الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1405 76 - (حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر، قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم، وقال: إن الشمس [ ص: 57 ] تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وزاد عبد الله، حدثني الليث، حدثني ابن أبي جعفر: فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه المطابقة بين الترجمة والحديث قد علم مما ذكرنا آنفا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم ستة:

                                                                                                                                                                                  الأول يحيى بن بكير.

                                                                                                                                                                                  الثاني: الليث بن سعد.

                                                                                                                                                                                  الثالث عبيد الله بتصغير العبد ابن أبي جعفر واسمه يسار، مر في باب الجنب يتوضأ في كتاب الغسل.

                                                                                                                                                                                  الرابع: حمزة -بالحاء المهملة وبالزاي- ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب مر في باب فضل العلم.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عبد الله بن عمر بن الخطاب.

                                                                                                                                                                                  السادس: عبد الله بن صالح، كاتب الليث.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده):

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه العنعنة في موضع واحد.

                                                                                                                                                                                  وفيه السماع في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه القول في ثلاثة مواضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن شيخه مذكور باسم جده واسم أبيه عبد الله بن بكير، وهو والليث وعبيد الله بن أبي جعفر وعبد الله بن صالح مصريون، وحمزة بن عبد الله مدني، أما عبد الله بن صالح ففيه مقال، قال ابن عدي: سقيم الحديث، ولكن البخاري روى عنه في صحيحه على الصحيح، ولكنه يدلس فيقول: حدثنا عبد الله، ولا ينسبه، وهو هو، نعم قد علق البخاري حديثا، فقال فيه: قال الليث بن سعد: حدثني جعفر بن ربيعة، ثم قال في آخر الحديث: حدثني عبد الله بن صالح، حدثنا الليث .. فذكره، ولكن هذا عند ابن حمويه السرخسي دون صاحبيه.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم رحمه الله تعالى، عن أبي الطاهر بن السرح، وعن أبي بكر بن أبي شيبة رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي رحمه الله تعالى فيه، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: "مزعة" بضم الميم وسكون الزاي وبالعين المهملة: القطعة.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي، قال أبو الحسن: والذي أحفظه عن المحدثين الضم.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن فارس: بكسر الميم واقتصر عليه القزاز في جامعه، وذكر ابن سيده الضم فقط، وكذا الجوهري قال: وبالكسر من الريش والقطن، يقال: مزعت اللحم قطعته قطعة قطعة، ويقال: أطعمه مزعة من لحم أي قطعة منه، قال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطا لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه؛ لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء؛ لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عظم كله، فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن أبي جمرة: معناه أنه ليس في وجهه من الحسن شيء؛ لأن حسن الوجه هو مما فيه من اللحم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وقال" أي النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس تدنو" أي تقرب من الدنو وهو القرب، ووجه اتصال هذا بما قبله هو أن الشمس إذا دنت يوم القيامة يكون أذاها لمن لا لحم له في وجهه أكثر وأشد من غيره.

                                                                                                                                                                                  قوله: "حتى يبلغ العرق" أي حتى يتسخن الناس من دنو الشمس فيتعرقون، فيبلغ العرق نصف الأذن.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فبينا هم" قد ذكرنا غير مرة أن أصل "بينا" "بين" فزيدت الألف بإشباع فتحة النون، يقال: بينا وبينما وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة فعلية أو اسمية، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه قوله: "استغاثوا" والأفصح في جوابه أن لا يكون فيه إذ وإذا كما وقع هنا بدون واحد منهما، وقد يقال: "بينا زيد جالس إذ دخل عليه عمرو" و"إذا دخل عليه عمرو".

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم بمحمد" أي: ثم استغاثوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  وفيه اختصار؛ إذ يستغاث بغير آدم وموسى أيضا، وسيأتي في الرقاق في حديث طويل في الشفاعة ذكر من يقصدونه بين آدم وموسى وبين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وزاد عبد الله" يحتمل التعليق حيث لم يضفه إلى نفسه ولم يقل: "زادني" قال الكرماني: ولعل المراد بما حكى الغساني، عن أبي عبد الله الحاكم "أن البخاري لم يخرج عن عبد الله بن صالح كاتب الليث في الصحيح شيئا" أنه لم يخرج عنه حديثا تاما مستقلا.

                                                                                                                                                                                  قلت: قد ذكرنا عن قريب أنه روى عنه ولم ينسبه على وجه التدليس.

                                                                                                                                                                                  قوله: "زاد عبد الله" هكذا وقع عند أبي ذر، وسقط عند الأكثرين، وفي التلويح: قول البخاري: "وزاد عبد الله" يعني ابن صالح كاتب الليث بن سعد، قاله أبو نعيم الأصبهاني، وخلف في الأطراف، ووقع أيضا في [ ص: 58 ] بعض الأصول منسوبا، وفي الإيمان لابن منده من طريق أبي زرعة الراوي عن يحيى بن بكير وعبد الله بن صالح جميعا، عن الليث، وساقه بلفظ عبد الله بن صالح، وقد رواه موصولا من طريق عبد الله بن صالح وحده البزار، عن محمد بن إسحاق الصاغاني، والطبراني في الأوسط، عن مطلب بن شعيب، وابن منده في كتاب الإيمان من طريق يحيى بن عثمان، ثلاثتهم عن عبد الله بن صالح فذكره، وزاد بعد قوله: "استغاثوا بآدم، فيقول: لست بصاحب ذلك" وتابع عبد الله بن صالح على هذه الزيادة عبد الله بن عبد الحكم، عن الليث .. أخرجه ابن منده أيضا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بحلقة الباب" أي: باب الجنة أو هو مجاز عن القرب إلى الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: "مقاما محمودا" هو مقام الشفاعة العظمى التي اختصت به لا شريك له في ذلك، وهو إراحة أهل الموقف من أهواله بالقضاء بينهم والفراغ من حسابهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أهل الجمع" أي: أهل المحشر، وهو يوم مجموع فيه جميع الناس من الأولين والآخرين.

                                                                                                                                                                                  (ومما يستفاد منه) ما نقل ابن بطال عن المهلب: فهم البخاري أن الذي يأتي يوم القيامة لا لحم في وجهه من كثرة السؤال أنه للسائل تكثرا لغير ضرورة إلى السؤال، ومن سأل تكثرا فهو غني لا تحل له الصدقة، وإذا جاء يوم القيامة لا لحم على وجهه فتؤذيه الشمس أكثر من غيره، ألا ترى قوله في الحديث: "الشمس تدنو حتى يبلغ العرق" فحذر صلى الله عليه وسلم من الإلحاف في المسألة لغير حاجة إليها، وأما من سأل مضطرا فمباح له ذلك إذا لم يجد عنها بدا ورضي بما قسم له، ويرجى أن يؤجر عليها.

                                                                                                                                                                                  وقال في مواضع أخر: يبلغ عرق الكافر، فإما أن يكون سكت عنه للتتابع في الموعظة، ولا يقول إلا الحق، أو سقط عن الناقل، أو أخبر في وقت بذلك مجملا، ثم حدث به مفسرا.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية