الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  750 171 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا همام ، عن الأعلم وهو زياد ، عن الحسن ، عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع ، فركع قبل أن يصل إلى الصف ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : زادك الله حرصا ولا تعد

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة وهي في قوله : " فركع قبل أن يصل إلى الصف " .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله : وهم خمسة ; الأول : موسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري التبوذكي ، الثاني : همام ، على وزن فعال بالتشديد ابن يحيى ، الثالث : الأعلم على وزن أفعل الذي هو للتفضيل من العلم بفتحتين من علم علما إذا صار أعلم ، وهو المشقوق الشفة العليا لا من العلم بكسر العين وسكون اللام ، وقد فسر اسمه بقوله وهو زياد بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف ، ابن حسان على وزن فعال بالتشديد ، الرابع : الحسن البصري ، الخامس : أبو بكرة بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف ، واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة ، من فضلاء الصحابة بالبصرة .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في موضع واحد ، وفيه عن الأعلم ، وفي رواية عفان ، عن همام ، حدثنا زياد الأعلم ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وفيه زياد مذكور بلقبه وهو الأعلم ; لقب به لأنه كان مشقوق الشفة السفلى ، قال بعضهم : هكذا السفلى ، وليس كذلك ، بل الأعلم إنما يقال [ ص: 55 ] للمشقوق الشفة العليا كما ذكرناه ، وفيه عن الحسن ، عن أبي بكرة بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف ، أعله بعضهم بأن الحسن عنعنه ، وقيل إنه لم يسمع من أبي بكرة وإنما يروي عن الأحنف عنه ، ورد هذا الإعلال بما رواه النسائي ، أخبرنا حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن زياد الأعلم قال : أخبرنا الحسن أن أبا بكرة حدثه أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع فركع دون الصف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : زادك الله حرصا ولا تعد ، وفيه أن رواته كلهم بصريون ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي ; لأن زيادا من صغار التابعين والحسن من كبارهم رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  ذكر من أخرجه غيره : أخرجه أبو داود أيضا في الصلاة ، عن حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن زياد ، وعن موسى بن إسماعيل ، عن حماد ، عن زياد ، وأخرجه النسائي فيه ، عن حميد بن مسعدة به .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه . قوله : " أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع " أي والحال أن النبي صلى الله عليه وسلم راكع ، وفي رواية النسائي ، عن زياد " أخبرنا الحسن أن أبا بكرة حدثه أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع " وفي رواية أبي داود ، عن الحسن " أن أبا بكرة جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع : وفي رواية الطحاوي ، عن الحسن ، عن أبي بكرة قال : " جئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع وقد حفزني النفس فركعت دون الصف " قوله : “ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم " أي فذكر ما فعله أبو بكرة من ركوعه دون الصف ، وفي رواية أبي داود " فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال : أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف ؟ فقال أبو بكرة : أنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : زادك الله حرصا ولا تعد " وفي رواية الطبراني من رواية حماد بن سلمة " فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيكم دخل الصف وهو راكع " قوله : “ زادك الله حرصا “ أي على الخير . قوله : " ولا تعد " قال السفاقسي ، عن الشافعي يعني لا تركع دون الصف ، وقيل لا تعد أن تسعى إلى الصلاة سعيا يحفزك في النفس ، وقيل لا تعد إلى الإبطاء ، وقال الطحاوي . قوله : " لا تعد " عندنا يحتمل معنيين : يحتمل ولا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم في الصف ، كما قد روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف " ويحتمل : أي ولا تعد أن تسعى إلى الصف سعيا يحفزك فيه النفس ، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " وقال القاضي البيضاوي : يحتمل أن يكون عائدا إلى المشي إلى الصف في الصلاة ، فإن الخطوة والخطوتين وإن لم تفسد الصلاة لكن الأولى التحرز عنها ، ثم قوله : “ ولا تعد " في جميع الروايات بفتح التاء وضم العين من العود ، وقيل روي بضم التاء وكسر العين من الإعادة ، فإن صحت هذه الرواية فمعناه ولا تعد صلاتك .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : قال الطحاوي في هذا الحديث أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة انتهى ، وروي عن ابن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما أنهما فعلا ذلك ، ركعا دون الصف ومشيا إلى الصف ركوعا ، وفعله عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وأبو سلمة وعطاء ، وقال مالك والليث : لا بأس بذلك إذا كان قريبا قدر ما يلحق ، وحد القرب فيما حكاه القاضي إسماعيل ، عن مالك أن يصل إلى الصف قبل سجود الإمام وقيل يدب قدر ما بين الفرجتين ، وفي الغنية ثلاث صفوف ، وفي الأوسط من حديث عطاء أن ابن الزبير قال على المنبر : إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم يدب راكعا حتى يدخل في الصف ، فإن ذلك السنة ، قال عطاء : ورأيته يصنع ذلك ، وفي المصنف بسند صحيح ، عن زيد بن وهب قال : " خرجت مع عبد الله من داره ، فلما توسطنا المسجد ركع الإمام فكبر عبد الله ثم ركع وركعت معه ، ثم مشينا إلى الصف راكعين حتى رفع القوم رؤوسهم ، فلما قضى الإمام الصلاة قمت لأصلي فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني ، وقال : إنك قد أدركت " وروي في المصنف أيضا أن أبا أمامة فعل ذلك وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد والحسن ، وقال أبو حنيفة : يكره ذلك للواحد ولا يكره للجماعة ، ذكره الطحاوي .

                                                                                                                                                                                  وفيه أن دخول أبا بكرة في الصلاة دون الصف لما كان صحيحا كانت صلاة المصلي كلها دون الصف صلاة صحيحة ، وهو صلاة [ ص: 56 ] المنفرد خلف الصف ، وبه قال الثوري وعبد الله بن المبارك والحسن البصري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد ; ولكن يأثم ، أما الجواز فلأنه يتعلق بالأركان وقد وجدت ، وأما الإساءة فلوجود النهي عن ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لفرد خلف الصف " ومعناه : لا صلاة كاملة كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا وضوء لمن لم يسم الله " وقوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " وقال حماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي وابن أبي ليلى ووكيع والحكم والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وابن المنذر : من صلى خلف صف منفردا فصلاته باطلة ، واحتجوا بالحديث المذكور ، وقد أجبنا عنه ، واحتجوا أيضا بحديث وابصة بن معبد الأشجعي : " أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد ، قال سليمان : الصلاة " رواه أبو داود وغيره ، وصححه أحمد وابن خزيمة ، والجواب عنه أن في سنده اختلافا ، بيانه أن الذي يرويه هلال بن يساف ، عن عمرو بن راشد ، عن وابصة ، ومنهم من قال : هلال ، عن وابصة ، وعن هذا قال الشافعي : لو ثبت الحديث لقلت به ، وقال الحاكم : إنما لم يخرجه الشيخان لفساد الطريق إليه ، وقال البزار ، عن عمرو بن راشد : ليس معروفا بالعدالة فلا يحتج بحديثه ، وهلال لم يسمع من وابصة فأمسكنا عن ذكره لإرساله ، وقال أبو عمر : فيه اضطراب ولا تثبته جماعة ، فإن قلت : أخرج ابن ماجه في سننه ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا ملازم بن عمرو ، عن عبد الله بن بدر ، وحدثني عبد الرحمن بن علي بن شيبان ، عن أبيه علي بن شيبان وكان من الوفد قال : " خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه ، قال : ثم صلينا وراءه صلاة أخرى ، فقضى الصلاة فرأى رجلا فردا يصلي خلف الصف ، قال : فوقف عليه نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انصرف قال : استقبل صلاتك لا صلاة للذي خلف الصف " وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، قلت : أخرجه البزار في مسنده وقال : عبد الله بن بدر ليس بالمعروف ، إنما حدث عنه ملازم بن عمرو ومحمد بن جابر ، فأما ملازم فقد احتمل حديثه وإن لم يحتج به ، وأما محمد بن جابر فقد سكت الناس عن حديثه ، وعلي بن شيبان لم يحدث عنه إلا ابنه ، وابنه هذا غير معروف وإنما ترتفع جهالة المجهول إذا روى عنه ثقتان مشهوران ، فأما إذا روى عنه من لا يحتج بحديثه لم يكن ذلك الحديث حجة ولا ارتفعت الجهالة ، وأجاب الطحاوي عنه أن معنى قوله : " لا صلاة للذي خلف الصف " لا صلاة كاملة لأن من سنة الصلاة مع الإمام اتصال الصفوف وسد الفرج ، فإن قصر عن ذلك فقد أساء وصلاته مجزية ولكنها ليست بالصلاة المتكاملة ، فقيل لذلك : لا صلاة له ، أي لا صلاة متكاملة كما قال صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان " الحديث معناه : ليس هو المسكين المتكامل في المسكنة إذ هو يسأل فيعطى ما يقوته ويواري عورته ، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يعرفونه فيتصدقون عليه ، وقال الخطابي ، وفيه دليل على أن قيام المأموم من وراء الإمام وحده لا يفسد صلاته وذلك أن الركوع جزء من الصلاة ، فإذا أجزأه منفردا عن القوم أجزأه سائر أجزائها ، كذلك إلا أنه مكروه لقوله " فلا تعد " ونهيه إياه عن العود إرشاد له في المستقبل إلى ما هو أفضل ، ولو كان نهي تحريم لأمره بالإعادة .

                                                                                                                                                                                  وفيه أن من أدرك الإمام على حال يجب أن يصنع كما يصنع الإمام ، وقد ورد الأمر بذلك صريحا في سنن سعيد بن منصور من رواية عبد العزيز بن رفيع ، عن أناس من أهل المدينة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على الحالة التي أنا عليها " وفي الترمذي نحوه ، عن علي ومعاذ بن جبل مرفوعا ، وفي إسناده ضعف ولكنه يعتضد بما رواه سعيد بن منصور المذكور آنفا ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية