الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1264 84 - حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثنا أبو ضمرة قال : حدثنا موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل منهم وامرأة زنيا ، فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة لا يتأتى إلا إذا قلنا إن عند في قوله ( عند المسجد ) يكون بمعنى في ، أو نقول قوله باب الصلاة على الجنائز بالمصلى ، والمسجد يحتمل وجهين : أحدهما الإثبات ، والآخر النفي ، ولعل غرض البخاري النفي بأن لا يصلى عليها في المسجد بدليل تعيين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موضع الجنازة عند المسجد ، ولو جاز فيه لما عينه في خارجه ، وبهذا يدفع كلام ابن بطال ليس فيه أي في حديث ابن عمر دليل على الصلاة في المسجد ، إنما الدليل في حديث عائشة : ( صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء في المسجد ) ( قلت ) : لو كان إسناده على شرطه لأخرجه في ( صحيحه ) وقد استوفينا الكلام في هذا الباب فيما مضى عن قريب .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله )

                                                                                                                                                                                  وهم خمسة : الأول : إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الحزامي وقد مر ، الثاني : أبو ضمرة بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وبالراء اسمه أنس بن عياض مر في باب التبرز في البيوت ، الثالث : موسى بن عقبة بضم العين وسكون القاف مر في أول الوضوء ، الرابع : نافع مولى ابن عمر ، الخامس : عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده )

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه القول في موضعين ، وفيه أن رواته كلهم مدنيون .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره )

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري في التفسير وفي الاعتصام عن إبراهيم بن المنذر ، عن أنس بن عياض ، وأخرجه مسلم في الحدود عن أحمد بن يونس ، وأخرجه النسائي في الرجم عن محمد بن معدان

                                                                                                                                                                                  أما رواية البخاري في التفسير فقال : حدثني إبراهيم بن المنذر ، حدثنا أبو ضمرة ، حدثنا موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما : " أن اليهود جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل منهم وامرأة قد زنيا ، فقال لهم : " كيف تفعلون بمن زنى منكم ؟ " قالوا : نحممهما ونضربهما ، فقال : " لا تجدون في التوراة الرجم ؟ " فقالوا : لا نجد فيها شيئا ، فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين ، فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم ، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم ، فنزع يده عن آية الرجم فقال : ما هذه ؟ فلما رأوا ذلك قالوا : هي آية الرجم ، فأمر بهما فرجما قريبا من حيث توضع الجنائز عند المسجد ، فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها الحجارة "

                                                                                                                                                                                  هذا لفظه في سورة آل عمران في التفسير ، وأما لفظه في كتاب الاعتصام فكلفظه هاهنا سندا ومتنا بعينهما .

                                                                                                                                                                                  وأما رواية مسلم ففي الحدود حدثني الحكم بن موسى أبو صالح ، [ ص: 133 ] حدثنا شعيب بن إسحاق ، أخبرنا عبيد الله ، عن نافع أن عبد الله أخبره : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بيهودي وبيهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء يهود فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ قالوا : نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما ، قال : فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين ، فجاءوا بها فقرءوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها ، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمهما . قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه " .

                                                                                                                                                                                  وأما رواية النسائي ففي الرجم : أخبرنا محمد بن معدان قال : حدثنا الحسن بن أعين قال : حدثنا زهير قال : حدثنا موسى ، عن نافع " عن ابن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل منهم وامرأة قد زنيا ، قال : " فكيف تفعلون بمن زنى منكم ؟ " قالوا : نضربهما ، قال : " ما تجدون في التوراة ؟ " قالوا : ما نجد فيها شيئا ، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم ، في التوراة الرجم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، فجاءوا بالتوراة فوضع مدرسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم ، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم ، فضرب عبد الله بن سلام يده فقال : ما هذه ؟ قال : هي آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرجما قريبا حيث توضع الجنائز . قال عبد الله : فرأيت صاحبها يحني عليها ليقيها الحجارة " وفي لفظ له : " فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم أعور فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه ، فقيل : ارفع يدك ، فرفع فإذا هي تلوح ، فقال : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا كنا نكاتمه " الحديث ، وفي لفظ له : " فقال له عبد الله بن سلام : ازحل كفك فإذا هو بالرجم يلوح "

                                                                                                                                                                                  قوله : ( نحممهما ) بالحاء المهملة أي نسودهما بالحممة وهي الفحمة ، وفي رواية مسلم : ( ونحملهما ) بالحاء واللام أي نحملهما على جمل ، وفي رواية : ( نجملهما ) بالجيم المفتوحة أي نجعلهما جميعا على الجمل .

                                                                                                                                                                                  قوله : ( لا تجدون في التوراة الرجم ) قالوا : هذا السؤال ليس لتقليدهم ولا لمعونة الحكم منهم ، وإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم ، ولعله صلى الله عليه وسلم - قد أوحي إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيروا أشياء ، أو أنه أخبره بذلك من أسلم منهم ، ولهذا لم يخف ذلك عليه حين كتموه .

                                                                                                                                                                                  قوله : ( مدراسها ) بكسر الميم على وزن مفعال من أبنية المبالغة ، وهو صاحب دراسة كتبهم من درس يدرس درسا ودراسة ، وأصل الدراسة الرياضة والتعهد للشيء ، وكذلك المدرس بكسر الميم على وزن مفعل من أبنية المبالغة ، وجاء في حديث آخر ( حتى أتى المدراس ) بالكسر وهو البيت الذي يدرسون فيه ، ومفعال غريب في المكان .

                                                                                                                                                                                  قوله : ( فطفق ) بكسر الفاء بمعنى أخذ في الفعل وشرع يعمل ، وهو من أفعال المقاربة .

                                                                                                                                                                                  قوله : ( يحني ) من حنى يحنو ويحني إذا أشفق وعطف . قوله : ( يقيها ) أي يحفظها من وقى يقي وقاية ، وهذه الجملة محلها النصب على الحال . قوله : ( ازحل ) بالزاي أزل كفك . قوله : ( يلوح ) أي يظهر ويبرق .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه )

                                                                                                                                                                                  فيه دليل لوجوب حد الزنا على الكافر ، وأنه يصح نكاحه . وقال النووي : لأنه لا يجب الرجم إلا على المحصن ، فلو لم يصح نكاحه لم يثبت إحصانه ولم يرجم . ( قلت ) : من جملة شروط الإحصان الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم : " من أشرك بالله فليس بمحصن " رواه الدارقطني ، وعن أبي يوسف أنه ليس بشرط وبه قال الشافعي وأحمد ، واستدلوا على ذلك بحديث الباب . قلنا : كان ذلك بحكم التوراة قبل نزول آية الجلد في أول ما دخل عليه الصلاة والسلام المدينة وصار منسوخا بها ، ثم نسخ الجلد في حق المحصن والكافر ليس بمحصن وهو قول علي وابن عباس وابن عمر ومالك رضي الله تعالى عنهم . ( فإن قلت ) : روى مسلم من حديث عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " فالنبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما بالثيوبة فمن فرق بينهما بالإسلام فقد زاد على النص . ( قلت ) : هذا منسوخ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحكم بعد نزول القرآن إلا بما فيه ، وفيه النص على الجلد فقط . ( فإن قلت ) : روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا قبلوا عقد الذمة فأعلموهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، والرجم على المسلم الثيب ، فكذا على الكافر الثيب " . ( قلت ) : الرجم غير واجب على كافة المسلمين ، فدل على أنه يختص بالزناة المحصنين دون غيرهم .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 134 ] ثم اعلم أن العلماء أجمعوا على وجوب حد جلد الزاني البكر مائة ، ورجم المحصن وهو الثيب ، ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة إلا ما حكى القاضي وغيره عن الخوارج وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه فإنهم لم يقولوا بالرجم ، واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم ، فقالت طائفة : يجب الجمع بينهما فيجلد ثم يرجم وبه قال علي بن أبي طالب والحسن البصري وإسحاق بن راهويه وداود وأهل الظاهر وبعض أصحاب الشافعي ، وقال جماهير العلماء : الواجب الرجم وحده ، وحكى القاضي عياض عن طائفة من أهل الحديث أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخا ثيبا ، وإن كان شابا ثيبا اقتصر على الرجم ، وهذا مذهب باطل لا أصل له ، والمراد من البكر من الرجال من لم يجامع في نكاح صحيح وهو حر عاقل بالغ ، والمراد من الثيب من جامع في دهره مرة بنكاح صحيح وهو حر عاقل بالغ ، والرجل والمرأة في هذا سواء . قال النووي : وسواء في كل هذا المسلم والكافر والرشيد والمحجور عليه بسفه ، وقال أيضا : وأما قوله صلى الله عليه وسلم في البكر : " ونفي سنة " ففيه حجة للشافعي والجماهير أنه يجب نفيه سنة رجلا كان أو امرأة ، وقال الحسن : لا يجب النفي ، وقال مالك والأوزاعي : لا نفي على النساء ، وروي مثله عن علي رضي الله تعالى عنه ، قالوا : لأنها عورة وفي نفيها تضييع لها وتعريض للفتنة ، ولهذا نهيت عن المسافرة إلا مع محرم .

                                                                                                                                                                                  وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي : أحدهما : يغرب كل واحد منهما سنة لظاهر الحديث ، وبه قال الثوري وأبو ثور وداود وابن جرير ، والثاني : يغرب نصف سنة وهذا أصح الأقوال ، والثالث : لا يغرب المملوك أصلا ، وبه قال الحسن وحماد ومالك وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                                                                  وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع ، قاله النووي . ( قلت ) : فيه اختلاف بين العلماء على ما عرف في موضعه ، وفيه أن الكفار إذا تحاكموا إلينا حكم القاضي بينهم بحكم شرعنا ، ( فإن قلت ) : كيف رجم اليهوديان أبالبينة أم بالإقرار ؟ ( قلت ) : الظاهر أنه بالإقرار وقد جاء في سنن أبي داود وغيره أنه شهد عليهما أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها ، فإن كان الشهود مسلمين فظاهر ، وإن كانوا كفارا فلا اعتبار بشهادتهم ويتعين أنهما أقرا بالزنا .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية