الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1301 121 - حدثنا آدم قال : حدثنا شعبة قال : حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجبت . ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا ، فقال : وجبت . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال : هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله " فأثنوا عليها خيرا " ، ورجاله قد ذكروا غير مرة ، وآدم هو ابن إياس .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( مروا بجنازة ) ، ويروى : مر بجنازة - بضم الميم على صيغة المجهول - فأثنوا عليها ; أي على الجنازة ، وأثنوا من الثناء بالثاء المثلثة بعدها النون وبالمد ، وهو يستعمل في الخير ولا يستعمل في الشر ، وقيل : يستعمل فيهما ، وقيل : استعمال الثناء في الشر لغة شاذة . فإن قلت : قد عرفت أن الثناء الممدود لا يستعمل إلا في الخير ، وكيف وقد استعمل في الشر في كلام الفصيح ؟ قلت : قد قيل هذا على اللغة الشاذة ، والأحسن أن يقال : استعمل هذا لأجل المشاكلة والتجانس كما في قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها وأخرج مسلم هذا الحديث من حديث ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : مر بجنازة فأثني عليها خيرا ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : وجبت وجبت وجبت . ومر بجنازة فأثني عليها شرا ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم وجبت وجبت وجبت . . . الحديث ، وفي آخره : أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض . وأخرج الحاكم من حديث النضر بن أنس : كنت قاعدا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فمر بجنازة ، فقال : ما هذه الجنازة ؟ قالوا : جنازة فلان الفلاني ، كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها . فقال : وجبت وجبت وجبت . ومر بجنازة أخرى فقال : ما هذه الجنازة ؟ قالوا : جنازة فلان الفلاني ، كان يبغض الله ورسوله ويعمل بمعصية الله ويسعى فيها . فقال : وجبت وجبت وجبت . قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قولك في الجنازة والثناء عليها ! أثني على الأول خير وعلى الآخر شر فقلت فيهما : وجبت وجبت وجبت . فقال : نعم يا أبا بكر ، إن لله ملائكة ينطق على لسان بني آدم بما في المرء من الخير والشر . وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ ، وفي هذا الحديث تفسير ما أبهم من الخير والشر في حديث الباب . وروى الطبراني من حديث كعب بن عجرة : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة ، فقيل : هذا بئس الرجل . وأثنوا عليه شرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم . قال : وجبت . وقال في التي أثنوا عليها خيرا كذلك . وروى أبو داود من حديث أبي هريرة قال : مروا [ ص: 195 ] على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليها خيرا ، فقال : وجبت . ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا ، فقال : وجبت . ثم قال : إن بعضكم على بعض شهداء . وروى أبو داود أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الملائكة عليهم السلام شهداء الله في السماء ، وأنتم شهداء الله في الأرض ، إن بعضكم على بعض شهيد .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وجبت ) ; أي وجبت الجنة في الأول ، ووجبت النار في الثاني . والمراد بالوجوب الثبوت ، أو هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب ، وحاصل المعنى أن ثناءهم عليه بالخير يدل على أن أفعاله كانت خيرا فوجبت له الجنة وثناءهم عليه بالشر يدل على أن أفعاله كانت شرا فوجبت له النار ، وذلك لأن المؤمنين شهداء بعضهم على بعض لما صرح في الحديث ، والتكرير فيه في رواية مسلم وغيره لتأكيد الكلام وتحقيقه لئلا يشكوا فيه . وقال الداودي : معنى هذا الحديث عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق لأن الفسقة قد يثنون على الفسقة فلا يدخلون في معنى هذا الحديث ، والمراد - والله أعلم - إذا كان الثناء بالشر ممن ليس له بعدو لأنه قد يكون للرجل الصالح العدو ، وإذا مات عدوه فذكر عن ذلك الرجل الصالح شرا فلا يدخل الميت في معنى هذا الحديث ; لأن شهادته كانت لا تجوز عليه في الدنيا وإن كان عدلا للعداوة ، والبشر غير معصومين . فإن قيل : كيف يجوز ذكر شر الموتى مع ورود الحديث الصحيح عن زيد بن أرقم في النهي عن سب الموتى وذكرهم إلا بخير ؟ أجيب بأن النهي عن سب الأموات غير المنافق والكافر والمجاهر بالفسق أو بالبدعة ، فإن هؤلاء لا يحرم ، وذكرهم بالشر للحذر من طريقهم ومن الاقتداء بهم . وقيل : لا بد أن يكون ثناؤهم مطابقا لأفعاله . وقال القرطبي : يحتمل أن يكون النهي عن سب الموتى متأخرا عن هذا الحديث ، فيكون ناسخا . وقيل : حديث أنس المذكور يجري مجرى الغيبة في الأحياء ، فإن كان الرجل أغلب أحواله الخير - وقد يكون منه الغلبة - فالاغتياب له محرم ، وإن كان فاسقا معلنا فلا غيبة فيه ، فكذلك الميت ، فليس ذلك مما ينهى عنه من سب الأموات . وقال بعضهم : الثناء على عمومه لكل مسلم مات ، فإذا ألهم الله الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلا أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا ; لأنه وإن لم تكن أفعاله مقتضية فلا تتحتم عليه العقوبة ، بل هو في المشيئة ، فإذا ألهم الله الناس الثناء عليه استدللنا بذلك أن الله تعالى قد شاء المغفرة له ، وبهذا تظهر فائدة الثناء في قوله " وجبت " . وقيل : هذا خاص بالمثنين المذكورين لغيب أطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عليه ، ورد بأن كلمة " من " تستدعي العموم ، والتخصيص بلا مخصص لا يجوز .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أنتم شهداء الله في الأرض ) ، الخطاب للصحابة رضي الله تعالى عنهم ولمن كان على صفتهم من الإيمان ، وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم ، ثم قال : والصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين . وقال النووي : الظاهر أن الذي أثنوا عليه شرا كان من المنافقين . قلت : ويستأنس لما قاله بما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على الذي أثنوا عليه شرا وصلى على الآخر . وقال البيهقي : فيه دلالة على جواز ذكر المرء بما يعلمه إذا وقعت الحاجة إليه نحو سؤال القاضي المزكي ونحوه .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية