الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1328 147 - حدثنا قتيبة قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد قال : حدثنا حصين بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا عبد الله بن عمر ، اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل : يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام ، ثم سلها أن أدفن مع صاحبي . قالت : كنت أريده لنفسي ، فلأوثرنه اليوم على نفسي . فلما أقبل قال له : ما لديك ؟ قال : أذنت لك يا أمير المؤمنين . قال : ما كان شيء أهم إلي من ذلك المضجع ، فإذا قبضت فاحملوني ثم سلموا ، ثم قل : يستأذن عمر بن الخطاب ، فإن أذنت لي فادفنوني ، وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين ، إني لا أعلم أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض ، فمن استخلفوا بعدي فهو الخليفة فاسمعوا له وأطيعوا . فسمى عثمان وعليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن عوف وسعد بن أبي وقاص ، وولج عليه شاب من الأنصار فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله ، كان لك من القدم في الإسلام ما قد علمت ، ثم استخلفت فعدلت ، ثم الشهادة بعد هذا كله ! فقال : ليتني يا ابن أخي وذلك كفاف لا علي ولا لي ، أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين خيرا أن يعرف لهم حقهم وأن يحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوؤوا الدار والإيمان أن يقبل من محسنيهم ويعفى عن مسيئهم ، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قضية عمر بن الخطاب ; لأن فيها السؤال بأن يدفن مع صاحبيه وهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله تعالى عنه ، وما ذاك إلا في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - والترجمة فيه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم أربعة ; الأول : قتيبة بن سعيد ، وقد تكرر ذكره . الثاني : جرير - بالجيم - ابن عبد الحميد ، مر في باب من جعل لأهل العلم أياما . الثالث : حصين - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وبالنون - مر في كتاب الصلاة . الرابع : عمرو بن ميمون الأودي - بفتح الهمزة وسكون الواو وبالدال المهملة - نسبة إلى أود بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج ، أدرك الجاهلية ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم ، وسمع عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وثقه يحيى وغيره ، مات سنة خمس وسبعين .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 229 ] ( ذكر معناه ) : هذا الذي ذكره عمرو بن ميمون قطعة من حديث طويل سيأتي في مناقب عثمان رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أن أدفن ) على صيغة المجهول ، وكلمة " أن " مصدرية .

                                                                                                                                                                                  قوله ( مع صاحبي ) بفتح الباء الموحدة وتشديد الياء ، وأصله صاحبين لي ، فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت النون . وأراد بصاحبيه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبا بكر رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( كنت أريده ) ; أي كنت أريد الدفن مع صاحبيه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فلأوثرنه ) من الإيثار ، يقال آثرت فلانا على نفسي إذا اختاره على نفسه وفضله عليه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( اليوم ) نصب على الظرف .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فلما أقبل ) ; أي عبد الله بن عمر .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ما لديك ؟ ) ; أي ما عندك من الخبر ؟

                                                                                                                                                                                  قوله ( أذنت لك ) ; أي عائشة رضي الله تعالى عنها ، أذنت له بالدفن مع صاحبيه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( من ذلك المضجع ) أراد به مضجع النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ومضجع أبي بكر رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فإذا قبضت ) على صيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وإلا ) ; أي وإن لم تأذن لي .

                                                                                                                                                                                  قوله ( إني لا أعلم . . . ) إلى آخره من جملة وصيته رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بهذا الأمر ) أراد به الخلافة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( من هؤلاء النفر ) ، النفر عدة رجال من الثلاثة إلى العشرة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وهو عنهم راض ) جملة حالية .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فمن استخلفوا ) ; أي فمن استخلفه هؤلاء النفر المذكورون فهو الخليفة ، أي فهو أحق بالخلافة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فسمى عثمان . . . ) إلى آخره ، إنما لم يذكر أبا عبيدة لأنه كان قد مات ، ولم يذكر سعيد بن زيد لأنه كان غائبا ، قال بعضهم : لم يذكره لأنه كان قريبه وصهره ، ففعل كما فعل به عبد الله بن عمر .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وولج عليه ) ; أي دخل ، من ولج يلج ولوجا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( كان لك من القدم ) بكسر القاف وفتح الدال ، ويروى بفتح القاف ; وهو السابقة في الأمر ، يقال لفلان قدم صدق أي أثرة حسنة ، ولو صحت الرواية بالكسر فالمعنى صحيح أيضا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثم استخلفت ) على صيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثم الشهادة ) ; أي ثم جاءتك الشهادة ، فيكون ارتفاع الشهادة على أنه فاعل فعل محذوف ، وذلك أنه قتله علج يسمى فيروز وكنيته أبو لؤلؤة ، وكان غلاما للمغيرة بن شعبة وكان يدعي الإسلام ، وسببه أنه قال لعمر : ألا تكلم مولاي يضع عني من خراجي ؟ قال : كم خراجك ؟ قال : دينار . قال : ما أرى أن أفعل ، إنك عامل محسن وما هذا بكثير . فغضب منه ، فلما خرج عمر إلى الناس لصلاة الصبح جاء عدو الله فطعنه بسكين مسمومة ذات طرفين فقتله . وقال الواقدي : طعن عمر رضي الله تعالى عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاثة وعشرين ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين ، وكان عمره يوم مات ستين سنة ، وقيل ثلاثا وستين ، وقيل إحدى وستين ، وقيل ستة وستين ، وكانت خلافته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين ليلة من متوفى أبي بكر رضي الله تعالى عنه . قاله الواقدي ، فإن قلت : الشهيد من قتل في قتال الكفار على قول الشافعية ، وعلى قول الحنفية من قتل ظلما ولم يجب بقتله دية أيضا - قلت : أما على قولهم فإنه كالشهيد في ثواب الآخرة ، وأما على قولنا فإنه قتل ظلما ووجب القصاص على قاتله ، فهو شهيد حقيقة . فإن قلت : بالارتثاث تسقط الشهادة - قلت : هو قتل لأجل كلمة الحق ، والقول بكلمة الحق من الدين ، وورد " من قتل دون دينه فهو شهيد " .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ليتني ) جواب هو قوله " لا علي " ; أي ليتني لا عقاب علي ولا ثواب لي فيه ، أي أتمنى أن أكون رأسا برأس في أمر الخلافة . ويروى " ولا ليا " بإلحاق ألف الإطلاق في آخره .

                                                                                                                                                                                  قوله ( كفاف ) بفتح الكاف بمعنى المثل ، قاله الكرماني . قلت : معناه أن أمر الخلافة مكفوف عني شرها ، وقيل : معناه أن لا تنال مني ولا أنال منها ; أي تكف عني وأكف عنها ، والكفاف في الأصل هو الذي لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة إليه ، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ وهو قوله " ذلك " ، وهو إشارة إلى أمر الخلافة ، وهذه الجملة معترضة بين ليت وخبرها .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أن يعرف لهم ) تفسير لقوله " خيرا " وبيان له .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بالمهاجرين الأولين ) وهم الذين هاجروا قبل بيعة الرضوان ، أو الذين صلوا إلى القبلتين ، أو الذين شهدوا بدرا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وأوصيه بالأنصار الذين تبوؤوا الدار ) ، قد وقع هنا " خيرا " بين الصفة والموصوف ، ووجه جوازه أن مجموع الكلام يدل على ما تقدم ، والمراد من الدار المدينة ، قدمها عمرو بن عامر حين رأى بسد مأرب ما دله على فساده فاتخذ المدينة وطنا لما أراد الله من كرامة الأنصار لنصرة نبيه - صلى الله تعالى عليه وسلم - وبالإسلام .

                                                                                                                                                                                  قوله ( والإيمان ) ، قال محمد بن الحسن : الإيمان اسم من أسماء المدينة ، فإن لم يكن كذلك فيحمل أن [ ص: 230 ] يريد تبوؤوا الدار ، وأجابوا إلى الإيمان من قبل أن يهاجروا إليهم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أن يقبل ) بدل من قوله " خيرا " ، ومعناه يفعل بهم من التلطف والبر ما كان يفعله الرسول والخليفتان بعده .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ويعفى عن مسيئهم ) ; يعني ما دون الحدود وحقوق الناس .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بذمة الله ) ; أي بعهده وبذمة رسوله ، ويقال " بذمة الله " يعني بأهل ذمة الله وهم عامة المؤمنين ; لأن كلهم في ذمتهما ، وهذا تعميم بعد تخصيص .

                                                                                                                                                                                  قوله ( من ورائهم ) ، الوراء بمعنى الخلف ، وقد يكون بمعنى القدام ; وهو من الأضداد .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) : فيه الحرص على مجاورة الصالحين في القبور طمعا في إصابة الرحمة إذا نزلت عليهم وفي دعاء من يزورهم من أهل الخير ، وفيه أن من وعد عدة جاز له الرجوع فيها ولا يلزم بالوفاء ، وفيه أن من بعث رسولا في حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه ولا يعد ذلك من قلة الصبر بل من الحرص على الخير ، وفيه أن الخلافة بعد عمر رضي الله تعالى عنه شورى ، وفيه التعزية لمن يحضره الموت بما يذكر من صالح عمله .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية