الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  723 144 - حدثنا علي بن عبد الله قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا الزهري ، عن محمود بن الربيع ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة غير ظاهرة : لأن الترجمة أعم من أن تكون القراءة بالفاتحة أو بغيرها ، والحديث يعين الفاتحة ، وقال الكرماني : وفي الحديث دليل على أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمنفرد والمأموم في الصلوات كلها فهو صريح في دلالته على جميع أجزاء الترجمة ، قلت : ليس في الترجمة ذكر الفاتحة حتى يدل على ذلك ، وإنما فيها ذكر القراءة وهي أعم من الفاتحة وغيرها على ما ذكرنا ، فإن قلت : له أن يقول ذكرت القراءة وأردت بها الفاتحة من قبيل إطلاق الكل على الجزء ، قلت : فحينئذ لا يبقى وجه المطابقة بين الترجمة وبين حديث سعد المذكور ، وأيضا فيه ارتكاب المجاز من غير ضرورة .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله : وهم خمسة : الأول : علي بن عبد الله بن جعفر المديني البصري ، الثاني : سفيان بن عيينة ، الثالث : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، الرابع : محمود بن الربيع بفتح الراء ابن سراقة الخزرجي الأنصاري ختن عبادة بن الصامت ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عقل عن النبي عليه الصلاة والسلام مجة مجها في وجهه من دلو في بئر في دارهم وهو ابن خمس سنين ، مر ذكره في باب متى يصح سماع الصغير من كتاب العلم ، الخامس : عبادة بن الصامت بضم العين رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه القول في موضعين ، وفيه أن رواته ما بين بصري ومكي ومدني ، وفيه عن محمود بن الربيع ، وفي رواية الحميدي ، عن سفيان بن عيينة ، حدثنا الزهري ، سمعت محمود بن الربيع ، وفي رواية مسلم ، عن صالح ، عن ابن شهاب أن محمود بن الربيع أخبره أن عبادة بن الصامت أخبره ، وبالتصريح بالإخبار يرد تعليل من أعله بالانقطاع لكون بعض الرواة أدخل بين محمود وعبادة رجلا ، قلت : هذا الرجل هو وهب بن كيسان ، وفي المستدرك قد أدخل بين محمود وعبادة وهب بن كيسان فيما رواه الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن مكحول ، عن محمود ، عن وهب ، وبين الدارقطني في سننه من حديث زيد بن واقد ، عن مكحول أن دخول وهب فيه لأنه كان مؤذن عبادة ، وأن محمودا ووهبا صليا خلفه يوما فذكره ، وقال : رجاله كلهم ثقات ، ورواه أيضا من حديث ابن إسحاق ، عن مكحول به ، وقال : إسناده حسن ، وقاله أيضا البغوي .

                                                                                                                                                                                  ذكر من أخرجه غيره : أخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم ، عن سفيان ، وعن أبي الطاهر وحرملة ، وعن إسحاق بن إبراهيم ، وعن عبد بن حميد ، وعن الحسن الحلواني ، عن الزهري به ، وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة وأبي الطاهر بن السرح ، كلاهما عن سفيان به ، وأخرجه الترمذي فيه ، عن ابن أبي عمر وعلي بن حجر ، كلاهما عن سفيان به ، وأخرجه النسائي في الصلاة ، عن سويد بن نصر ، وفي فضائل القرآن عن محمود بن منصور ، عن سفيان به ، وأخرجه ابن ماجه فيه عن هشام بن عمار وسهل بن أبي سهل وإسحاق بن إسماعيل ، ثلاثتهم عن سفيان به .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستنبط منه : استدل بهذا الحديث عبد الله بن المبارك والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات ، وقال ابن العربي في أحكام القرآن : ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال ، الأول : يقرأ إذا أسر الإمام خاصة ، قاله ابن القاسم ، الثاني : قال ابن وهب وأشهب في كتاب محمد لا يقرأ ، الثالث : قال محمد بن عبد الحكم يقرؤها خلف الإمام ، فإن لم يفعل أجزأه كأنه رأى ذلك مستحبا ، والأصح عندي وجوب قراءتها فيما أسر ، وتحريمها فيما جهر إذا سمع قراءة الإمام ; لما فيه من فرض الإنصات له [ ص: 11 ] والاستماع لقراءته فإن كان منه في مقام بعيد فهو بمنزلة صلاة السر ، وقال أبو عمر في التمهيد : لم يختلف قول مالك أنه من نسيها - أي الفاتحة - في ركعة من صلاة ذات ركعتين أن صلاته تبطل أصلا ولا تجزيه ، واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من الصلاة الرباعية أو الثلاثية ، فقال مرة : يعيد الصلاة ولا تجزيه ، وهو قول ابن القاسم وروايته واختياره من قول مالك ، وقال مرة أخرى : يسجد سجدتي السهو وتجزيه ، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عنه ، قال : وقد قيل إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام ، قال : قال الشافعي وأحمد : لا تجزيه حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة ، وفي المغني وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير أنهم قالوا : لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب ، وعن أحمد أنها لا تتعين وتجزيه قراءة آية من القرآن من أي موضع كان ، وقال ابن حزم في المحلى : وقراءة أم القرآن فرض في كل ركعة من كل صلاة إماما كان أو مأموما ، والفرض والتطوع سواء ، والرجال والنساء سواء ، وقال الثوري والأوزاعي في رواية ، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية ، وعبد الله بن وهب وأشهب : لا يقرأ المؤتم شيئا من القرآن ولا بفاتحة الكتاب في شيء من الصلوات ، وهو قول ابن المسيب في جماعة من التابعين وفقهاء الحجاز والشام على أنه لا يقرأ معه فيما يجهر به وإن لم يسمعه ، ويقرأ فيما يسر فيه الإمام ، ثم وجه استدلال الشافعي ومن معه بهذا الحديث وهو أنه نفى جنس الصلاة عن الجواز إلا بقراءة فاتحة الكتاب .

                                                                                                                                                                                  واستدل أصحابنا بقوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن أمر الله تعالى بقراءة ما تيسر من القرآن مطلقا ، وتقييده بالفاتحة زيادة على مطلق النص ، وذا لا يجوز لأنه نسخ فيكون أدنى ما ينطلق عليه القرآن فرضا لكونه مأمورا به ، وأن القراءة خارج الصلاة ليست بفرض فتعين أن يكون في الصلاة ، فإن قلت : هذه الآية في صلاة الليل وقد نسخت فرضيتها ، وكيف يصح التمسك بها ؟ قلت : ما شرع ركنا لم يصر منسوخا ، وإنما نسخ وجوب قيام الليل دون فرض الصلاة وشرائطها وسائر أحكامها ، ويدل عليه أنه أمر بالقراءة بعد النسخ بقوله : فاقرءوا ما تيسر منه والصلاة بعد النسخ بقيت نفلا ، وكل من شرط الفاتحة في الفرض شرطها في النفل ومن لا فلا ، والآية تنفي اشتراطها في النفل فلا تكون ركنا في الفرض لعدم القائل بالفصل ، فإن قلت : كلمة ما مجملة والحديث معين ومبين ، فالمعين يقضي على المبهم ، قلت : كل من قال بهذا يدل على عدم معرفته بأصول الفقه لأن كلمة ما من ألفاظ العموم يجب العمل بعمومها من غير توقف ، ولو كانت مجملة لما جاز العمل بها قبل البيان كسائر مجملات القرآن ، والحديث معناه أي شيء تيسر ولا يسوغ ذلك فيما ذكروه فيلزم الترك بالقرآن والحديث ، والعام عندنا لا يحمل على الخاص مع ما في الخاص من الاحتمالات ، فإن قلت : هذا الحديث مشهور فإن العلماء تلقته بالقبول فتجوز الزيادة بمثله ، قلت : لا نسلم أنه مشهور لأن المشهور ما تلقاه التابعون بالقبول ، وقد اختلف التابعون في هذه المسألة ، ولئن سلمنا أنه مشهور فالزيادة بالخبر المشهور إنما تجوز إذا كان محكما أما إذا كان محتملا فلا ، وهذا الحديث محتمل لأن مثله يستعمل لنفي الجواز ويستعمل لنفي الفضيلة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " والمراد نفي الفضيلة ، كذا هو ويؤكد هذا التأويل قوله تعالى : إنهم لا أيمان لهم معناه أنه لا أيمان لهم موثوقا بها ، ولم ينف وجود الأيمان منهم رأسا لأنه قال : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وعقب ذلك أيضا بقوله : ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم فثبت أنه لم يرد بقوله : إنهم لا أيمان لهم نفي الأيمان أصلا ، وإنما أراد به ما ذكرناه ، وهذا يدل على إطلاق لفظة لا ، والمراد بها نفي الفضيلة دون الأصل كما ذكرنا من النظير ، وقال بعضهم : ولأن نفي الأجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة ، ولأنه السابق إلى الفهم فيكون أولى ، ويؤيده رواية الإسماعيلي من طريق العباس بن الوليد القرشي أحد شيوخ البخاري ، عن سفيان بلفظ : " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " قلت : لا نسلم قرب نفي الأجزاء إلى نفي الحقيقة لأنه محتمل لنفي الأجزاء ولنفي الفضيلة ، والحمل على نفي الكمال أولى بل يتعين ; لأن نفي الأجزاء يستلزم نفي الكمال فيكون فيه نفي شيئين فتكثر المخالفة فيتعين نفي الكمال ، ودعواه التأييد بهذا الحديث الذي أخرجه الإسماعيلي وابن خزيمة لا يفيده ; لأن هذا ليس له من القوة ما يعارض ما أخرجه الأئمة الستة على أن ابن حبان قد ذكر أنه لم يقل في خبر العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة إلا شعبة ، ولا عنه إلا وهب بن جرير ، وقال هذا القائل أيضا : وقد أخرج ابن خزيمة ، عن محمد بن الوليد القرشي ، عن سفيان حديث الباب ولفظه : " لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب " فلا يمنع أن يقال إن قوله : [ ص: 12 ] " لا صلاة " نفي بمعنى النهي أي لا تصلوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب ، ونظيره ما رواه مسلم من طريق القاسم ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا : " لا صلاة بحضرة الطعام " فإنه في صحيح ابن حبان بلفظ : " لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام " قلت : تنظيره بحديث مسلم غير صحيح لأن لفظ حديث ابن حبان غير نهي بل هو نفي الغائب ، وكلامه يدل على أنه لا يعرف الفرق بين النفي والنهي ، وقال أيضا : استدل من أسقطها - أي من أسقط قراءة الفاتحة - عن المأموم مطلقا - يعني أسر الإمام أو جهر - كالحنفية بحديث : " من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام قراءة له " لكنه حديث ضعيف عند الحفاظ ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني وغيره ، قلت : هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة وهم : جابر بن عبد الله وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم . فحديث جابر أخرجه ابن ماجه عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " من كان له إمام فإن قراءة الإمام قراءة له " وحديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في سننه عنه ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " وحديث أبي سعيد أخرجه الطبراني في الأوسط عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " وحديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني في سننه من حديث سهل بن صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا نحوه سواء ، وحديث ابن عباس أخرجه الدارقطني أيضا عنه ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " يكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر " وحديث أنس أخرجه ابن حبان في كتاب الضعفاء ، عن غنيم بن سالم ، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عنه : " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " فإن قلت : في حديث جابر بن عبد الله جابر الجعفي وهو مجروح كذبه أبو حنيفة وغيره ، وفي حديث أبي سعيد إسماعيل بن عمر بن نجيح وهو ضعيف ، وحديث ابن عمر موقوف ، قال الدارقطني : رفعه وهم ، وحديث ابن عباس عن أحمد هو حديث منكر ، وقال الدارقطني : حديث أبي هريرة لا يصح عن سهيل ، وتفرد به محمد بن عباد وهو ضعيف ، وفي حديث أنس غنيم بن سالم ، قال ابن حبان : هو مخالف الثقات في الروايات فلا تعجبني الرواية عنه ، فكيف الاحتجاج ؟ قلت : أما حديث جابر فله طرق أخرى يشد بعضها بعضا منها طريق صحيح وهو ما رواه محمد بن الحسن في الموطأ ، عن أبي حنيفة قال : أخبرنا الإمام أبو حنيفة ، حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة ، عن عبد الله بن شداد ، عن جابر ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : " من صلى خلف الإمام فإن قراءة الإمام له قراءة " فإن قلت : هذا حديث أخرجه الدارقطني في سننه ثم البيهقي عن أبي حنيفة مقرونا بالحسن بن عمارة ، وعن الحسن بن عمارة وحده بالإسناد المذكور ، ثم قال : هذا الحديث لم يسنده عن جابر بن عبد الله غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة وهما ضعيفان ، وقد رواه سفيان الثوري وأبو الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وأبو خالد الدالاني وسفيان بن عيينة وغيرهم ، عن أبي الحسن موسى بن أبي عائشة ، عن عبد الله بن شداد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وهو الصواب ، قلت : لو تأدب الدارقطني واستحيى لما تلفظ بهذه اللفظة في حق أبي حنيفة فإنه إمام طبق علمه الشرق والغرب ، ولما سئل ابن معين عنه فقال : ثقة مأمون ما سمعت أحدا ضعفه ، هذا شعبة بن الحجاج يكتب إليه أن يحدث وشعبة شعبة ، وقال أيضا : كان أبو حنيفة ثقة من أهل الدين والصدق ولم يتهم بالكذب وكان مأمونا على دين الله تعالى صدوقا في الحديث ، وأثنى عليه جماعة من الأئمة الكبار مثل عبد الله بن المبارك ، ويعد من أصحابه وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وحماد بن زيد وعبد الرزاق ووكيع ، وكان يفتي برأيه والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وآخرون كثيرون ، وقد ظهر لك من هذا تحامل الدارقطني عليه وتعصبه الفاسد وليس له مقدار بالنسبة إلى هؤلاء حتى يتكلم في إمام متقدم على هؤلاء في الدين والتقوى والعلم وبتضعيفه إياه يستحق هو التضعيف ، أفلا يرضى بسكوت أصحابه عنه وقد روى في سننه أحاديث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة ، ولقد روى أحاديث ضعيفة في كتابه الجهر بالبسملة واحتج بها مع علمه بذلك ، حتى إن بعضهم استحلفه على ذلك فقال : ليس فيه حديث صحيح ، ولقد صدق القائل :


                                                                                                                                                                                  حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم

                                                                                                                                                                                  [ ص: 13 ] وأما قوله : “ وقد رواه سفيان الثوري " إلى آخره ، فلا يضرنا لأن الزيادة من الثقة مقبولة ، ولئن سلمنا فالمرسل عندنا حجة ، وجوابنا عن الأحاديث التي قالوا في أسانيدها ضعفاء أن الضعيف يتقوى بالصحيح ويقوي بعضها بعضا ، وأما قوله : " في بعضها " فهو موقوف ، فالموقوف عندنا حجة لأن الصحابة عدول ، ومع هذا روي منع القراءة خلف الإمام عن ثمانين من الصحابة الكبار منهم : المرتضي والعبادلة الثلاثة - وأساميهم عند أهل الحديث - فكان اتفاقهم بمنزلة الإجماع ، فمن هذا قال صاحب الهداية من أصحابنا : وعلى ترك القراءة خلف الإمام إجماع الصحابة ، فسماه إجماعا باعتبار اتفاق الأكثر ، ومثل هذا يسمى إجماعا عندنا ، وذكر الشيخ الإمام عبد الله بن يعقوب الحارني السيذموني في كتاب كشف الأسرار ، عن عبد الله بن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : كان عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينهون عن القراءة خلف الإمام أشد النهي : أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم ، قلت : روى عبد الرزاق في مصنفه ، أخبرني موسى بن عقبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا ينهون عن القراءة خلف الإمام ، وأخرج عن داود بن قيس ، عن محمد بن بجاد بكسر الباء الموحدة وتخفيف الجيم ، عن موسى بن سعد بن أبي وقاص قال : ذكر لي أن سعد بن أبي وقاص قال : وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر ، وأخرج الطحاوي بإسناده عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : من قرأ خلف الإمام فليس على الفطرة ، أراد أنه ليس على شرائط الإسلام ، وقيل : ليس على السنة ، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في مصنفه ، عن أبي ليلى ، عن علي رضي الله تعالى عنه : من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة ، وأخرجه الدارقطني كذلك من طرق ، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه ، عن داود بن قيس ، عن محمد بن عجلان عنه قال : قال علي : من قرأ مع الإمام فليس على الفطرة ، قال : وقال ابن مسعود : ملئ فوه ترابا ، قال : وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر ، وفي التمهيد ثبت عن علي وسعد وزيد بن ثابت أنه لا قراءة مع الإمام لا فيما أسر ولا فيما جهر ، وأخرج عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن أبي منصور ، عن أبي وائل قال : قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن أقرأ خلف الإمام ؟ قال : أنصت للقرآن ، فإن في الصلاة شغلا ، وسيكفيك ذلك الإمام ، وأخرجه الطبراني ، عن عبد الرزاق ، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه نحوه ، عن أبي الأحوص ، عن منصور إلى آخره ، قلت : روى الطحاوي من حديث أبي إبراهيم التيمي قال : سألت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن القراءة خلف الإمام فقال لي : اقرأ ، قلت : وإن كنت خلفك ، قال : وإن كنت خلفي ، قلت : وإن قرأت ، قال : وإن قرأت ، وأخرج أيضا عن مجاهد قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ خلف الإمام في صلاة الظهر من سورة مريم ، ثم أجاب بقوله : وقد روي عن غيرهم من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خلاف ذلك ، ثم روى حديث علي رضي الله تعالى عنه الذي ذكرنا آنفا ، وأخرج حديث ابن مسعود الذي أخرجه عبد الرزاق الذي ذكرناه آنفا ، ثم أخرج عن أبي بكرة : حدثنا أبو داود قال : حدثنا خديج بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : ليت الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه ترابا ، وأخرج أيضا عن يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني حيوة بن شريح ، عن بكر بن عمرو ، عن عبيد الله بن مقسم أنه سأل عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله فقالوا : لا تقرأ خلف الإمام في شيء من الصلوات ، ثم قال الطحاوي : فهؤلاء جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أجمعوا على ترك القراءة خلف الإمام ، وقد وافقهم على ذلك ما قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قدمنا ذكره وأشار به إلى أحاديث الصحابة الذين رووا ترك القراءة خلف الإمام ، فإن قلت : أخرج البيهقي من حديث الجريري ، عن أبي الأزهر قال : سئل ابن عمر عن القراءة خلف الإمام فقال : إني لأستحيي من رب هذه البنية أن أصلي صلاة لا أقرأ فيها بأم القرآن ، قلت : هذه معارضة باطلة فإن إسناد ما ذكره منقطع ، والصحيح عن ابن عمر عدم وجوب القراءة خلف الإمام ، فإن قلت : قوله صلى الله عليه وسلم : " قراءة الإمام قراءة له " معارض لقوله تعالى : فاقرءوا " فلا يجوز تركه بخبر الواحد ، قلت : جعل المقتدي قارئا بقراءة الإمام فلا يلزم الترك ، أو نقول : [ ص: 14 ] إنه خص منه المقتدي الذي أدرك الإمام في الركوع فإنه لا يجب عليه القراءة بالإجماع ، فتجوز الزيادة عليه حينئذ بخبر الواحد ، فإن قلت : قد حمل البيهقي في كتاب المعرفة حديث : " من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له " على ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام ، وعلى قراءة الفاتحة دون السورة ، واستدل عليه بحديث عبادة بن الصامت المذكور ، قلت : ليس في شيء من الأحاديث بيان القراءة خلف الإمام فيما جهر ، والفرق بين الإسرار والجهر لا يصح لأن فيه إسقاط الواجب بمسنون على زعمهم ، قاله إبراهيم بن الحارث ، فإن قلت : أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام " فهذا يدل على الركنية ، قلت : لا نسلم لأن معناه ذات خداج أي نقصان ، بمعنى صلاته ناقصة ، ونحن نقول به لأن النقصان في الوصف لا في الذات ، ولهذا قلنا بوجوب قراءة الفاتحة ، فإن قلت : قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر عام خص منه البعض وهو ما دون الآية ، فإن عند أبي حنيفة أدنى ما يجزئ عن القراءة آية تامة ، لأن ما دون الآية خارج بالإجماع ، فإذا كان كذلك يجوز تخصيصه بخبر الواحد وبالقياس أيضا ، قلت : القرآن يتناول ما هو معجز عرفا فلا يتناول ما دون الآية ، فإن قلت : روى أبو داود ، حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى ، حدثنا جعفر ، عن أبي عثمان ، عن أبي هريرة قال : " أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد " قلت : هذا الحديث روي بوجوه مختلفة ، فرواه البزار ولفظه : " أمر مناديا فنادى " وفي كتاب الصلاة لأبي الحسين أحمد بن محمد الخفاف : لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد ، وفي الصلاة للفريابي : أنادي في المدينة أن لا صلاة إلا بقراءة ، أو بفاتحة الكتاب فما زاد ، وفي لفظ : فناديت أن لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب ، وعند البيهقي : إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد ، وفي الأوسط : في كل صلاة قراءة ولو بفاتحة الكتاب ، وهذه الأحاديث كلها لا تدل على فرضية قراءة الفاتحة ; بل غالبها ينفي الفرضية ، فإن دلت إحدى الروايتين على عدم جواز الصلاة إلا بالفاتحة دلت الأخرى على جوازها بلا فاتحة ، فنعمل بالحديثين ولا نهمل أحدهما بأن نقول بفرضية مطلق القراءة وبوجوب قراءة الفاتحة ، وهذا هو العدل في باب أعمال الأخبار وأيضا في حديث أبي داود المذكور أمران ، أحدهما : أن جعفرا المذكور في سنده هو جعفر بن ميمون فيه كلام حتى صرح النسائي أنه ليس بثقة ، والثاني : أنه يقتضي فرضية ما زاد على الفاتحة ; لأن معنى قوله : " فما زاد " الذي زاد على الفاتحة أو بقراءة الزيادة على الفاتحة ، وليس ذاك مذهب الشافعي ، وقد روى أبو داود من حديث عبادة بن الصامت يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا " قال سفيان : لمن يصلي وحده ، قلت : معناه لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب زائدة على الفاتحة ، وقال سفيان : هو ابن عيينة أحد رواة هذا الحديث ، هذا لمن يصلي وحده ، يعني في حق من يصلي وحده ، وأما المقتدي فإن قراءة الإمام قراءة له ، وكذا قاله الإسماعيلي في روايته إذا كان وحده ، فعلى هذا يكون الحديث مخصوصا في حق المنفرد ، فلم يبق للشافعية بعد هذا دعوى العموم ، وحديث عبادة هذا أخرجه البخاري كما ذكر ، وليس فيه لفظة فصاعدا ، فإن قلت : قال البخاري في كتاب القراءة خلف الإمام ، وقال معمر عن الزهري فصاعدا وعامة الثقات لم تتابع معمرا في قوله فصاعدا ، قلت : هذا سفيان بن عيينة قد تابع معمرا في هذه اللفظة ، وكذلك تابعه فيها صالح والأوزاعي وعبد الرحمن بن إسحاق وغيرهم ، كلهم عن الزهري ، فإن قلت : أخرج أبو داود ، عن القعنبي ، عن مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن " الحديث ، وقد ذكرناه عن قريب ، وفيه : " فقلت : يا أبا هريرة إني أكون أحيانا وراء الإمام ، قال : فغمز ذراعي وقال : اقرأ بها في نفسك يا فارسي " الحديث والخطاب لأبي السائب ، وقال النووي : وهذا يؤيد وجوب قراءة الفاتحة على المأموم ، ومعناه اقرأها سرا بحيث تسمع نفسك ، قلت : هذا لا يدل على الوجوب لأن المأموم مأمور بالإنصات لقوله تعالى : وأنصتوا والإنصات الإصغاء والقراءة سرا بحيث يسمع نفسه تخل بالإنصات ، فحينئذ يحمل ذلك على أن المراد تدبر ذلك وتفكره ، ولئن سلمنا أن المراد هو القراءة حقيقة فلا نسلم أنه يدل على الوجوب على أن بعض أصحابنا استحسنوا ذلك على سبيل الاحتياط في جميع الصلوات ، ومنهم من استحسنها في غير الجهرية ، ومنهم من رأى ذلك [ ص: 15 ] إذا كان الإمام لحانا ، ومما يؤيد ما ذهب إليه أصحابنا ما أخرجه أبو داود من حديث أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما جعل الإمام ليؤتم به " بهذا الخبر وزاد : " وإذا قرأ فأنصتوا " رواه النسائي وابن ماجه والطحاوي ، وهذا حجة صريحة في أن المقتدي لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإمام أصلا على الشافعي في جميع الصلوات ، وعلى مالك في الظهر والعصر ، فإن قلت : قد قال أبو داود عقيب إخراجه هذا الحديث وهذه الزيادة يعني : " إذا قرأ فأنصتوا " ليست بمحفوظة ، الوهم من أبي خالد عندنا وأبو خالد أحد رواته ، واسمه سليمان بن حيان بفتح الحاء وتشديد الياء آخر الحروف ، وهو من رجال الجماعة ، وقال البيهقي في المعرفة : أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة ، وأسند عن ابن معين في سننه الكبير ، قال في حديث ابن عجلان وزاد : " وإذا قرأ فأنصتوا " ليس بشيء ، وكذا قال الدارقطني في حديث أبي موسى الأشعري : " وإذا قرأ الإمام فأنصتوا " وقد رواه أصحاب قتادة الحفاظ عنه منهم هشام الدستوائي وسعيد وشعبة وهمام وأبو عوانة وأبان وعدي بن أبي عمارة ، ولم يقل واحد منهم وإذا قرأ فأنصتوا ، قال : وإجماعهم يدل على وهمه ، وعن أبي حاتم ليست هذه الكلمة بمحفوظة ، إنما هي من تخاليط ابن عجلان ، قلت : لي في هذا كله نظر ، أما ابن عجلان فإنه وثقه العجلي ، وفي الكمال : ثقة كثير الحديث ، وقال الدارقطني : إن مسلما أخرج له في صحيحه ، قلت : أخرج له الجماعة البخاري مستشهدا وهو محمد بن عجلان المدني فهذا زيادة ثقة فتقبل ، وقد تابعه عليهما خارجة بن مصعب ويحيى بن العلاء ، كما ذكره البيهقي في سننه الكبير ، وأما أبو خالد فقد أخرج له الجماعة كما ذكرنا ، وقال إسحاق بن إبراهيم : سألت وكيعا عنه فقال : أبو خالد ممن يسأل عنه ، وقال أبو هشام الرافعي : حدثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين ، ومع هذا لم ينفرد بهذه الزيادة ، وقد أخرج النسائي كما ذكرنا هذا الحديث بهذه الزيادة من طريق محمد بن سعد الأنصاري ، ومحمد بن سعد ثقة وثقه يحيى بن معين ، وقد تابع ابن سعد هذا أبا خالد وتابعه أيضا إسماعيل بن أبان ، كما أخرجه البيهقي في سننه ، وقد صحح مسلم هذه الزيادة من حديث أبي موسى الأشعري ، ومن حديث أبي هريرة ، وقال أبو بكر لمسلم : حديث أبي هريرة ، يعني إذا قرأ فأنصتوا ، قال : هو عندي صحيح ، فقال : لم لا تضعه هاهنا ، قال : ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا ، وإنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه ، وتوجد هذه الزيادة أيضا في بعض نسخ مسلم عقيب الحديث المذكور ، وفي التمهيد بسنده عن ابن حنبل أنه صحح الحديثين ، يعني حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة ، والعجب من أبي داود أنه نسب الوهم إلى أبي خالد وهو ثقة بلا شك ، ولم ينسب إلى ابن عجلان ، وفيه كلام ، ومع هذا أيضا فابن خزيمة صحح حديث ابن عجلان .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية