الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1076 157 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، وما سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبحة الضحى قط وإني لأسبحها.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن العمل الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يعمل به لا يخلو عن تحريض أمته عليه، غير أنه كان يتركه خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، ويحتمل أن تكون المطابقة للجزء الثاني للترجمة وهو قوله: " والنوافل " فإنها أعم من أن تكون بالليل أو بالنهار، فيكون محل المطابقة للترجمة في قوله: " وإني لأسبحها "، وفيه تحريض على ذلك، وقد تكرر ذكر رجاله.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى ، وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي ، وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة ، أربعتهم عن مالك عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن كان " كلمة إن بكسر الهمزة مخففة عن الثقيلة، وأصله: إنه كان، فحذف ضمير الشأن وخففت النون.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ليدع " بفتح اللام التي للتأكيد، أي: ليترك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " خشية " بالنصب، أي: لأجل خشية أن يعمل به الناس وهو متعلق بقوله: " ليدع ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " فيفرض " بالنصب عطفا على أن يعمل.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وما سبح " ، أي: وما تنفل، وأراد بسبحة الضحى صلاة الضحى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وإني لأسبحها "، أي: أصليها، ويروى لأستحبها من الاستحباب، وقال الخطابي : هذا من عائشة إخبار عما علمته دون ما لم تعلم، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الضحى يوم الفتح وأوصى أبا ذر وأبا هريرة ، وقال ابن عبد البر : أما قولها: ما سبح سبحة الضحى قط، فهو أن من علم من السنن علما خاصا يأخذ عنه بعض أهل العلم دون بعض، فليس لأحد من الصحابة إلا وقد فاته من الحديث ما أحصاه غيره، والإحاطة [ ص: 176 ] ممتنعة، وإنما حصل المتأخرون علم ذلك منذ صار العلم في الكتب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في نادر من الأوقات، فإما مسافر أو حاضر في المسجد أو غيره أو عند بعض نسائه، ومتى يأتي يومها بعد تسعة فيصح قولها: ما رأيته يصليها، وتكون قد علمت بخبره أو بخبر غيره أنه صلاها، أو المراد بما يصليها ما يداوم عليها، فيكون نفيا للمداومة لا لأصلها.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الجوزي رحمه الله: قوله: " فيفرض عليهم " يحتمل على وجهين أحدهما: فيفرضه الله تعالى، والثاني: فيعملوا به اعتقادا أنه مفروض، وقال ابن بطال : يحتمل حديث عائشة رضي الله تعالى عنها معنيين أحدهما: أنه يمكن أن يكون هذا القول منه في وقت فرض عليه قيام الليل دون أمته لقوله في الحديث الآخر: " لم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم " فدل على أنه كان فرضا عليه وحده، فيكون معنى قول عائشة : " إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل " أنه كان يدع عمله لأمته ودعاءهم إلى فعلهم معه لا أنها أرادت أنه كان يدع العمل أصلا وقد فرضه الله عليه أو ندبه إليه لأنه كان أتقى أمته وأشدهم اجتهادا، ألا ترى أنه لما اجتمع الناس من الليلة الثالثة أو الرابعة لم يخرج إليهم، ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة في بيته، فخشي إن خرج إليهم والتزموا معه صلاة الليل أن يسوي الله عز وجل بينه وبينهم في حكمها فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه; إذ المعهود في الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم في الصلاة، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيه سواء، وكذلك ما كان منها سنة أو نافلة.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن يكون خشي من مواظبتهم على صلاة الليل معه أن يضعفوا عنها فيكون من تركها عاصيا لله في مخالفته لنبيه وترك اتباعه متوعدا بالعقاب على ذلك ; لأن الله تعالى فرض اتباعه فقال: واتبعوه لعلكم تهتدون وقال في ترك اتباعه: فليحذر الذين يخالفون عن أمره فخشي على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه ; لأن طاعة الرسول كطاعته، وكان - صلى الله عليه وسلم - رفيقا بالمؤمنين رحيما بهم.

                                                                                                                                                                                  (فإن قيل): كيف يجوز أن تكتب عليهم صلاة الليل، وقد أكملت الفرائض ؟ (قيل) له: صلاة الليل كانت مكتوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله التي تتصل بالشريعة واجب على أمته الاقتداء به فيها، وكان أصحابه إذا رأوه يواظب على فعل في وقت معلوم يقتدون به ويرونه واجبا، فالزيادة إنما يتصل وجوبها عليهم من جهة وجوب الاقتداء بفعله لا من جهة ابتداء فرض زائد على الخمس، أو يكون أن الله تعالى لما فرض الخمسين وحطها بشفاعته - صلى الله عليه وسلم -، فإذا عادت الأمة فيما استوهبت والتزمت متبرعة ما كانت استعفت منه لم يستنكر ثبوته فرضا عليهم، وقد ذكر الله تعالى فريقا من النصارى وأنهم ابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم، ثم لامهم لما قصروا فيها بقوله تعالى: فما رعوها حق رعايتها فخشي - صلى الله عليه وسلم - أن يكونوا مثلهم فقطع العمل شفقة على أمته.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية