الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  875 40 - حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري القرشي الإسكندراني قال : حدثنا أبو حازم بن دينار ، أن رجالا أتوا سهل بن سعد الساعدي ، وقد امتروا في المنبر ; مم عوده ؟ فسألوه عن ذلك ، فقال : والله إني لأعرف مما هو ، ولقد رأيته أول يوم وضع ، وأول يوم جلس عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فلانة ، امرأة قد سماها سهل ، مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس ، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة ، ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بها فوضعت هاهنا ، ثم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى عليها ، وكبر وهو عليها ، ثم ركع وهو عليها ، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ، ثم عاد ، فلما فرغ أقبل على الناس ، فقال : أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ، ولتعلموا صلاتي .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " إذا كلمت الناس " إذ العادة أن الخطيب لا يتكلم على المنبر إلا بالخطبة .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله ، وهم أربعة : الأول : قتيبة بن سعيد ، وقد تكرر ذكره ، الثاني : يعقوب بن عبد الرحمن هو القاري بالقاف ، وبالراء المخففة ، وبياء النسبة إلى القارة ، وهي قبيلة ، وإنما قيل له القرشي ; لأنه حليف بني زهرة ، والمدني ; لأن أصله من المدينة ، والإسكندراني ; لأنه سكن فيها ، ومات بها سنة إحدى وثمانين ومائة ، الثالث : أبو حازم بالحاء المهملة ، وبالزاي ، واسمه سلمة بن دينار الأعرج ، الرابع : سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في ثلاثة مواضع ، وفيه أن شيخ البخاري بلخي ، والاثنان بعده مدنيان ، والحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي جميعهم عن قتيبة .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 215 ] ذكر معناه : قد مضى الكلام فيه مستوفى في باب الصلاة في المنبر والسطوح والخشب ، ولكن نذكر هاهنا ما لم نذكر هناك زيادة للبيان ، وإن وقع فيه بعض تكرار فنقول : قوله : " إن رجالا " لم يسموا من هم ، قوله : “ وقد امتروا " جملة في محل النصب على الحال من الامتراء ، قال الكرماني : وهو الشك .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم : من المماراة ، وهي المجادلة ، والذي قاله الكرماني هو الأصوب ، قوله : “ والله إني لأعرف مما هو " أي : من أي شيء هو ، أي : عوده ، وإنما أتى بالقسم مؤكدا بالجملة الاسمية ، وبكلمة إن التي للتحقيق وبلام التأكيد في الخبر لإرادة التأكيد فيما قاله للسامع ، قوله : “ ولقد رأيته أول يوم وضع " أي : لقد رأيت المنبر في أول يوم وضع في موضعه ، وهو زيادة على السؤال ، وكذا قوله : “ وأول يوم جلس عليه " أي : أول يوم جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، وفائدة هذه الزيادة المؤكدة باللام ، وكلمة " قد " للإعلام بقوة معرفته بما سألوه ، قوله : “ أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إلى آخره ، شرح جوابه لهم ، وبيانه ، فلذلك فصله عما قبله ، ولم يذكره بعطف ، قوله : “ إلى فلانة " فلان للمذكر ، وفلانة للمؤنث ، كناية عن اسم سمي به المحدث عنه خاص غالب ، ويقال في غير الناس : الفلان والفلانة ، والمانع من صرفه وجود العلتين العلمية والتأنيث ، وقد ذكرنا في باب الصلاة على المنبر ما قالوا في اسمها ، وكذلك ذكرنا الاختلاف في صانع المنبر على أقوال كثيرة مستقصاة ، وفي حديث سهل المذكور هناك : عمله فلان مولى فلانة ، وهاهنا ، قوله : “ مري غلامك " تقديره : أرسل إليها وقال لها : مري غلامك ، وهو أمر من أمر يأمر ، وأصله اؤمري على وزن افعلي ، فاجتمعت همزتان فنقلتا فحذفت الثانية ، واستغنيت عن همزة الوصل فصار مري على وزن علي ; لأن المحذوف فاء الفعل ، قوله : “ غلامك النجار " بنصب النجار ; لأنه صفة للغلام ، وقد سماه عباس بن سهل بأن اسمه ميمون ، وقد ذكرنا هناك من رواه ، ويقال اسمه مينا ، ذكره إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه قال : عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة أو بني ساعدة أو امرأة لرجل منهم يقال له مينا ، وأشبه الأقوال التي ذكرت في صانع المنبر بالصواب قول من قال : هو ميمون ; لكون الإسناد فيه من طريق سهل بن سعد ، وبقية الأقوال بأسانيد ضعيفة ; بل فيها شيء واه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : كيف يكون طريق الجمع بين هذه الأقوال وهي سبعة على ما ذكرنا في باب الصلاة على المنبر ؟ قلت : لا طريق في هذا إلا أن يحمل على واحد بعينه ما هو في صنعته ، والبقية أعوانه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون الكل قد اشتركوا في العمل ؟ قلت : جاء في روايات كثيرة أنه لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد ، فإن قلت : متى كان عمل هذا المنبر ؟ قلت : ذكر ابن سعد أنه كان في السنة السابعة ; لكن يرده ذكر العباس وتميم فيه ، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان ، وقدوم تميم سنة تسع ، وذكر ابن النجار بأنه كان في سنة ثمان ، ويرده أيضا ما ورد في حديث الإفك في الصحيحين " عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا " ، وعن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جذع إذ كان المسجد عريشا ، وكان يخطب إلى ذلك الجذع ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله هل لك أن نجعل لك منبرا تقوم عليه يوم الجمعة ، وتسمع الناس يوم الجمعة خطبتك ؟ قال : نعم ، فصنع له ثلاث درجات هي على المنبر ، فلما صنع المنبر وضع موضعه الذي وضعه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم فيخطب عليه فمر إليه ، فلما جاز الجذع الذي كان يخطب إليه خار حتى تصدع ، وانشق ، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع صوت الجذع ، فمسحه بيده ، ثم رجع إلى المنبر ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها " لما وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على الجذع وسكنه غار الجذع فذهب " ، وقيل : لما سكن لم يزل على حاله ، فلما هدم المسجد أخذ ذلك أبي بن كعب ، فكان عنده إلى أن بلي وأكلته الأرضة ، فعاد رفاتا ، رواه الشافعي وأحمد وابن ماجه ، وفي رواية : لما وضع يده على الجذع سكن حنينه ، وجاء في رواية أخرى : " لو لم أفعل ذلك لحن إلى قيام الساعة " .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : حكى بعض أهل السير أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب ، قلت : يرده الحديث الذي ذكرناه والأحاديث الصحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستند إلى الجذع إذا خطب .

                                                                                                                                                                                  ثم اعلم أن المنبر لم يزل على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله ، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال : بعث معاوية إلى مروان ، وهو عامله على المدينة أن يحمل المنبر إليه ، فأمر به فقلع ، فأظلمت المدينة ، فخرج مروان فخطب ، فقال : [ ص: 216 ] إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه فدعا نجارا ، وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم ، ورواه من وجه آخر ، قال : فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم . قال : وزاد فيه ست درجات ، وقال : إنما زدت فيه حين كثر الناس .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : روى أبو داود عن ابن عمر أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لما بدن قال له تميم الداري : ألا أتخذ لك منبرا يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك ؟ قال : بلى ، فاتخذ له منبرا مرقاتين ، أي : اتخذ له منبرا درجتين ، فبينه وبين ما ثبت في الصحيح أنه ثلاث درجات منافاة قلت : الذي قال مرقاتين لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن النجار وغيره : استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة ، فاحترق ، ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا ، ثم أرسل الظاهر بيبرس رحمه الله بعد عشر سنين منبرا ، فأزيل منبر المظفر ، فلم يزل ذلك إلى هذا العصر ، فأرسل الملك المؤيد شيخ رحمه الله في سنة عشرين وثمانمائة منبرا جديدا ، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا إلى مكة أيضا .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ وأجلس " بالرفع والجزم ، قاله الكرماني . قلت : أما الرفع فعلى تقدير : وأنا أجلس ، وأما الجزم فلأنه جواب الأمر ، قوله : “ من طرفاء الغابة " وفي رواية سفيان عن أبي حازم من أثل الغابة الطرفاء بفتح الطاء وسكون الراء المهملتين ، وبعد الراء فاء ممدودة ، وهو شجر من شجر البادية ، واحدها طرفة بفتح الفاء ، مثل قصبة وقصباء .

                                                                                                                                                                                  وقال سيبويه : الطرفاء ، وأحمد وجمع ، والأثل بسكون الثاء المثلثة ، قال القزاز : هو ضرب من الشجر يشبه الطرفاء .

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي : هو الشجرة الطرفاء ، قلت : فعلى هذا لا منافاة بين الروايتين ، والغابة بالغين المعجمة ، وبعد الألف باء موحدة ، وهي أرض على تسعة أميال من المدينة كانت إبل النبي - صلى الله عليه وسلم - مقيمة بها للمرعى ، وبها وقعت قصة العرنيين الذي أغاروا على سرحه .

                                                                                                                                                                                  وقال ياقوت : بينها وبين المدينة أربعة أميال .

                                                                                                                                                                                  وقال الزمخشري : الغابة بريد من المدينة من طريق الشام ، وفي الجامع : كل شجر ملتف فهو غابة ، وفي المحكم : الغابة الأجمة التي طالت ولها أطراف مرتفعة باسقة .

                                                                                                                                                                                  وقال أبو حنيفة : هي أجمة القصب ، قال : وقد جعلت جماعة الشجر غابا مأخوذا من الغيابة ، والجمع غابات ، وغاب ، قوله : “ فأرسلت " أي : المرأة تعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه فرغ ، قوله : “ فأمر بها فوضعت " أنث الضمير في الموضعين باعتبار الأعواد والدرجات ، قوله : “ عليها " أي : على الأعواد ، قوله : “ وهو عليها " جملة حالية ، قوله : “ ثم نزل القهقرى " وهو الرجوع إلى خلف قيل : يقال رجع القهقرى ، ولا يقال : نزل القهقرى ; لأنه نوع من الرجوع لا من النزول ، وأجيب بأنه لما كان النزول رجوعا من فوق إلى تحت صح ذلك ، وكان الحامل على ذلك المحافظة على استقبال القبلة ، ولم يذكر في هذه الرواية القيام بعد الركوع ، ولا القراءة بعد التكبير ، وقد بين ذلك في رواية سفيان عن أبي حازم ، ولفظه كبر فقرأ ، وركع ، ثم رفع رأسه ، ثم رجع القهقرى ، وفي رواية هشام بن سعد عن أبي حازم عند الطبراني : فخطب الناس عليه ، ثم أقيمت الصلاة فكبر وهو على المنبر ، قوله : “ في أصل المنبر " أي : على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه ، قوله : “ ثم عاد " وزاد مسلم من رواية عبد العزيز : حتى فرغ من آخر صلاته ، قوله : “ ولتعلموا بكسر اللام " وفتح التاء المثناة من فوق ، وتشديد اللام ، وأصله : لتتعلموا ، فحذفت إحدى التاءين ، وعرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن حزم : وبكيفية هذه الصلاة قال أحمد والشافعي والليث وأهل الظاهر ، ومالك وأبو حنيفة لا يجيزانها .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين : الأشبه أن ذلك كان له خاصة .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : فيه أن من فعل شيئا يخالف العادة بين حكمته لأصحابه ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى هذه الصلاة بهذه الكيفية ، وكان ذلك لمصلحة بيناها فنقول : إذا كان مثل ذلك لمصلحة ينبغي أن لا تفسد صلاته ، ولا تكره أيضا ، كما في مسألة من انفرد خلف الصف وحده ، فإن له أن يجذب واحدا من الصف إليه ويصطفان ، فإن المجذوب لا تبطل صلاته ، ولو مشى خطوة أو خطوتين ، وبه صرح أصحابنا في الفقه ، وفيه دليل على أن الفعل الكثير بالخطوات وغيرها إذا تفرق لا يبطل الصلاة ; لأن النزول عن المنبر والصعود تكرر ، وجملته كثيرة ، ولكن أفراده المتفرقة كل واحد منها قليل ، وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه ، ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب مستقبل القبلة ، فإن لم يكن منبر فموضع عال ، وإلا فإلى خشبة للاتباع ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب إلى جذع قبل اتخاذ المنبر ، فلما صنع تحول إليه ، ويكره المنبر الكبير جدا الذي يضيق على المصلين إذا لم يكن المسجد متسعا ، وفيه استحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد إما شكرا وإما تبركا .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية