الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  838 3 - حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ، قال : أخبرنا جويرية ، عن مالك ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فناداه عمر : أية ساعة هذه ؟ قال : إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين ، فلم أزد أن توضأت . فقال : والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل !

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ، تفهم من قوله : " والوضوء أيضا " ، لأن معناه : تركت فضيلة الغسل واقتصرت على الوضوء أيضا .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله ، وهم ستة ; الأول : عبد الله بن محمد بن أسماء ، بفتح الهمزة وبالمد ، الضبعي ، بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة ، البصري ، ابن أخي جويرية بن أسماء ، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين . الثاني : جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري ، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومائة . الثالث : مالك بن أنس . الرابع : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري . الخامس : سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب . السادس : أبوه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده )

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين . وفيه العنعنة في أربعة مواضع . وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي . وفيه رواية الرجل عن ابن أخيه . وفيه رواية الابن عن الأب . وفيه أن الاثنين الأولين من الرواة بصريان والبقية مدنيون .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي في الصلاة عن محمد بن أبان ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري . ح ، وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن الزهري ، بهذا الحديث . وروى مالك هذا الحديث عن سالم قال : " بينما عمر يخطب يوم الجمعة " فذكر الحديث ، قال أبو عيسى : سألت محمدا عن هذا ، فقال : الصحيح حديث الزهري عن سالم عن أبيه ، قال محمد : وقد روي عن مالك أيضا عن الزهري عن سالم عن أبيه ، نحو هذا الحديث ، انتهى . قلت : البخاري أورد الحديث المذكور من رواية جويرية بن أسماء عن مالك ، وهو عند رواة الموطأ عن مالك ليس فيه ذكر ابن عمر ، وحكى الإسماعيلي عن البغوي بعد أن أخرجه من طريق روح بن عبادة عن مالك ، أنه لم يذكر في هذا الحديث أحد [ ص: 167 ] عن مالك عبد الله بن عمر غير روح بن عبادة وجويرية ، وقد تابعهما أيضا عبد الرحمن بن مهدي ، أخرجه أحمد بن حنبل عنه بذكر ابن عمر .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه

                                                                                                                                                                                  قوله : “ بينا " أصله بين ، فأشبعت فتحة النون فصار بينا ، وربما يدخلها ما فيقال : بينما ، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى ، وجواب " بينا " هنا ، قوله : “ إذا دخل رجل " ، والأفصح أن يكون فيه إذ وإذا ، وفي رواية يونس هاهنا " بينما " بالميم ، وفي رواية المستملي والأصيلي وكريمة " إذ دخل رجل " وفي رواية غيرهم " إذ جاء رجل " ، والرجل هو عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وقد سماه به ابن وهب وابن القاسم في روايتهما عن مالك في الموطأ ، وكذلك سماه معمر في روايته عن الزهري وكذا وقع في رواية ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، وقال أبو عمر : لا أعلم فيه خلافا غير ذلك .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ من المهاجرين الأولين " قال الشعبي : هم من أدرك بيعة الرضوان . وسأل قتادة عن سعيد بن المسيب فقال : هم من صلى إلى القبلتين . قال في الكشاف : هم الذين شهدوا بدرا . قوله : " فناداه عمر " أي : قال له يا فلان ، قوله : “ أية ساعة هذه " ، أية بتشديد الياء آخر الحروف وهي كلمة يستفهم بها ، وأنث " أية " لأجل " ساعة " ، ( فإن قلت ) : قد ذكرت في قوله تعالى : وما تدري نفس بأي أرض تموت ( قلت ) : الأمران جائزان ، يقال : أي امرأة جاءتك ، وأية امرأة جاءتك ؟ قال الزمخشري : قرئ ( بأية أرض تموت ) ، وشبه سيبويه تأنيث أي بتأنيث كل في قولهم : كلهن . والساعة اسم لجزء من الزمان مخصوص ويطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءا هي مجموع اليوم والليلة ، ويطلق أيضا على جزء ما غير مقدر من الزمان ولا يتحقق ، وعلى الوقت الحاضر والهندسي يقسم اليوم على اثني عشر قسما وكذا الليلة ، طالا أم قصرا ، فيسمونه ساعة . ( فإن قلت ) : ما هذا الاستفهام ؟ ( قلت ) : استفهام توبيخ وإنكار ، فكأنه يقول : لم تأخرت إلى هذه الساعة ، وقد ورد التصريح بالإنكار في رواية أبي هريرة فقال عمر : لم تحتبسون عن الصلاة ، وفي رواية مسلم : فعرض به عمر ، فقال : ما بال رجال يتأخرون بعد النداء . ( فإن قلت ) : هل صدر هذا كله عن عمر رضي الله تعالى عنه ؟ ( قلت ) : الظاهر ذلك ، ولكن حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر . ( فإن قلت ) : ما كان مراد عمر من هذه المقالة ؟ ( قلت ) : التنبيه إلى ساعات التبكير التي وقع فيها الترغيب ، لأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف ، كما ورد في الحديث . ( فإن قلت ) : هل فهم عثمان رضي الله تعالى عنه هذا من عمر رضي الله تعالى عنه ؟ ( قلت ) : نعم ، فلذلك بادر إلى الاعتذار عن التأخير بقوله : " إني شغلت " ، إلى آخره ، وهو على صيغة المجهول ، وقد بين جهة شغله في رواية عبد الرحمن بن مهدي حيث قال : " انقلبت من السوق فسمعت النداء " ، والمراد به الأذان بين يدي الخطيب .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ فلم أنقلب إلى أهلي " ، الانقلاب الرجوع من حيث جاء ، وهو انفعال من قلبت الشيء إذا كببته أو رددته . قوله : " حتى سمعت التأذين " وفي رواية أخرى " النداء " ، وهو بكسر النون أشهر من ضمها . قوله : " فلم أزد أن توضأت " ، كلمة " أن " هذه صلة زيدت لتأكيد النفي . قوله : " والوضوء أيضا " ، جاءت الرواية فيه بالواو وحذفها ، وبنصب الوضوء ورفعهما ، أما وجه وجود الواو فهو أن يكون للعطف على الإنكار الأول ، وهو قوله : " أية ساعة هذه " ، لأن معنى الإنكار : ألم يكفك أن أخرت الوقت وفوت فضيلة السبق حتى أتبعته بترك الغسل والقناعة بالوضوء ، فتكون هذه الجملة المبسوطة مدلولا عليها بتلك اللفظة ، وقال القرطبي : الواو عوض من همزة الاستفهام كما قرأ ابن كثير : ( قال فرعون وآمنتم به ) . وأما وجه حذف الواو فظاهر ، لكن يكون لفظ الوضوء بالرفع والنصب أما وجه الرفع فعلى أنه مبتدأ قد حذف خبره تقديره الوضوء أيضا ، يقتصر عليه ، ويجوز أن يكون خبرا محذوف المبتدأ تقديره : كفايتك الوضوء أيضا ، وأما وجه النصب فهو على إضمار فعل التقدير : أتتوضأ الوضوء فقط ، يعني اقتصرت على الوضوء وحده .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ أيضا " منصوب على أنه مصدر من آض يئيض ، أي : عاد ورجع . قال ابن السكيت : تقول فعلته أيضا ، إذا كنت قد فعلته بعد شيء آخر ، كأنك أفدت بذكرهما الجمع بين الأمرين أو الأمور . قوله : " وقد علمت " جملة حالية ، أي : والحال أنك قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل لمن يريد المجيء إلى الجمعة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه )

                                                                                                                                                                                  فيه القيام للخطبة وأنه من سننها وأنه على المنبر . وفيه تفقد الإمام رعيته وأمره لهم بمصالح دينهم ، وإنكاره على من أخل بالفضل . وفيه مواجهة الإمام بالإنكار للكبير ليرتدع من هو دونه بذلك . وفيه أن الأمر [ ص: 168 ] بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها . وفيه الاعتذار إلى ولاة الأمور . وفيه إباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء ، ولو أفضى ذلك إلى ترك فضيلة البكور إلى الجمعة ، لأن عمر رضي الله تعالى عنه لم يأمر برفع السوق بعد هذه القصة ، واستدل به مالك على أن السوق لا يمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمن عمر رضي الله تعالى عنه ، ولكون الذاهب إليها مثل عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقد قلنا : إن وجوب السعي وحرمة البيع والشراء بالأذان الذي يؤذن بين يدي المنبر ، لأنه هو الأصل ، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر فقهاء الأمصار .

                                                                                                                                                                                  ثم اختلف العلماء في حرمة البيع في ذلك الوقت ; فعند أبي حنيفة وأصحابه والشافعي : يجوز البيع مع الكراهة ، وعند مالك وأحمد والظاهرية : البيع باطل ، وقد عرف في الفروع . وفيه جواز شهود الفضلاء السوق ومعاناة التجر . وفيه أن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين ، وقد استدل بعضهم بقوله : " كان يأمر بالغسل " إن الغسل يوم الجمعة واجب ، وهذا الاستدلال ضعيف ، لأنه لو كان واجبا لرجع عثمان حين كلمه عمر رضي الله تعالى عنه ، أو لرده عمر حين لم يرجع ، فلما لم يرجع ولم يؤمر بالرجوع ويحضرهما المهاجرون والأنصار دل على أنه ليس بواجب ، وهذه قرينة على أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي فيه " فليغتسل " ، ليس أمر الإيجاب بل هو للندب ، وكذا المراد من قوله : " واجب " أنه كالواجب ، جمعا بين الأدلة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية