الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1206 27 - حدثنا أبو النعمان ، قال : حدثنا حماد ،عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : بينما رجل واقف بعرفة ، إذ وقع عن راحلته فوقصته ، أو قال : فأوقصته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبين ، ولا تحنطوه ، ولا تخمروا رأسه ; فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم خمسة : الأول أبو النعمان ، اسمه محمد بن الفضل السدوسي يعرف بعارم . الثاني : حماد بن زيد . الثالث : أيوب السختياني . الرابع : سعيد بن جبير . الخامس : عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده :

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في موضعين ، وفيه شيخهوحماد وأيوب بصريون وسعيد بن جبير كوفي ، وفيه شيخه بكنيته واثنان بلا نسبة ، وفيه حماد عن أيوب ، وفي رواية الأصيلي حماد بن زيد عن أيوب .

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري رحمه الله تعالى أيضا في الجنائز ، عن قتيبة ومسدد ، وفي الحج ، عن سليمان بن حرب . وأخرجه مسلم عن أبي الربيع الزهراني. وأخرجه أبو داود رضي الله تعالى عنه فيه عن سليمان ومحمد بن عبيد ومسدد . وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " بينما " أصله بين ، فزيدت فيه الألف والميم ، وهو من الظروف الزمانية ، يضاف إلى جملة من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر ، ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى ، وجوابه هنا قوله : " إذ وقع " ، أي وقع رجل واقف. قوله : " فوقصته " ، أو قال : " فأوقصته " شك من الراوي الأول من الوقص ، وهو كسر العنق ، وهو المعروف عند أهل اللغة ، والثاني من الإيقاص وهو شاذ ; لأن الأصح هو الثلاثي ، وفي فصيح ثعلب : وقص الرجل إذا سقط عن دابته ، فاندقت عنقه ، فهو موقوص ، وعن [ ص: 51 ] الكسائي وقصت عنقه وقصا ، ولا يكون وقصت العنق نفسها ، وقال الخطابي : معناه أنها صرعته فكسرت عنقه ، وقال : أقصعته بتقديم الصاد المهملة على العين المهملة ليس بشيء ، والقصع هو كسر العطش ، ويحتمل أن يستعار لكسر الرقبة ، وأما الإقعاص ، أي بتقديم العين فهو إعجال الهلاك، أي لم يلبث أن مات ، وقال الجوهري : يقال ضربه فأقعصه ، أي : قتله مكانه . ويقال : قصع القملة ، أي قتلها ، وقصع الماء عطشه ، أي أذهبه وسكنه ، واعلم أن الضمير المرفوع في " فوقصته " للراحلة ، والمنصوب يرجع إلى الرجل ، وقال بعضهم : ويحتمل أن يكون فاعل وقصته الوقعة ، أو الراحلة بأن تكون أصابته بعد أن وقع . قلت : الفاعل هو الراحلة ، وهو الذي يقتضيه ظاهر التركيب ، وكون الفاعل هو الوقعة بعيد وخلاف الظاهر ، وقال أيضا : وقال الكرماني فوقصته ، أي راحلته. قلت : لم يقل الكرماني هذا ، وإنما نقل عن الخطابي ما ذكرناه عنه آنفا ، والعنق بضمتين وبسكون النون ، وصلة ما بين الرأس والجسد ، ويذكر ويؤنث ، فمن قال : عنق بإسكان النون ذكر ، ومن قال بضم النون أنث ، وعند ابن خالويه ، التصغير في لغة من ذكر عنيق ، وفي لغة من أنث عنيقة والجمع أعناق .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وكفنوه في ثوبين " إنما لم يزده ثالثا إكراما له ، كما في الشهيد لم يزد على ثيابه . قوله : " ولا تحنطوه " بالحاء المهملة ، أي لا تمسوه حنوطا . قوله : " ولا تخمروا رأسه " ، أي ولا تغطوها ، وفي أفراد مسلم : " ولا تخمروا رأسه ولا وجهه " ، وقال البيهقي : وذكر الوجه وهم من بعض رواته في الإسناد والمتن ، والصحيح : " لا تغطوا رأسه " قوله : " فإنه " ، أي ، فإن هذا الرجل قوله : " ملبيا " نصب على الحال ، أي حال كونه قائلا : لبيك ، والمعنى أنه يحشر يوم القيامة على هيئته التي مات عليها ; ليكون ذلك علامة لحجه ، كالشهيد يأتي وأوداجه تشخب دما ، وفي التوضيح : وفي رواية : " ملبدا " ، أي على هيئة ملبدا شعره بصمغ ونحوه .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : احتج به الشافعي وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر في أن المحرم على إحرامه بعد الموت ، ولهذا يحرم ستر رأسه وتطييبه ، وهو قول عثمان وعلي وابن عباس وعطاء والثوري ، وذهب أبو حنيفة ومالك والأوزاعي إلى أنه يصنع به ما يصنع بالحلال ، وهو مروي عن عائشة وابن عمر وطاوس ; لأنها عبادة شرعت ، فبطلت بالموت كالصلاة والصيام ، وقال صلى الله عليه وسلم: : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " وإحرامه من عمله ، ولأن الإحرام لو بقي لطيف به ، وكملت مناسكه ، وقال بعضهم : وأجيب بأن ذلك ورد على خلاف الأصل ، فيقتصر به على مورد النص ، ولا سيما قد وضح أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام ، كاستبقاء دم الشهداء . قلت : لا نسلم أنه ورد على خلاف الأصل ، وكيف ورد على خلاف الأصل وقد أمر بغسله بالماء والسدر ، وهو الأصل في الموتى ، وأما قوله : " ولا تحنطوه " إلى آخره ، فهو مخصوص به ، والدليل عليه قوله : " الحكمة في ذلك " إلى آخره ، وفيه الرد على كلامه بيانذلك أن استبقاء دم الشهيد مخصوص به ، فكذلك استبقاء شعار الإحرام مخصوص بالموقوص . وأجابوا عن الحديث بأنه ليس عاما بلفظه ; لأنه في شخص معين ، ولأنه لم يقل : يبعث يوم القيامة ملبيا ; لأنه محرم ، فلا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل ، وقال : " اغسلوه بسدر " والمحرم لا يجوز غسله بسدر ، وذكر الطرطوشي في كتاب الحج أن أبا الشعثاء جابر بن زيد روى : " عن ابن عباس قال : لا تخمروا رأسه وخمروا وجهه " ، وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن عطاء : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خمروا وجوههم ، ولا تشبهوا باليهود " . ورواه الدارقطني بإسناد عن عطاء عن ابن عباس يرفعه ، وحكم ابن القطان بصحته ، ولفظه : " خمروا وجوه موتاكم " ، وفي الموطأ : " أن عبد الله بن عمر لما مات ابنه واقد وهو محرم كفنه وخمر وجهه ورأسه ، وقال : لولا أنا محرمون لحنطناك يا واقد " ، وفي المصنف بأسانيد جياد عن عطاء قال : وسئل عن المحرم يغطى رأسه إذا مات قيل : غطى ابن عمر وكشف غيره ، وقال طاوس : يغيب رأس المحرم إذا مات ، وقال الحسن : إذا مات المحرم فهو حلال ومن حديث مجالد عن عامر : " إذا مات المحرم ذهب إحرامه " ، ومن حديث إبراهيم عن عائشة : " إذا مات المحرم ذهب إحرام صاحبكم " ، وقاله عكرمة بسند جيد ، وحكى ابن حزم أنه صح عن عائشة تحنيط الميت المحرم إذا مات وتطييبه وتخمير رأسه ، وعن جابر عن أبي جعفر قال : المحرم يغطى رأسه ولا يكشف ، وفيه جواز الكفن في ثوبين ، وهو كفن الكفاية وكفن الضرورة واحد ، وفيه في قوله : " في ثوبين " استدلال بعضهم على إبدال ثياب المحرم ، وقال بعضهم : وليس بشيء ; لأنه سيأتي في الحج بلفظ : " في ثوبه " ، وللنسائي من طريق يونس بن نافع عن عمرو بن دينار : " في ثوبيه اللذين أحرم فيهما " . قلت : ظاهر متن الحديث هنا يدل على صحة استدلال بعضهم على إبدال ثياب المحرم ، وهذا يدل على أنه خرج من [ ص: 52 ] الإحرام ، ولا يضرنا رواية : " ثوبيه " ولا رواية النسائي ; لأن رواية : " ثوبين " أقوى ; لكون البخاري أخرجه من ثلاث طرق ، وفيه غسله بالسدر ، وهذا يدل على أنه خرج من الإحرام ، وعكس صاحب التوضيح ، فقال : غسله بالسدر يدل على أنه جائز للمحرم ، وفيه رد على مالك وأبي حنيفة وآخرين ; حيث منعوه . قلت : ظاهر الحديث يرد عليه كلامه ; لأن الأصل عدم جواز غسل المحرم بالسدر ، فلولا أنه خرج عن الإحرام ما أمر بغسله بالسدر ، وفيه إطلاق الواقف على الراكب ، والرجل لم يوقف على اسمه ، وكان وقوعه عن راحلته عند الصخرات موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن حزم . وفيه أن الكفن من رأس المال ، وفيه أن المحرم إذا مات لا يكمل عليه غيره كالصلاة ، وقد وقع أجره على الله ، ومنه أخذ بعضهم أن النيابة في الحج لا تجوز ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا أن يكمل عن هذا الموقوص أفعال الحج ، ولا يخفى ما فيه من النظر ، وفيه أن إحرام الرجل في الرأس دون الوجه ، وفيه أن من شرع في طاعة ثم حال بينه وبين إتمامها الموت يرجى له أن الله تعالى يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل ، ويقبله منه إذا صحت النية ، ويشهد له قوله تعالى : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله الآية .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية