الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  80 22 - حدثنا عمران بن ميسرة ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن أبي التياح ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويثبت الجهل ، ويشرب الخمر ، ويظهر الزنا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم أربعة ، الأول : عمران بكسر العين ابن ميسرة بفتح الميم ضد الميمنة أبو الحسن المنقري البصري ، روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم والبخاري وأبو داود ، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التيمي البصري ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أبو التياح بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف والحاء المهملة ، اسمه يزيد بن زيادة بن حميد الضبعي ، من أنفسهم وليس في الكتب الستة من يشترك معه في هذه الكنية ، وربما كني بأبي حماد ، وهو ثقة ثبت صالح ، مات سنة ثمان وعشرين ومائة ، روى عنه الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أنس بن مالك رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والعنعنة ، ومنها أن رواته كلهم بصريون ، ومنها أن إسناده رباعي .

                                                                                                                                                                                  بيان من أخرجه غيره : أخرجه البخاري هنا عن عمران بن ميسرة ، ومسلم في القدر عن شيبان بن فروخ ، والنسائي في العلم عن عمران بن موسى القزاز ، ثلاثتهم عن عبد الوارث عنه به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " من أشراط الساعة " بفتح الهمزة أي علاماتها وهو جمع شرط بفتح الشين والراء ، وبه سميت شرط السلطان لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها ، وقد مر زيادة الكلام فيه في الإيمان ، قوله “ ويثبت الجهل " من الثبوت بالثاء المثلثة وهو ضد النفي ، وفي رواية لمسلم " ويبث " من البث بالباء الموحدة والثاء المثلثة وهو الظهور والفشو ، وقال بعضهم : وغفل الكرماني فعزاها إلى البخاري وإنما حكاها النووي في شرح مسلم ، قلت : لم يقل الكرماني ، وفي رواية للبخاري : ولا قال روى ، وإنما قال : وفي بعض النسخ يبث من البث وهو النشر ، ولا يلزم من هذه العبارة نسبته إلى البخاري ; لأنه يمكن أن تكون هذه الرواية من غير البخاري ، وقد كتبت في كتابه ، وكذا قال الكرماني ، وفي بعضها ينبت من النبات بالنون والمعترض المذكور ، قال أيضا : وليست هذه في شيء من الصحيحين ولا يلزم من عدم اطلاعه على ذلك نفيه بالكلية ، وربما ثبت ذلك عند أحمد من نقلة الصحيحين فنقله ثم جعل ذلك نسخة ، والمدعي بالفن لا يقدر على إحاطة جميع ما فيه ولا سيما علم الرواية فإنه علم واسع لا يدرك ساحله ، قوله “ ويشرب الخمر " قال بعضهم : المراد كثرة ذلك واشتهاره ، ثم أكد كلامه بقوله : وعند المصنف في النكاح من طريق هشام عن قتادة " ويكثر شرب الخمر " أو العلامة مجموع ذلك ، قلت : لا نسلم أن المراد كثرة ذلك بل شرب الخمر مطلقا هو جزء العلة من أشراط الساعة ، وقوله في الرواية الأخرى : " ويكثر شرب الخمر " لا يستلزم أن يكون نفي مطلق الشرب من أشراطها ; لأن المقيد بحكم لا يستلزم نفي الحكم المطلق ، والأصل إجراء كل لفظ على مقتضاه ، ولا تنافي بين حكم يمكن حصوله معلقا بشرط تارة وبغيره أخرى ، ونظيره الملك فإنه يوجد بالشراء وغيره ، وهذا القائل أخذ ما قاله من كلام الكرماني حيث قال : فإن قلت شرب الخمر كيف يكون من علاماتها والحال أنه كان واقعا في جميع الأزمان ، وقد حد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الناس لشربه إياها ؟ قلت : المراد منه أن يشرب شربا فاشيا ، أو أن نفس الشرب وحده ليس علامة بل العلامة مجموع الأمور المذكورة ، قلت : هذا السؤال غير وارد لأنه لا يلزم من وقوعها في جميع الأزمان ، وحد النبي عليه الصلاة والسلام شاربها أن لا يكون من علامات الساعة ، نعم ، قوله : بل العلامة مجموع الأمور المذكورة ، هو كذلك لأنه عليه الصلاة [ ص: 83 ] والسلام جمع بين الأشياء الأربعة بحرف الجمع ، والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع ، ووجود المجموع هو العلامة لوقوع الساعة ، وكل منها جزء العلة ، فحينئذ تقييد الشرب بالكثرة لا يفيد ، وقد قلنا : إن ما ورد من قوله " ويكثر شرب الخمر " لا ينافي كون مطلق الشرب جزء علة ، وكل من الشرب المطلق والشرب المقيد بالكثرة والشهرة جزء علة ; لأن العلة الدالة على وقوع الحكم هي العلة المركبة من وجود الأشياء الأربعة .

                                                                                                                                                                                  ثم الخمر في اللغة من التخمير وهو التغطية ، سميت به لأنها تغطي العقل ، ومنه الخمار للمرأة ، وفي العباب : يقال خمرة وخمر وخمور مثال تمرة وتمر وتمور ، ويقال خمرة صرف ، وفي الحديث " الخمرة ما خامر العقل " وقال ابن الأعرابي : سميت الخمرة خمرا لأنها تركت فاختمرت ، واختمارها تغيير ريحها ، وعند الفقهاء : الخمر هي النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ، ويلحق بها غيرها من الأشربة إذا أسكر ، قوله “ ويظهر الزنا " أي يفشو وينتشر ، وفي رواية مسلم " ويفشو الزنا " والزنا يمد ويقصر والقصر لأهل الحجاز ، قال الله تعالى : ولا تقربوا الزنا والمد لأهل نجد ، وقد زنى يزني ، وهو من النواقص اليائية والنسبة إلى المقصور زنوي وإلى الممدود زنائي .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " إن " حرف من الحروف المشبهة بالفعل يرفع وينصب ، فقوله " أن يرفع العلم " في محل النصب اسمها وأن مصدرية تقديره رفع العلم وخبرها قوله " من أشراط الساعة " وفي رواية النسائي " من أشراط الساعة أن يرفع العلم " من غير " إن " في أوله ، فعلى هذه الرواية يكون محل " أن يرفع العلم " الرفع على الابتداء وخبره مقدما " من أشراط الساعة " وقال بعضهم : وسقطت إن من رواية النسائي حيث أخرجه عن عمران شيخ البخاري ، قلت : هذا غفلة وسهو لأن شيخ البخاري هو عمران بن ميسرة وشيخ النسائي هو عمران بن موسى ، قوله “ ويثبت " بالنصب عطفا على " أن يرفع " وكذلك " ويشرب " " ويظهر " منصوبان بالعطف على المنصوب و" أن " مقدرة في الجميع ويرفع ويشرب مجهولان ويثبت ويظهر معلومان .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : قوله " أن يرفع العلم " فيه إسناد مجازي ، والمراد رفعه بموت حملته وقبض العلماء وليس المراد محوه من صدور الحفاظ وقلوب العلماء ، والدليل عليه ما رواه البخاري في باب كيف يقبض العلم عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فيسألوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا " وبين بهذا الحديث أن المراد برفع العلم هنا قبض أهله وهم العلماء لا محوه من الصدور ولكن بموت أهله واتخاذ الناس رؤساء جهالا فيحكمون في دين الله تعالى برأيهم ويفتون بجهلهم ، قال القاضي عياض : وقد وجد ذلك في زماننا كما أخبر به عليه الصلاة والسلام ، قال الشيخ قطب الدين : قلت هذا قوله مع توفر العلماء في زمانه فكيف بزماننا ، قال العبد الضعيف : هذا قوله مع كثرة الفقهاء والعلماء من المذاهب الأربعة والمحدثين الكبار في زمانه فكيف بزماننا الذي خلت البلاد عنهم وتصدرت الجهال بالإفتاء والتعين في المجالس والتدريس في المدارس ، فنسأل السلامة والعافية .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية