الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  817 236 - حدثنا سعيد بن عفير ، قال : حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب ، زعم عطاء أن جابر بن عبد الله زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا - أو قال : فليعتزل مسجدنا - وليقعد في بيته ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول ، فقال : قربوها إلى بعض أصحابه - كان معه - فلما رآه كره أكلها ، قال : كل فإني أناجي من لا تناجي .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في الثوم والبصل .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله ، وهم ستة ; سعيد ، هو ابن كثير بن عفير ، أبو عثمان المصري . وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري . ويونس بن يزيد . وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري . وعطاء ابن أبي رباح .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده )

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين . وفيه العنعنة في موضعين . وفيه زعم في موضعين ، قال الخطابي : لم يقل زعم على وجه التهمة لكنه لما كان أمرا مختلفا فيه أتى بلفظ زعم لأن هذا اللفظ لا يكاد يستعمل إلا في أمر يرتاب فيه أو يختلف فيه . وقال الكرماني : زعم ، أي : قال ، لأن الزعم يستعمل للقول المحقق . وفي رواية الأصيلي : عن عطاء ، وفي رواية لمسلم من وجه آخر عن ابن وهب : حدثني عطاء ، وفي رواية أحمد بن صالح الآتية عن جابر ، لم يقل زعم . قلت : دلت هذه الروايات أن زعم هاهنا بمعنى قال ، كما ذكره الكرماني . وفيه أن الاثنين الأولين من الرواة مصريان ، والثالث والرابع مدنيان ، والخامس مكي .

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في الاعتصام عن علي بن عبد الله وعن أحمد بن صالح . وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى . وأخرجه أبو داود في الأطعمة عن أحمد بن صالح . وأخرجه النسائي في الوليمة عن يونس بن عبد الأعلى .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " أو قال فليعتزل مسجدنا " ، شك من الراوي ، وهو الزهري ، ولم تختلف الرواة عنه في ذلك . قوله : " وليقعد " ، بواو العطف ، وفي رواية أبي ذر : أو ليقعد ، بالشك ، وهو أخص من الاعتزال ، لأنه أعم من أن يكون في البيت أو غيره . قوله : " وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم " ، عطف على الإسناد المذكور ، والتقدير : وحدثنا سعيد بن عفير بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون هذا حديثا آخر . وقال بعضهم : وقد تردد البخاري فيه هل موصول أو مرسل . قلت : على التقدير الذي ذكرنا لا تردد فيه أنه موصول ، لأن المعطوف في حكم المعطوف عليه . قوله : " أتي بقدر " ، بكسر القاف وهو القدر الذي يطبخ فيه الطعام ، ويجوز فيه التذكير والتأنيث . وقال : [ ص: 148 ] بعضهم : والتأنيث أشهر ، لكن الضمير في قوله : " فيه خضرات " يعود إلى الطعام الذي في القدر ، فالتقدير : أتي بقدر من طعام فيه خضرات ، ولهذا لما أعاد الضمير على القدر أعاده بالتأنيث حيث قال : " فأخبر بما فيها " ، وحيث قال : " قربوها " انتهى . قلت : هذا تصرف فيه تعسف فلا يحتاج إلى تطويل الكلام ، ولما جاز في القدر التذكير والتأنيث أعاد الضمير إليه تارة بالتذكير وتارة بالتأنيث نظرا إلى جواز الوجهين .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ خضرات " ، بضم الخاء وفتح الضاد المعجمتين ، جمع خضرة ، كذا هو في رواية أبي ذر ، وفي رواية غيره بفتح أوله وكسر ثانيه ، وقال ابن التين : رويناه بفتح الخاء وكسر الضاد . وقال ابن قرقول : ضبطه الأصيلي بضم الخاء وفتح الضاد ، والمعروف الأول .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ من بقول " كلمة " من " فيه بيانية ، ويجوز أن تكون للتبعيض . قوله : " فوجد " أي : النبي صلى الله عليه وسلم . قوله : " فأخبر " على صيغة المجهول ، أي : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما في القدر . قوله : " قربوها " الضمير فيه يجوز أن يرجع إلى الخضرات ويجوز أن يرجع إلى القدر ويجوز أن يرجع إلى البقول . قوله : " إلى بعض أصحابه " ، وقال الكرماني : هذا اللفظ نقل بالمعنى ، إذ الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل بهذه العبارة ، بل قال : قربوها إلى فلان مثلا ، أو فيه محذوف ، أي : قال قربوها مشيرا أو أشار إلى بعض أصحابه ، انتهى . وقال بعضهم : والمراد بالبعض أبو أيوب الأنصاري ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب في قصة نزول النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ، فإذا جيء به إليه - أي : بعد أن يأكل النبي صلى الله عليه وسلم منه - سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم فصنع ذلك مرة فقيل له : لم تأكل ، وكان الطعام فيه ثوم ، فقال : أحرام هو يا رسول الله ، قال : لا ولكن أكرهه . قلت " . ليس فيه دليل على أن المراد من البعض أبو أيوب لم لا يجوز أن يكون غيره من أصحابه ، بل الظاهر أنه غيره ، لأن رد طعامه إليه فيه ما فيه . ( فإن قلت ) : قوله : " كل " خطاب لأبي أيوب ، فذا يدل على أن المراد من البعض أبو أيوب . ( قلت ) : لا نسلم ذلك ، لأنه يجوز أن يأمر بالتقريب إلى غيره ويأمر بالأكل معه ، على أنه جاء في حديث أم أيوب " قالت : نزل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فتكلفنا له طعاما فيه بعض البقول " .. فذكر الحديث نحوه ، وقال : وفيه " فكلوا فإني لست كأحد منكم ، أخاف أن أوذي صاحبي " . فهاهنا أمر بالأكل للجماعة وأبو أيوب منهم وليس بمتعين .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ فإني أناجي من لا تناجي " أي : الملائكة ، ويوضح ذلك ما رواه ابن خزيمة وابن حبان من وجه آخر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه بطعام من خضرات فيه بصل أو كراث ، فلم ير فيه أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل ، فقال له : ما منعك ؟ قال : لم أر أثر يدك . قال : أستحي من ملائكة الله ، وليس بمحرم " .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه )

                                                                                                                                                                                  من ذلك أن البعض استدل به على أن إقامة الفرض بالجماعة ليست بفرض ، لأن أكل الثوم ونحوه جائز ، ومن لوازمه الشرعية ترك الصلاة بالجماعة ، وترك الجماعة في حق آكله جائز ، ولازم الجائز جائز . ومنه ما يدل على أن أكل الثوم ونحوه من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة . ( فإن قلت ) : لم لا يجوز أن يكون النهي خرج مخرج الزجر عن أكل هذه الأشياء فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرا في ترك الجماعة إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة ، وعن هذا قال الخطابي : توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة ، وإنما هو عقوبة لا يحكم على فاعله إذا حرم فضل الجماعة . ( قلت ) : قوله صلى الله عليه وسلم : " قربوها إلى بعض أصحابه " ينفي الزجر . ( فإن قلت ) : الزجر متأخر عن الأمر بالتقريب بمدة كثيرة ، لأن الأمر بالتقريب كان حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ومن جملة أحاديث الزجر حديث ابن عمر ، وهو كان في غزوة خيبر في سنة ست . ( قلت ) : سلمنا ذلك ، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم : " وليقعد في بيته " صريح على أن كل هذه الأشياء عذر في التخلف عن الجماعة ، وأيضا هاهنا علتان ; إحداهما : أذى المسلمين ، والثانية : أذى الملائكة ، فبالنظر إلى العلة الأولى يعذر في ترك الجماعة وحضور المسجد ، وبالنظر إلى الثانية يعذر في ترك حضور المسجد ولو كان وحده .

                                                                                                                                                                                  ومنه ما استدل به المهلب ، وهو قوله : " فإني أناجي من لا تناجي " على أن الملائكة أفضل من البشر ، وليس ذلك بصحيح ، لأنه لا يلزم من تفضيل بعض أفراد الشيء على بعضه تفضيل الجنس على الجنس ، وقد علم في موضعه . ومنه ما استدل به بعضهم على أن أكل الثوم ونحوه كان حراما على النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس ذلك بصحيح ، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب المذكور : " وليس بمحرم " يدل بعمومه على عدم التحريم مطلقا .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية