الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  739 161 - حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا : يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم : قل أوحي إلي وإنما أوحي إليه قول الجن .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 35 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 35 ] مطابقته للترجمة في قوله : " وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له " .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله : وهم خمسة : الأول : مسدد ، الثاني : أبو عوانة الوضاح اليشكري ، الثالث : جعفر بن أبي وحشية ، وكنيته أبو بشر بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة ، واسم أبي وحشية إياس ، الرابع : سعيد بن جبير ، الخامس : عبد الله بن عباس .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في موضعين ، وفيه أن رواته ما بين بصري وواسطي وكوفي .

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في التفسير ، عن موسى بن إسماعيل ، وأخرجه مسلم في الصلاة ، عن شيبان بن فروخ ، وأخرجه الترمذي في التفسير ، عن عبد الله بن حميد ، وأخرجه النسائي فيه عن أبي داود الحراني ، عن أبي الوليد مقطعا ، وعن عمرو بن منصور .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه . قوله : " في طائفة " ذكره الجوهري في باب طوف ، وقال : الطائفة من الشيء قطعة منه ، وقوله تعالى : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين قال ابن عباس : الواحد فما فوقه ، وقال مجاهد : الطائفة الرجل الواحد إلى الألف ، وقال عطاء : أقلها رجلان . قوله : " عامدين “ أي قاصدين ، منصوب على الحال ، وفي الفصيح في باب فعلت بفتح العين : عمدت للشيء أعمد إذا قصدت إليه ، وفي شرحه للزاهد عن ثعلب : أعمد عمدا إذا قصدت له خيرا كان أو شرا ، ومن العرب من يقول : عمدت أعمد عمدا وعمادا وعمدة بمعناه ، وفي الموعب لابن التياني ، عن الأصمعي : لا يقال عمدت بكسر الميم ، وفي شرح الزاهد وغيره : عمده وعمد إليه وعمد له عمودا ، وزعم ابن درستويه أنه لا يتعدى إلا بحرف جر . قوله : " في سوق عكاظ " قال ابن السكيت : السوق أنثى وربما ذكرت والتأنيث أغلب لأنهم يحقرونها سويقة ، وفي المحكم : والجمع أسواق والسوقة لغة فيه ، وفي الجامع اشتقاقها من سوق الناس إليها بضائعهم ، وقال السفاقسي : سميت بذلك لقيام الناس فيها على سوقهم . قوله : " وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر " فإن قلت : هذه القضية كانت قبل الإسراء ، وصلاة الفجر فرضت مع بقية الصلوات ليلة الإسراء ، قلت : الراجح أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث ، فتكون القضية بعد الإسراء ، أو نقول : إنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قبل الإسراء قطعا ، وكذلك أصحابه ، ولكن اختلف هل افترض قبل الصلوات الخمس شيء من الصلوات أم لا فيصح على قول من قال إن الفرض أولا كان قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، فيكون إطلاق صلاة الفجر بهذا الاعتبار لا لكونها إحدى الخمس المفروضة ليلة الإسراء . قوله : " عكاظ " بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وفي آخره طاء معجمة ، قال الأزهري : هو اسم سوق من أسواق العرب وموسم من مواسم الجاهلية كانت العرب تجتمع به كل سنة يتفاخرون بها ، ويحضرها الشعراء فيتناشدون ما أحدثوا من الشعر ، وعن الليث سمي عكاظ عكاظا لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا بالمفاخرة أي يدعك ، وقال غيره : عكظ الرجل دابته يعكظها عكظا إذا حبسها وتعكظ القوم تعكظا إذا تحبسوا ينظرون في أمرهم ، وبه سميت عكاظ ، وفي الموعب كانوا يجتمعون بها في كل سنة فيقيمون بها الأشهر الحرم ، وكان فيها وقائع مرة بعد أخرى ، وفي المحكم قال اللحياني : أهل الحجاز يجرونها وتميم لا يجرون بها ، وفي الصحاح : هي ناحية مكة ، كانوا يجتمعون بها في كل سنة فيقيمون شهرا ، وقال ابن حبيب : هي صحراء مستوية لا علم فيها ولا جبل إلا ما كان من النصب التي كانت بها في الجاهلية وبها من دماء البدن كالأرخام العظام ، وقيل هي ماء على نجد قريبة من عرفات ، وقيل وراء قرن المنازل بمرحلة من طريق صنعاء ، وهي من عمل الطائف على بريد منها ، وأرضها لبني نضر ، واتخذت سوقا بعد الفيل بخمس عشرة سنة ، وتركت عام الحرورية بمكة مع المختار بن عوف سنة تسع وعشرين ومائة إلى هلم جرا ، وقال أبو عبيدة : عكاظ فيما بين نخلة والطائف إلى موضع يقال له الفتق ، به أموال ونخيل لثقيف ، بينه وبين الطائف عشرة أميال ، فكان سوق عكاظ يقوم صبيح هلال ذي القعدة عشرين يوما ، وسوق مجنة يقوم بعده عشرة أيام ، وسوق ذي المجاز يقوم هلال ذي الحجة ، وزعم الرشاطي أنها كانت تقام نصف ذي القعدة إلى آخر الشهر ، فإذا أهل ذو الحجة أتوا ذا المجاز وهي قريب من عكاظ ، فيقوم سوقها إلى يوم التروية فيسيرون إلى منى ، وقال ابن الكلبي : لم يكن بعكاظ عشور ولا خفارة . قوله : " وقد حيل " بكسر الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف ، يقال حال الشيء بيني وبينك أي حجز ، وأصل مصدره واوي ، يعني من الحول ، وأصل حيل [ ص: 36 ] حول ، نقلت كسرة الواو إلى ما قبلها بعد حذف الضمة منها فصار حيل . قوله : " بين الشياطين " جمع شيطان ، قال الزمخشري : وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة ، والدليل على أصالتها قولهم شيطان ، واشتقاقه من شطن إذا بعد لبعده عن الصلاح والخير ، أو من شاط إذا بطل ، إذا جعلت نونه زائدة ، ومن أسمائه الباطل ، والشياطين العصاة من الجن ، وهم من ولد إبليس ، والمراد أعتاهم وأغواهم ، وهم أعوان إبليس ينفذون بين يديه في الإغواء ، وقال الجوهري : كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان ، وقال القاضي أبو يعلى : الشياطين مردة الجن وأشرارهم ، ولذلك يقال للشرير مارد وشيطان ، وقال تعالى : شيطان مريد وقال أبو عمر بن عبد البر : الجن منزلون على مراتب فإذا ذكر الجن خالصا يقال جني ، وإن أريد به أنه ممن يسكن مع الناس يقال عامر والجمع عمار ، وإن كان مما يعرض للصبيان يقال أرواح ، فإن خبث فهو شيطان ، فإن زاد على ذلك فهو مارد ، فإن زاد على ذلك وقوي أمره فهو عفريت والجمع عفاريت ، انتهى ، وفي الحديث المذكور ذكر وجود الجن ووجود الشياطين ولكنهما نوع واحد غير أنهما صارا صنفين باعتبار أمر عرض لهما وهو الكفر والإيمان ، فالكافر منهم يسمى بالشيطان والمؤمن بالجن . قوله : " وأرسلت عليهم الشهب " بضم الهاء جمع الشهاب وهو شعلة نار ساطعة كأنها كوكب منقض ، واختلف في الشهب هل كانت يرمى بها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ، لقوله تعالى : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا إلى قوله : " رصدا " فذكر ابن إسحاق أن العرب أنكرت وقوع الشهب ، وأشدهم إنكارا ثقيف ، وأنهم جاؤوا إلى رئيسهم عمرو بن أمية بعدما عمي فسألوه فقال : انظروا إن كانت هي التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فهو خراب الدنيا وزوالها ، وإن كان غيرها فهو لأمر حدث ، وإن الشياطين استنكرت ذلك وضربوا في الآفاق لينظروا ما موجبه ، ونفس الآية الكريمة تدل على وجود حراسها بما شاء الله تعالى إلا أنه قليل ، وإنما كثر عند إبان مبعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قالوا : ملئت حرسا شديدا لأنهم عهدوا حرسا ولكنه غير شديد ، ولأن جماعة من العلماء منهم ابن عباس والزهري قالوا : ما زالت الشهب مذ كانت الدنيا يؤيده ما في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم : " ورمي بنجم ، ما كنتم تقولون إن كان مثل هذا في الجاهلية ؟ قالوا : يموت عظيم أو يولد عظيم " الحديث ، وذكر بعضهم أن السماء كانت محروسة قبل النبوة ، ولكن إنما كانت تقع الشهب عند حدوث أمر عظيم من عذاب ينزل أو إرسال رسول إليهم ، وعليه تأولوا قوله تعالى : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا وقيل : كانت الشهب مرئية معلومة ، لكن رجم الشياطين وإحراقهم لم يكن إلا بعد نبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن قيل : كيف تتعرض الجن لإتلاف نفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوما لهم ، أجيب : قد ينسيهم الله تعالى ذلك لينفذ فيهم قضاؤه كما قيل في الهدهد إنه يرى الماء في تخوم الأرض ولا يرى الفخ على ظهر الأرض ، على أن السهيلي وغيره زعموا أن الشهاب تارة يصيبهم فيحرقهم ، وتارة لا يصيبهم ، فإن صح هذا فينبغي كأنهم غير متيقنين بالهلاك ولا جازمين به ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات ، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام منعت من ثلاث سماوات ، فلما ولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت منها كلها ، وقال ابن الجوزي رحمه الله : الذي أميل إليه أن الشهب لم ترم إلا قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم استمر ذلك وكثر حين بعث ، وعن الزهري كانت الشهب قليلة فغلظ أمرها وكثرت حين البعثة ، وقال أبو الفرج : فإن قيل : أيزول الكوكب إذا رجم به ؟ قلنا : قد يحرك الإنسان يده أو حاجبه فتضاف تلك الحركة إلى جميعه ، وربما فصل شعاع من الكوكب فأحرق ، ويجوز أن يكون ذلك الكوكب يفنى ويتلاشى . قوله : " فاضربوا " أي سيروا في الأرض كلها ، يقال فلان ضرب في الأرض إذا سار فيها ، وقال الله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض أي سرتم . قوله : " مشارق " منصوب على الظرفية أي في مشارق الأرض وفي مغاربها . قوله : " فانصرف أولئك “ أي الشياطين الذين توجهوا ناحية تهامة وهي بكسر التاء ، وفي الموعب تهامة اسم مكة وطرف تهامة من قبل الحجاز مدارج العرج وأولها من قبل نجد مدارج عرق ، فإذا نسب إليها يقال : تهامي ، بفتح التاء ، قاله أبو حاتم ، وعن سيبويه بكسرها ، وفي أمالي الهجري : آخر تهامة أعلام الحرم الشامي ، وفي كتاب الرشاطي : تهامة ما ساير البحر من نجد ، ونجد ما بين الحجاز إلى الشام إلى العذيب ، والصحيح أن مكة من تهامة ، وقال المدائني : جزيرة العرب خمسة أقسام : تهامة ونجد وحجاز وعروض [ ص: 37 ] ويمن ، أما تهامة فهي الناحية الجنوبية من الحجاز ، وأما نجد فهي الناحية التي من الحجاز والعراق ، وأما الحجاز فهو جبل يقبل من اليمن حتى يتصل بالشام وفيه المدينة وعمان ، وأما العروض فهي اليمامة إلى البحرين ، قال : وإنما سمي الحجاز حجازا لأنه يحجز بين نجد وتهامة ، ومن المدينة إلى طريق مكة إلى أن يبلغ مهبط العرج حجاز أيضا ، وما وراء ذلك إلى مكة وجدة فهو تهامة ، وقال الواقدي : الحجاز من المدينة إلى تبوك ومن المدينة إلى طريق الكوفة ، ومن وراء ذلك إلى أن يشارف أرض البصرة فهو نجد وما بين العراق وبين وجرة وعمرة الطائف نجد ، وما كان من وراء وجرة إلى البحر فهو تهامة ، وما كان بين تهامة ونجد فهو حجاز ، وقال قطرب : تهامة من قولهم تهم البعير تهما دخله حر ، وتهم البعير إذا استنكر المرعى ولم يستمر به ، ولحم تهم خنز ، ويقال : تهامة وتهومة ، وقيل : سميت تهامة لأنها انخفضت عن نجد فتهم ريحها أي تغير ، وعن ابن دريد التهم شدة الحر وركود الريح وسميت بها تهامة . قوله : " وهو بنخلة " بفتح النون وسكون الخاء المعجمة ، وهو موضع معروف ثمة وبطن نخلة موضع بين مكة والطائف ، وقال البكري : نخلة على لفظ الواحدة من النخل موضع على ليلة من مكة ، وهي التي نسب إليها بطن نخلة ، وهي التي ورد الحديث فيها ليلة الجن ، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث . قوله : " عامدين " حال ، وإنما جمع وإن كان ذو الحال واحدا باعتبار أن أصحابه معه كما يقال جاء السلطان والمراد هو وأتباعه ، أو جمع تعظيما له . قوله : " استمعوا له " أي أنصتوا ، والفرق بين السماع والاستماع أن باب الافتعال لا بد فيه من التصرف ، فالاستماع تصرف بالقصد والإصغاء إليه والسماع أعم منه . قوله : " فهناك " ظرف مكان والعامل فيه : قالوا ، ويروى " فقالوا " بالفاء ، فالعامل رجعوا مقدرا يفسره المذكور . قوله : " أوحي إلي " وقرأ حيوة الأسدي : قل أوحي إلي ، وقال الزجاج في المعاني : الأكثر أوحيت ويقال وحيت فالأصل وحى ، إلى قوله : نفر من الجن ، قال الزجاج : هؤلاء النفر من الجن كانوا من نصيبين ، وقيل إنهم كانوا من اليمن ، وقيل إنهم كانوا يهودا ، وقيل إنهم كانوا مشركين ، وذكر ابن دريد أن أسماءهم شاصر وماصر والأحقب ومنشئ وناشئ ، لم يزد شيئا ، وفي تفسير الضحاك : كانوا تسعة من أهل نصيبين ، قرية باليمن غير التي بالعراق ، وفي رواية عاصم عن زر بن حبيش أنهم كانوا سبعة : ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من نصيبين ، ذكره القرطبي في تفسيره ، وعند الحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : هبطوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ببطن نخلة وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، وقال : صحيح الإسناد ، وعند القرطبي : كانوا اثني عشر ، وعن عكرمة : كانوا اثني عشر ألفا ، وفي تفسير النسفي : وقيل كانوا من بني الشيبان وهم أكثر الجن عددا وهم عامة جنود إبليس . قوله : " قرآنا عجبا " أي بديعا مبينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه ، قائمة فيه دلائل الإعجاز ، وانتصاب عجبا على أنه مصدر وضع موضع التعجب ، وفيه مبالغة ، والعجب ما خرج عن حد إشكاله ونظائره قوله : “ يهدي إلى الرشد " أي يدعو إلى الصواب ، وقيل يهدي إلى التوحيد والإيمان . قوله : " فآمنا به " أي بالقرآن . قوله : " ولن نشرك بربنا أحدا " يعني لما كان الإيمان بالقرآن إيمانا بالله عز وجل وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا : " ولن نشرك بربنا أحدا " قوله : “ فأنزل " الله على نبيه : " قل أوحي إلي " أي قل يا محمد أي أخبر قومك ما ليس لهم به علم ، ثم بين فقال : " أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " وقال ابن إسحاق : لما أيس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من خبر ثقيف انصرف عن الطائف راجعا إلى مكة حتى كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي ، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من أهل جن نصيبين ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ، فقص خبرهم عليه ، فقال تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن إلى قوله : " أليم " ثم قال تعالى : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة ، وإلى هذا المعنى أشار البخاري بقوله : وإنما أوحي إليه قول الجن ، وأراد بقول الجن هم الذين قص خبرهم عليه .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه وهو على وجوه : الأول في وقت صرف الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين وقبل الإسراء ، وذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف لثلاث بقين من شوال وأقام خمسا وعشرين ليلة ، وقدم مكة لثلاث وعشرين خلت من ذي القعدة يوم الثلاثاء وأقام بمكة ثلاثة أشهر ، وقدم عليه جن الحجون في ربيع الأول سنة إحدى [ ص: 38 ] عشرة من النبوة .

                                                                                                                                                                                  الثاني أن الجن كانت متعددة وتعددت وفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة بعد الهجرة ، وفي كلام البيهقي أن ليلة الجن واحدة نظر .

                                                                                                                                                                                  الثالث في الحديث وجود الجن ، قال إمام الحرمين في كتابه الشامل : إن كثيرا من الفلاسفة وجماهير القدرية وكافة الزنادقة أنكروا الشياطين والجن رأسا ، وقال أبو القاسم الصفار في شرح الإرشاد : وقد أنكرهم معظم المعتزلة ، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم ، وقال أبو بكر الباقلاني : وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديما وينفون وجودهم الآن ، ومنهم من يقر بوجودهم ويزعم أنهم لا يرون لرقة أجسادهم ونفوذ الشعاع ، ومنهم من قال إنهم لا يرون لأنهم لا ألوان لهم ، وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية : لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن وإن وجد من ينكر ذلك منهم كما يوجد في بعض طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك ، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك ، وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تواترا معلوما بالاضطرار .

                                                                                                                                                                                  الرابع : في ابتداء خلق الجن ، وفي كتاب المبتدأ ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : خلق الله الجن قبل آدم بألفي سنة ، وعن ابن عباس : كان الجن سكان الأرض والملائكة سكان السماء ، وقال بعضهم : عمروا الأرض ألفي سنة ، وقيل : أربعين سنة ، وقال إسحاق بن بشر في المبتدأ : قال أبو روق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله شوما أبا الجن ، وهو الذي خلق من مارج من نار ، فقال تبارك وتعالى : تمن ، قال : أتمنى أن نرى ولا نرى ، وأن نغيب في الثرى ، وأن يصير كهلنا شابا ، فأعطي ذلك ، فهم يرون ولا يرون ، وإذا ماتوا غيبوا في الثرى ، ولا يموت كهلهم حتى يعود شابا ، يعني مثل الصبي ثم يرد إلى أرذل العمر ، قال : وخلق الله آدم عليه السلام فقيل له تمن : فتمنى الحيل فأعطي الحيل ، وفي التلويح : وقد اختلف في أصلهم فعن الحسن أن الجن ولد إبليس ومنهم المؤمن والكافر ، والكافر يسمى شيطانا ، وعن ابن عباس : هم ولد الجان وليسوا شياطين ، منهم الكافر والمؤمن ، وهم يموتون ، والشياطين ولد إبليس ، لا يموتون إلا مع إبليس ، واختلفوا في مآل أمرهم على حسب اختلافهم في أصلهم ، فمن قال إنهم من ولد الجان قال : يدخلون الجنة بإيمانهم ، ومن قال إنهم من ذرية إبليس فعند الحسن يدخلونها ، وعن مجاهد لا يدخلونها ، وقال : ليس لمؤمني الجن غير نجاتهم من النار ، قال تعالى : ويجركم من عذاب أليم وبه قال أبو حنيفة ، ويقال لهم كالبهائم كونوا ترابا ، وفي رواية عن أبي حنيفة أنه تردد فيهم ولم يجزم ، وقال آخرون : يعاقبون في الإساءة ويجازون في الإحسان كالإنس ، وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى لقوله تعالى : ولكل درجات مما عملوا بعد قوله : يا معشر الجن والإنس الآيات .

                                                                                                                                                                                  الخامس فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الفجر ، وعليه بوب البخاري .

                                                                                                                                                                                  السادس فيه دلالة على مشروعية الجماعة في الصلاة في السفر ، وأنها شرعت من أول النبوة .

                                                                                                                                                                                  السابع أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الإنس والجن ، ولم يخالف أحد من طوائف المسلمين في أن الله تعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس ; لقوله عليه الصلاة والسلام : " بعثت إلى الناس عامة " في حديث جابر في الصحيحين ، قال الجوهري : الناس قد يكون من الإنس ومن الجن ، وقد أخبر الله تعالى في القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به كما في قوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن إلى قوله : أولئك في ضلال مبين ثم أمره الله أن يخبر الناس بذلك ليعلم الإنس بأحوالها وأنه مبعوث إلى الإنس والجن .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية