الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1210 31 - حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله قال : حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ، فقال : آذني أصلي عليه ، فآذنه ، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه ، فقال : أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين ؟ فقال : أنا بين خيرتين ، قال الله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فصلى عليه فنزلت : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [ ص: 54 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 54 ] مطابقته للترجمة من حيث اشتماله على الكفن في القميص ، وذلك أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أعطى قميصه لعبد الله بن أبي، وكفن فيه .

                                                                                                                                                                                  ورجاله قد ذكروا غير مرة ، ويحيى بن سعيد هو القطان وعبيد الله بن عمر العمري .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه البخاري أيضا في اللباس عن صدقة بن الفضل . وأخرجه مسلم في اللباس ، وفي التوبة عن محمد بن المثنى وأبي قدامة . وأخرجه الترمذي في التفسير عن محمد بن بشار . وأخرجه النسائي فيه ، وفي الجنائز عن عمرو بن علي . وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بشر بكر بن خلف .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " أن عبد الله بن أبي" بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة ، وتشديد الياء آخر الحروف ، ابن سلول رأس المنافقين ، وأبي هو أبو مالك بن الحارث بن عبيد، وسلول امرأة من خزاعة ، وهي أم أبي مالك بن الحارث وأم عبد الله بن أبي خولة بنت المنذر بن حرام من بني النجار ، وكان عبد الله سيد الخزرج في الجاهلية ، وكان عبد الله هذا هو الذي تولى كبره في قصة الصديقة ، وهو الذي قال ليخرجن الأعز منها الأذل ، وقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا ، ورجع يوم أحد بثلث العسكر إلى المدينة بعد أن خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله : " لما توفي " قال الواقدي : مرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال ، ومات في ذي القعدة سنة تسع منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ، وكان مرضه عشرين ليلة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فيها ، فلما كان اليوم الذي توفي فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه ، فقال : قد نهيتك عن حب اليهود ، فقال : قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه ؟ ثم قال : يا رسول الله ليس هذا بحين عتاب هو الموت ، فإن مت فاحضر غسلي ، وأعطني قميصك الذي يلي جسدك ، فكفني فيه وصل علي واستغفر لي ، ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الحاكم : كان على النبي صلى الله عليه وسلم قميصان ، فقال عبد الله : وأعطني قميصك الذي يلي جسدك فأعطاه إياه ، وفي حديث الباب أن ابنه هو الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه على ما يجيء الآن . قوله: " جاء ابنه " ، أي ابن عبد الله بن أبي، وكان اسمه الحباب بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة ، وفي آخره باء أيضا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله كاسم أبيه ، وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم شهد المشاهد واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وكان أشد الناس على أبيه ولو أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لضرب عنقه. قوله : " فقال أعطني قميصك " القائل هو عبد الله بن عبد الله بن أبي. قوله: " أكفنه فيه " ، أي أكفن عبد الله بن أبي فيه . قوله : " فأعطاه قميصه " ، أي أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله قميصه ، وهذا صريح في أن ابنه هو الذي أعطى له رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ، وفي رواية للبخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى أنه أخرج بعدما أدخل حفرته ، فوضعه على ركبته ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه ، وكان أهل عبد الله بن أبي خشوا على النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في حضوره ، فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته ، فأمرهم بإخراجه إنجازا لوعده في تكفينه في القميص والصلاة عليه . فإن قلت : في رواية الواقدي إن عبد الله بن أبي هو الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم القميص ، وفي رواية البخاري أن ابنه هو الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية جابر أنه ألبسه قميصه بعدما أخرجه من حفرته . قلت رواية الواقدي وغيره لا تقاوم رواية البخاري ، وأما التوفيق بين رواتي ابن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهم ، فقيل : إن معنى قوله في حديث ابن عمر : فأعطاه ، أي أنعم له بذلك ، فأطلق على الوعد اسم العطية مجازا لتحقق وقوعها ، وقال ابن الجوزي : يجوز أن يكون أعطاه قميصين قميصا للكفن ، ثم أخرجه فألبسه غيره . والله أعلم . فإن قلت : ما الحكمة في دفع قميصه له ، وهو كان رأس المنافقين ؟ قلت : أجيب عن هذا بأجوبة ; فقيل : كان ذلك إكراما لولده ، وقيل : لأنه ما سئل شيئا فقال لا ، وقيل إنه صلى الله عليه وسلم قال : إن قميصي لن يغني عنه شيئا من الله ، إني أؤمل من أبيه أن يدخل في الإسلام بهذا السبب ، فروي أنه أسلم من الخزرج ألف لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه ، وقال أكثرهم : إنما ألبسه قميصه مكافأة لما صنع في إلباس العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر ، وكان العباس طويلا ، فلم يأت عليه إلا قميص ابن أبي، وروى عبد بن حميد عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لم يخدع إنسانا قط ، غير أن ابن أبي قال يوم الحديبية كلمة حسنة ، وهي أن الكفار قالوا : لو طفت أنت بالبيت ، فقال : لا ، لي في رسول الله أسوة حسنة ، فلم يطف . قوله : " فقال آذني " ، أي أعلمني ، وهو أمر من آذن يؤذن إيذانا . قوله : " أصل عليه " يجوز فيه الوجهان الجزم جوابا للأمر وعدم الجزم استئنافا [ ص: 55 ] قوله : " فقال أليس الله نهاك " ، أي فقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين ، وكلمة " أن " مصدرية تقديره : نهاك من الصلاة عليهم ، أخذ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه من قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وبهذا يدفع من يستشكل في قول عمر رضي الله تعالى عنه هذا ، فإن قوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا نزل بعد ذلك كما يقتضيه سياق حديث الباب . فإن قلت : ليس فيه الصلاة. قلت : لما كانت الصلاة تتضمن الاستغفار وغيره أولها على ذلك ، وقال الإسماعيلي : الاستغفار والدعاء يسمى صلاة . قوله : " أنا بين خيرتين " تثنية خيرة على وزن عنبة ، اسم من قولك : اختاره الله ، أي أنا مخير بين أمرين ، وهما الاستغفار وعدمه ، فأيهما أردت أختاره ، وقال الداودي : هذا اللفظ أعني قوله : " أنا بين خيرتين " غير محفوظ ; لأنه خلاف ما رواه أنس ، وأرى رواية أنس هي المحفوظة ; لأنه قال هناك : أليس قد نهاك الله تعالى أن تصلي على المنافقين ، ثم قال فنزلت : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا جعل النهي بعد قوله : " أليس قد نهاك " ، وقال صاحب التوضيح : بل هو ، أي قوله : " أنا بين خيرتين " محفوظ ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه فهم النهي من الاستغفار لاشتمالها عليه ، وقال صاحب التلويح : الصحيح ما رواه أنس رضي الله تعالى عنه : وإنما فعل ذلك رجاء التخفيف .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال استغفر لهم ، أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة " ، ذكر السبعين على التكثير ، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لأستغفرن لهم أكثر من سبعين " ، فنزلت : سواء عليهم أستغفرت لهم الآية ، فتركه ، واستغفار الشارع لسعة حلمه عمن يؤذيه ، أو لرحمته عند جريان القضاء عليهم ، أو إكراما لولده . وقيل : معنى الآية الشرط ، أي إن شئت فاستغفر ، وإن شئت فلا ، نحو قوله تعالى : قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم وقيل : معناه هما سواء . وقيل : معناه المبالغة في اليأس ، وقال الفراء : ليس بأمر إنما هو على تأويل الجزاء ، وقال ابن النحاس : منهم من قال استغفر لهم منسوخ بقوله ولا تصل ومنهم من قال : لا ، بل هي على التهديد ، وتوهم بعضهم أن قوله : ولا تصل ناسخ له لقوله وصل عليهم وهو غلط ، فإن تلك نزلت في أبي لبابة وجماعة معه ، لما ربطوا أنفسهم لتخلفهم عن تبوك .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : فيه دلالة على الكفن في القميص ، وسواء كان القميص مكفوف الأطراف ، أو غير مكفوف . ومنهم من قال : إن القميص لا يسوغ إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة ، أو كان غير مزرر ، ليشبه الرداء . ورد البخاري ذلك بالترجمة المذكورة ، وفي الخلافيات للبيهقي من طريق ابن عون قال : كان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكففا مزررا ، وفيه النهي عن الصلاة على الكافر الميت ، وهل يجوز غسله وتكفينه ودفنه أم لا ؟ فقال ابن التين : من مات له والد كافر لا يغسله ولده المسلم ، ولا يدخله قبره إلا أن يخاف أن يضيع فيواريه . نص عليه مالك في المدونة ، وروى أن عليا رضي الله تعالى عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أن أباه مات ، فقال : اذهب فواره ، ولم يأمره بغسله ، وروي أنه أمره بغسله ، ولا أصل له ، كما قال القاضي عبد الوهاب ، وقال الطبري يجوز أن يقوم على قبر والده الكافر لإصلاحه ودفنه ، قال : وبذلك صح الخبر وعمل به أهل العلم ، وقال ابن حبيب : لا بأس أن يحضره ويلي أمر تكفينه ، فإذا كفن دفنه ، وقال صاحب الهداية : وإن مات الكافر وله ابن مسلم يغسله ويكفنه ويدفنه ، بذلك أمر علي رضي الله تعالى عنه في حق أبيه أبي طالب ، وهذا أخرجه ابن سعد في الطبقات ، فقال : أخبرنا محمد بن عمر الواقدي ، حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي قال : لما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب بكى ، ثم قال لي : اذهب فاغسله وكفنه وواره ، قال : ففعلت ثم أتيته ، فقال لي : اذهب فاغتسل ، قال : وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياما ، ولا يخرج من بيته حتى نزل جبرائيل عليه الصلاة والسلام بهذه الآية ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية ، وقال صاحب الهداية : لكن يغسل غسل الثوب النجس ، ويلف في خرقة من غير مراعاة سنة التكفين من اعتبار عدد وغير حنوط ، وبه قال الشافعي ، وقال مالك وأحمد : ليس لولي الكافر غسله ولا دفنه ، ولكن قال مالك : له مواراته ، وفيه فضيلة عمر رضي الله تعالى عنه ، وفيه في قول عمر رضي الله تعالى عنه : " أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين " . جواز الشهادة على الإنسان بما فيه في الحياة والموت عند الحاجة وإن كانت مكروهة ، وفيه جواز المسألة لمن عنده جدة تبركا .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية