الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1399 70 - (حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل ألا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "وأعبده في سبيل الله" ورجال هذا الإسناد قد مضوا غير مرة، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب بن حمزة، وأبو الزناد بالزاي والنون عبد الله بن ذكوان، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.

                                                                                                                                                                                  وفي رواية النسائي من طريق علي بن عياش، عن شعيب مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يقول: قال عمر رضي الله تعالى عنه، فذكره، صرح بالحديث في الإسناد، وزاد فيه عمر رضي الله تعالى عنه، والمحفوظ أنه من مسند أبي هريرة، وإنما جرى لعمر فيه ذكر فقط.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة" أي بالصدقة الواجبة، يعني الزكاة؛ لأنها المعهودة بانصراف الألف واللام إليها.

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي: الجمهور صاروا إلى أن الصدقة هي الواجبة، لكن يلزم على هذا استبعاد هؤلاء المذكورين لها، ولذلك قال بعض العلماء: كانت صدقة التطوع، وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث، وفيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الصدقة.." الحديث. وقال ابن القصار: وهذا أليق بالقصة؛ لأنا لا نظن بأحدهم منع الواجب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقيل: منع ابن جميل" القائل هو عمر رضي الله تعالى عنه، ووقع في رواية ابن أبي الزناد عند أبي عبيد: فقال بعض من يلمز -أي يعيب- وابن جميل بفتح الجيم، ذكره الذهبي فيمن عرف بابنه ولم يسم، قيل: وقع في تعليق القاضي حسين المروزي الشافعي وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله، ووقع في التوضيح أن ابن بزيزة سماه حميدا وليس بمذكور في كتابه.

                                                                                                                                                                                  وقيل: وقع في رواية ابن جريج أبو جهم بن حذيفة بدل ابن جميل، وهو خطأ؛ لإطباق الجميع على ابن جميل؛ لأنه أنصاري، وأبو جهم قرشي.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وخالد بن الوليد" بالرفع، عطف على "منع ابن جميل" وعباس بن عبد المطلب عطف عليه، ووقع في رواية أبي عبيد "منع ابن جميل وخالد وعباس أن يعطوا" وهو مقدر هاهنا؛ لأن منع يستدعي مفعولا، وقوله: "أن يعطوا" في محل النصب على المفعولية، وكلمة أن مصدرية، والتقدير: منع هؤلاء الإعطاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" بيان لوجه امتناع هؤلاء عن الإعطاء، فلذلك ذكره بالفاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ما ينقم" بكسر القاف وفتحها، أي: ما ينكر، أي: لا ينبغي أن يمنع الزكاة، وقد كان فقيرا فأغناه الله; إذ ليس هذا جزاء النعمة.

                                                                                                                                                                                  قال ابن المهلب: كان ابن جميل منافقا، فمنع الزكاة، فاستتابه الله تعالى بقوله: وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم فقال: استتابني ربي، فتاب وصلحت حاله، انتهى.

                                                                                                                                                                                  وفيه تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ لأنه إذا لم يكن له عذر إلا ما ذكر من أن الله أغناه فلا عذر له.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وأما خالد" إلى آخره، قال الخطابي: قصة خالد تؤول على وجوه:

                                                                                                                                                                                  أحدها: أنه قد اعتذر لخالد ودافع عنه بأنه احتبس في سبيل الله تقربا إليه، وذلك غير واجب عليه، فكيف يجوز عليه منع الواجب؟

                                                                                                                                                                                  وثانيها: أن خالدا طولب بالزكاة عن أثمان الأدرع على معنى أنها كانت عنده للتجارة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا زكاة عليه فيها؛ إذ جعلها حبسا في سبيل الله.

                                                                                                                                                                                  وثالثها: أنه قد أجاز له أن يحتسب بما حبسه في سبيل الله من [ ص: 47 ] الصدقة التي أمر بقبضها منه، وذلك لأن أحد الأصناف سبيل الله وهم المجاهدون، فصرفها في الحال كصرفها في المآل.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قد احتبس" أي حبس أدراعه، جمع درع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وأعبده" بضم الباء الموحدة جمع عبد، حكاه عياض، والمشهور "أعتده" بضم التاء المثناة من فوق، جمع عتد بفتحتين، ووقع في رواية مسلم "أعتاده" وهو أيضا جمع عتد، قيل: هو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح. وقيل: الخيل خاصة، يقال: فرس عتيد أي صلب، أو معد للركوب، أو سريع الوثوب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وأما العباس بن عبد المطلب" فأخبر عنه عليه الصلاة والسلام أنه عمه، وعم الرجل صنو أبيه، وعن الحكم بن عتيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مصدقا، فشكاه العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن الخطاب، أما علمت أن عم الرجل صنو الأب وأنا استسلفنا زكاته عام الأول؟ ومعنى صنو أبيه أصله وأصل أبيه واحد، وأصل ذلك أن طلع النخلات من عرق واحد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فهي عليه صدقة" معناه هي صدقة ثابتة عليه سيتصدق بها ومثلها معها، أي: ويتصدق مثل هذه الصدقة معها؛ كرما منه؛ إذ لا امتناع منه ولا بخل فيه.

                                                                                                                                                                                  وقيل: معناه: فأمواله هي كالصدقة عليه؛ لأنه استدان في مفاداة نفسه وعقيل، فصار من الغارمين الذين لا تلزمهم الزكاة.

                                                                                                                                                                                  وقيل: إن القصة جرت في صدقة التطوع فلا إشكال عليه، لكنه خلاف المشهور وما عليه الروايات.

                                                                                                                                                                                  ثم اعلم أن لفظة الصدقة إنما وقعت في رواية شعيب عن أبي الزناد كما مرت.

                                                                                                                                                                                  وقال البيهقي في رواية شعيب هذه: يبعد أن تكون محفوظة؛ لأن العباس كان من صليبة بني هاشم ممن تحرم عليه الصدقة، فكيف يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه من صدقة عامين صدقة عليه؟

                                                                                                                                                                                  وقال المنذري: لعل ذلك قبل تحريم الصدقة على آل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فرأى إسقاط الزكاة عنه عامين لوجه رآه النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي: هذه لفظة لم يتابع عليها شعيب بن أبي حمزة، ورد عليه بأن اثنين تابعا شعيبا أحدهما عبد الرحمن بن أبي الزناد كما سيأتي عن قريب، والآخر موسى بن عقبة فيما رواه النسائي عن عمران: حدثنا علي بن عياش، عن شعيب، وساقه بلفظ البخاري، قال: وأخبرني أحمد بن حفص، حدثني أبي، حدثني إبراهيم، عن موسى، أخبرني أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بصدقة .. " الحديث. وفي آخره: "فهي عليه صدقة ومثلها معها".

                                                                                                                                                                                  واعلم أيضا أنه وقع اختلاف في هذا اللفظ، ففي لفظ وقع "مثلها" في متن حديث الباب، وفي لفظ: "فهي له ومثلها معها" وفي لفظ: "فهي علي ومثلها معها" وفي لفظ: "فهي عليه ومثلها معها" أما معنى الذي في متن حديث الباب أي: فهي عليه صدقة واجبة، فأداها قبل محلها ومثلها معها، أي: قد أداها لعام آخر كما ذكرناه عن الحكم آنفا.

                                                                                                                                                                                  وأما معنى "فهي له ومثلها معها" وهي رواية موسى بن عقبة، أي فهي عليه، قيل: عليه وله بمعنى واحد، كما في قوله تعالى: ولهم اللعنة وفي قوله: وإن أسأتم فلها ويحتمل أن يكون: فهي له أي: فهي له علي، ويحتمل أنها كانت له عليه إذا كان قدمها. وأما معنى قوله: "فهي علي ومثلها معها" أي فهذه الصدقة علي بمعنى أؤديها عنه؛ لما له علي من الحق خصوصا له، ولهذا قال: "عم الرجل صنو أبيه".

                                                                                                                                                                                  وأما معنى "فهي عليه ومثلها معها" وهي رواية ابن إسحاق، قال أبو عبيد: نراه -والله أعلم- أنه كان أخر الصدقة عنه عامين من أجل حاجة العباس، فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها على وجه النظرة، ثم يأخذها منه بعد، كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه بصدقة عام الرمادة، فلما أجبى الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين.

                                                                                                                                                                                  وقيل: إنما تعجل منه؛ لأنه أوجبها عليه وضمنها إياه ولم يقبضها منه، فكانت دينا على العباس، ألا ترى قوله: "فإنها عليه ومثلها معها"؟ قال ابن الجوزي: قال لنا ابن ناصر: يجوز أن يكون قد قال: "هو عليه" بتشديد الياء، وزاد فيها هاء السكت.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه):

                                                                                                                                                                                  فيه إثبات الزكاة في أموال التجارة.

                                                                                                                                                                                  وفيه دليل على جواز أخذ القيمة عن أعيان الأموال.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز وضع الصدقة في صنف واحد.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز تأخير الزكاة إذا رأى الإمام فيه نظرة.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز تعجيل الزكاة.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو علي الطوسي: اختلف أهل العلم في تعجيل الزكاة قبل محلها، فرأى طائفة من أهل العلم أن لا يعجلها، وبه يقول سفيان.

                                                                                                                                                                                  وقال أكثر أهل العلم: إن عجلها قبل محلها أجزأت عنه، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وهو مذهب أبي حنيفة.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر: وكره مالك والليث بن سعد تعجيلها قبل وقتها.

                                                                                                                                                                                  وقال الحسن: من زكى قبل الوقت أعاد كالصلاة، وفي التوضيح: وعند مالك في إخراجها قبل الحول بيسير قولان، وحد القليل بشهر ونصف شهر وخمسة أيام وثلاثة.

                                                                                                                                                                                  وفيه تحبيس آلات الحرب والثياب وكل ما ينتفع به مع بقاء عينه، والخيل والإبل كالأعبد، وفي تحبيس غير العقار [ ص: 48 ] ثلاثة أقوال للمالكية: المنع المطلق في مقابلة الخيل فقط.

                                                                                                                                                                                  وقيل: يكره في الرقيق خاصة، وروي أن أبا معقل وقف بعيرا له، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره. وقال أبو حنيفة: لا يلزم الوقف في شيء إلا أن يحكم به حاكم أو يكون الوقف مسجدا أو سقاية أو وصية من الثلث.

                                                                                                                                                                                  قلت: التحقيق فيه أن أصل الخلاف أن الوقف لا يجوز عند أبي حنيفة أصلا وهو المذكور في الأصل.

                                                                                                                                                                                  وقيل: يجوز عنده إلا أنه لا يلزم بمنزلة العارية حتى يرجع فيه أي وقت شاء، ويورث عنه إذا مات وهو الأصح، وعند أبي يوسف ومحمد: يجوز ويزول ملك الواقف عنه، غير أنه عند أبي يوسف يزول بمجرد القول وعند محمد حتى يجعل للوقف وليا ويسلمه إليه.

                                                                                                                                                                                  وأما وقف المنقول فإما أن يكون فيه تعامل بوقفه أو لا يكون، فالأول يجوز وقفه كالكراع والسلاح والفأس والقدر والقدوم والمنشار والجنازة وثيابها والمصاحف وكتب الفقه والحديث والأدبية ونحوها، والثاني: لا يجوز وقفه كالزرع والثمر ونحوهما، وعند أبي يوسف: لا يجوز إلا في الكراع والسلاح، والكراع الخيل.

                                                                                                                                                                                  وفيه بعث الإمام العمال لجباية الزكوات بشرط أن يكونوا أمناء فقهاء عارفين بأمور الجباية.

                                                                                                                                                                                  وفيه تنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر؛ ليقوم بحق الله عليه.

                                                                                                                                                                                  وفيه العيب على من منع الواجب، وجواز ذكره في غيبته بذلك.

                                                                                                                                                                                  وفيه تحمل الإمام عن بعض رعيته ما يجب عليه.

                                                                                                                                                                                  وفيه الاعتذار بما يسوغ الاعتذار به.

                                                                                                                                                                                  وفيه إسقاط الزكاة عن الأموال المحبسة.

                                                                                                                                                                                  وفيه التعريض بكفران النعمة، والتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية