الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  816 234 - حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أكل من هذه الشجرة - يريد الثوم - فلا يغشانا في مساجدنا . قلت : ما يعني به ؟ قال : ما أراه يعني إلا نيئه . وقال مخلد بن يزيد عن ابن جريج : إلا نتنه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " ما جاء في الثوم " .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله ، وهم خمسة ; الأول : عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان أبو جعفر الجعفي البخاري المعروف بالمسندي ، وإنما عرف به لأنه كان وقت الطلب يتتبع الأحاديث المسندة ولا يرغب في المقاطيع والمراسيل ، مات في ذي القعدة سنة تسع وعشرين ومائتين . الثاني : أبو عاصم النبيل ، واسمه الضحاك بن مخلد . الثالث : عبد الملك بن جريج . الرابع : عطاء بن أبي رباح . الخامس : جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده )

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع ، وفيه الإخبار بصيغة الجمع أيضا في موضعين ، وبصيغة الإفراد من الماضي في موضع ، وفيه السماع ، وفيه القول في خمسة مواضع ، وفيه أن رواته ما بين بخاري وبصري ومكي ، وفيه أن شيخه المسندي من أفراده ، وفيه أن أبا عاصم أيضا شيخه فإنه روى عنه بواسطة ويروي عنه أيضا بلا واسطة .

                                                                                                                                                                                  ذكر من أخرجه غيره

                                                                                                                                                                                  أخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن محمد بن حاتم وعن إسحاق بن إبراهيم وعن محمد بن رافع . وأخرجه الترمذي في الأطعمة عن إسحاق بن منصور . وأخرجه النسائي في الصلاة وفي الوليمة عن إسحاق بن منصور به ، وعن محمد بن عبد الأعلى ، ولما روى الترمذي حديث جابر هذا قال : وفي الباب عن عمرو أبي أيوب ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وجابر بن سمرة ، وقرة ، وابن عمر - رضي الله تعالى عنهم . قلت : وفي الباب أيضا عن حذيفة ، وأبي ثعلبة الخشني ، والمغيرة بن شعبة ، وعلي ، وأنس ، وعبد الله بن زيد - رضي الله تعالى عنهم . فحديث عمر عند مسلم وغيره ، وحديث أبي أيوب عند الترمذي ، وحديث أبي هريرة عند مسلم ، وحديث أبي سعيد عند مسلم أيضا ، وحديث جابر بن سمرة عند الترمذي ، وحديث قرة عند البيهقي ، وحديث ابن عمر عند البخاري ومسلم ، وحديث حذيفة عند ابن حبان ، وحديث أبي ثعلبة عند الطبراني في الأوسط ، وحديث المغيرة عند الترمذي ، وحديث علي رضي الله تعالى عنه عند أبي نعيم في الحلية ، وحديث أنس عند البخاري وغيره ، وحديث عبد الله بن زيد عند الطبراني .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه

                                                                                                                                                                                  قوله : “ من هذه الشجرة " . الشجرة واحدة الشجر ، والشجر : النبات الذي له ساق ، والنجم : النبات الذي ينجم في الأرض لا ساق له كالبقول ، ويقال عند العرب كل شيء ينبت له أرومة في الأرض يخلف ما قطع من ظاهرها فهو شجر ، وما ليس لها أرومة تبقى فهو نجم ، والأرومة الأصل . ( فإن قلت ) : على ما ذكر كيف أطلق الشجر على الثوم ونحوه ؟ ( قلت ) : قد يطلق كل منهما على الآخر ، وتكلم أفصح الفصحاء به من أقوى الدلائل . وقال الخطابي : فيه أنه جعل الثوم من جملة الشجر ، والعامة إنما يسمون الشجر ما كان له ساق يحمل أغصانه دون ما يسقط على الأرض . قوله : " فلا يغشانا " . من الغشيان ، وهو المجيء والإتيان ، أي : فلا يأتنا وإنما أثبت الألف لأن الأصل فلا يغشنا كما هو في رواية كذا لأنه أجرى المعتل مجرى الصحيح ، كما في قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                  إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق

                                                                                                                                                                                  وإما أن تكون الألف مولدة من إشباع الفتحة بعد سقوط الألف الأصلية بالجزم . قوله : " في مسجدنا " ، وفي رواية الكشميهني وأبي الوقت : " في مساجدنا " ، بصيغة الجمع ، قوله : “ قلت ما يعني به ؟ " أي : ما يقصد ، القائل هو عطاء بن أبي رباح ، يعني : قال عطاء : قلت لجابر رضي الله تعالى عنه : ما يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم به ، أي : بالثوم ; أنضيجا أم نيا ؟ قال جابر : [ ص: 146 ] ما أراه بضم الهمزة ، أي : ما أظنه صلى الله عليه وسلم يعني ، أي : يقصد : نيه ، أي : ني الثوم . وقال بعضهم : وأظن السائل ابن جريج والمسؤول عطاء . قلت : الذي قلنا هو الأقرب والأوجه على ما لا يخفى ، وبه جزم الكرماني .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ قال مخلد " ، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة ، ابن يزيد ، من الزيادة ، أبو الحسن الحراني ، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة . قوله : " عن ابن جريج " ، يعني : يروي عن عبد الملك بن جريج ، إلا نتنه ، بفتح النونين بينهما تاء مثناة من فوق ساكنة ، يعني : قال بدل نيه نتنه ، وهو الرائحة الكريهة ، وهذا التعليق يخالف ما رواه جماعة عن ابن جريج ، فإن أبا عوانة رواه في صحيحه من طريق روح بن عبادة عن ابن جريج ، كما رواه أبو عاصم عن ابن جريج ، وكذلك رواه عبد الرزاق عن ابن جريج نحوه ، وكذلك رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق ابن أبي عدي عن ابن جريج ، فلفظ الكل : النيء ، لا النتن .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه )

                                                                                                                                                                                  فيه كراهة أكل الثوم النيء ولا يحرم ، أما الكراهة فلرائحته الكريهة ، ولهذا قال : من أكل من هذه الشجرة فلا يغشانا في مسجدنا . وأما عدم الحرمة فلقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي يأتي في هذا الباب : " كل فإني أناجي من لا تناجي " . وقال ابن بطال : قوله صلى الله عليه وسلم : " من أكل " يدل على إباحة أكل الثوم لأنه لفظ يدل على الإباحة ، وتعقب بأن هذه الصيغة إنما تعطي الوجود لا الحكم ، لأن معناه : من وجد منه الأكل ، وهو أعم من كونه مباحا أو غير مباح . قلت : فلا حاجة إلى الاستدلال على الإباحة بهذه الطريقة ، فإن حديث جابر يدل على إباحته صريحا ، وكذلك حديث أبي أيوب ، رواه الترمذي : حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود أنبأنا شعبة عن سماك بن حرب سمع جابر بن سمرة يقول : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب - وكان إذا أكل طعاما بعث إليه بفضله - فبعث إليه يوما بطعام ولم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أتى أبو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فيه الثوم ، فقال : يا رسول الله ، أحرام هو ؟ قال : لا ، ولكني أكرهه من أجل ريحه .

                                                                                                                                                                                  وقال الترمذي أيضا : حدثنا محمد بن حميد حدثنا زيد بن الحباب عن أبي خلدة عن أبي العالية قال : الثوم من طيبات الرزق . وأبو خلدة اسمه خالد بن دينار ، وهو ثقة عند أهل الحديث ، وقد أدرك أنس بن مالك وسمع منه ، وأبو العالية اسمه رفيع وهو الرياحي ، وهو الذي ذكرنا أكله في الثوم النيء لأجل رائحته .

                                                                                                                                                                                  وأما الثوم المطبوخ منه فلا يكره ، لما روى أبو داود : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا الجراح أبو وكيع عن أبي إسحاق عن شريك عن علي رضي الله تعالى عنه قال : نهي عن أكل الثوم إلا مطبوخا " . وروى أيضا عن حديث معاوية بن قرة عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هاتين الشجرتين ، وقال : من أكلهما فلا يقربن مسجدنا . وقال : إن كنتم لا بد آكليهما فأميتوهما طبخا .

                                                                                                                                                                                  ثم إن حديث الباب في الثوم فقط ، وسيجيء حديث جابر رضي الله تعالى عنه في هذا الباب أن البصل مثل الثوم ، وأن الخضرات من البقول التي لها رائحة كذلك ، ويدخل فيه الكراث والفجل أيضا ، ونص على الفجل في المعجم الصغير للطبراني ، وذكره مع الثوم والكراث ، ونقل ابن التين عن مالك قال : الفجل إن كان يظهر ريحه فهو كالثوم ، وقيده عياض بالجشاء ، وفي التوضيح : وشذ أهل الظاهر فحرموا هذه الأشياء لإفضائها إلى ترك الجماعة ، وهي عندهم فرض عين ، وتقريره أن يقال : صلاة الجماعة فرض عين ولا يتم إلا بترك أكلها ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فترك أكلها واجب فتكون حراما .

                                                                                                                                                                                  قلت : صرح ابن حزم منهم بأن أكلها حلال مع قوله بأن الجماعة فرض عين .

                                                                                                                                                                                  وفيه ترك الإتيان إلى المسجد عند أكل الثوم ونحوه ، وهو بعمومه يتناول المجامع كمصلى العيد والجنازة ومكان الوليمة ، وحكم رحبة المسجد حكمه لأنها منه ، وخص القاضي عياض الكراهة بما إذا كان معهم غيرهم ، أما إذا كان كلهم أكلوه فلا ولكن ينبغي احترام الملائكة ، وليس المراد بالملائكة الحفظة .

                                                                                                                                                                                  قلت : العلة أذى الملائكة ، وأذى المسلمين ، فيختص النهي بالمساجد وما في معناها ، ولا يختص بمسجده صلى الله عليه وسلم بل المساجد كلها سواء عملا برواية : مساجدنا ، بالجمع ، وشذ من خصه بمسجده صلى الله عليه وسلم . ويلحق بما نص عليه في الحديث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها ، وإنما خص الثوم هنا بالذكر وفي غيره أيضا بالبصل والكراث ; لكثرة أكلهم بها ، وكذلك ألحق بذلك بعضهم من بفيه بخر أو به جرح له رائحة ، وكذلك القصاب والسماك والمجذوم والأبرص أولى بالإلحاق ، وصرح بالمجذوم ابن بطال ، ونقل عن سحنون : لا أرى الجمعة عليه ، واحتج بالحديث ، وألحق بالحديث كل من آذى الناس بلسانه في المسجد ، وبه أفتى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، وهو أصل في نفي كل ما يتأذى به ، ولا يبعد أن يعذر من كان معذورا بأكل ما له ريح كريهة لما روى [ ص: 147 ] ابن حبان في صحيحه عن المغيرة بن شعبة " انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد مني ريح الثوم ، فقال : من أكل الثوم ؟ قال : فأخذت يده فأدخلتها فوجد صدري معصوبا ، فقال : إن لك عذرا " وفي رواية الطبراني في الأوسط : " اشتكيت صدري فأكلته " وفيه : فلم يعنفه صلى الله عليه وسلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية