن قتادة أن أنسا جهر فيهما فلم يسجد وكذا فعله سعيد بن العاص إذ كان أميرا بالمدينة ، وفي التلويح ويستدل لأبي حنيفة بما رواه أبو هريرة من كتاب ابن شاهين بسند فيه كلام ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارجموه بالبعر " وفي المصنف عن يحيى بن كثير : " قالوا : يا رسول الله إن هنا قوما يجاهرون بالقراءة بالنهار ، فقال : ارموهم بالبعر " وعن الحسن وأبي عبيدة : صلاة النهار عجماء ، وقال صاحب التلويح : وحديث ابن عباس صلاة النهار عجماء ، وإن كان بعض الأئمة قال هو حديث لا أصل له باطل ، فيشبه أن يكون ليس كذلك لما أسلفناه .

                                                                                                                                                                                  الوجه الثالث : أن الإمام إذا شكا إليه نائبه بعث إليه واستفسره عن ذلك في موضع عمله عن أهل الفضل فيهم ; لأن عمر رضي الله تعالى عنه كان يسأل عنه في المسجد أهل ملازمة الصلاة فيها ، وفيه جواز عزله وإن لم يثبت عليه شيء إذا اقتضت لذلك المصلحة ، قال مالك : قد عزل عمر سعدا وهو أعدل من يأتي بعده إلى يوم القيامة ، والذي يظهر أن عمر عزله حسما لمادة الفتنة ، وفي رواية سيف قال عمر رضي الله تعالى عنه : لولا الاحتياط وأن لا يتقى من أمير مثل سعد لما عزلته ، وقيل : عزله إيثارا [ ص: 10 ] لقربه منه لكونه من أهل الشورى وقيل : إن مذهب عمر أن لا يستمر بالعامل أكثر من أربع سنين ، وقال المازري : اختلفوا هل يعزل القاضي بشكوى الواحد أو الاثنين أو لا يعزل حتى يجتمع الأكثر على الشكوى عنه .

                                                                                                                                                                                  الوجه الرابع : فيه خطاب الرجل بكنيته والاعتذار لمن سمع في حقه كلام يسوؤه .

                                                                                                                                                                                  الوجه الخامس : فيه جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه ، وليس هو من طلب وقوع المعصية ، ولكن من حيث إنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته ، ألا ترى إلى موسى عليه الصلاة والسلام كيف دعا وقال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية