الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  135 1 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه : أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ ، قال رجل من حضرموت : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : فساء أو ضراط .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل : إن الحديث ليس بمطابق للترجمة; لأن الترجمة عام والحديث خاص ، وجوابه أنه وإن كان خاصا ولكنه يستدل به على أن الأعم منه نحوه ، بل أولى على أنا قلنا : إن الأحاديث التي تطابق الترجمة بحسب الظاهر ليست على شرطه ، فلذلك لم يذكرها ، وحديث أبي هريرة هذا على شرطه ، فذكره عوضا عنها لأنه يقوم مقامها من الوجه الذي ذكرناه الآن .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 244 ] ( بيان رجاله ) وهم خمسة كلهم ذكروا ، وأخرج أصحاب الستة للجميع إلا إسحاق بن راهويه ، فإن ابن ماجه لم يخرج له ، وإسحاق بن إبراهيم هو المشهور بابن راهويه ، وعبد الرزاق هو ابن همام ، ومعمر هو ابن راشد ، ومنبه بضم الميم وفتح النون وتشديد الباء الموحدة المكسورة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ، ومنها أن رواته كلهم يمانيون إلا إسحاق ، ومنها أنهم كلهم أئمة أجلاء أصحاب مسانيد .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في ترك الحيل عن إسحاق بن نصر ، وأخرجه مسلم في الطهارة عن محمد بن رافع ، وأبو داود فيه عن أحمد بن حنبل ، والترمذي فيه عن محمود بن غيلان كلهم عن عبد الرزاق به ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات ) قوله : " أحدث " أي : وجد منه الحدث أو أصابه الحدث أو دخل في الحدث من الحدوث وهو كون شيء لم يكن .

                                                                                                                                                                                  قال الصغاني : أحدث الرجل من الحدث ، فأما قول الفقهاء : أحدث أي أتى منه ما نقض طهارته فلا تعرفه العرب .

                                                                                                                                                                                  قوله : " من حضرموت " بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وفتح الميم وهو اسم بلد باليمن وقبيلة أيضا ، وهما اسمان جعلا اسما واحدا ، والاسم الأول منه مبني على الفتح على الأصح إن قيل ببنائهما ، وقيل : بإعرابهما فيقال : حضرموت برفع الراء وجر التاء . وقال الزمخشري : فيه لغتان : التركيب ومنع الصرف ، والثانية الإضافة ، فإذا أضيف جاز في المضاف إليه الصرف وتركه . وفي المطالع حضرموت من بلاد اليمن وهذيل ، ويقال : حضرموت بضم الميم والنسبة إليه حضرمي والتصغير حضيرموت ، يصغر المصدر منهما ، وكذلك الجمع فيقال فلان من الحضارمة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فساء " بضم الفاء وبالمد ، والضراط بضم الضاد وهما مشتركان في كونهما ريحا خارجا من الدبر ممتازان بكون الأول بدون الصوت ، والثاني مع الصوت . وفي الصحاح : فسا يفسو فسوا ، والاسم الفساء بالمد وتفاست الخنافس إذا أخرجت استها لذلك . وفي العباب قال ابن دريد : الضراط معروف يقال : ضرط يضرط ضرطا وضروطا وضريطا وضراطا .

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) قوله : " يقول " جملة وقعت حالا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لا يقبل الله " ... إلى آخره مقول القول .

                                                                                                                                                                                  قوله : " صلاة " منصوب أو مرفوع على اختلاف الروايتين مضاف إلى قوله : " من " وهي موصولة ، وأحدث جملة صلتها .

                                                                                                                                                                                  قوله : " حتى " للغاية بمعنى إلى ، والمعنى عدم قبول الصلاة مغيا بالتوضؤ .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال رجل " فعل وفاعل وقوله " من حضرموت " جملة في محل الرفع على أنها صفة لرجل .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ما الحدث " جملة من المبتدأ والخبر وقعت مقول القول .

                                                                                                                                                                                  قوله : " يا با هريرة " حذفت الهمزة للتخفيف .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فساء " مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو فساء أي : الحدث فساء أو ضراط .

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) قوله : " لا يقبل الله صلاة من أحدث " كذا وقع في بعض النسخ ، وهكذا هو في رواية البخاري في ترك الحيل عن إسحاق بن نصر ، وكذا روى أبو داود عن أحمد بن حنبل كلاهما عن عبد الرزاق ، وفي أكثر النسخ " لا تقبل صلاة من أحدث " على البناء لما لم يسم فاعله ، والمراد بالقبول هنا ما يرادف الصحة وهو الإجزاء ، وحقيقة القبول وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة ، ولما كان الإتيان بشروطها مظنة الإجزاء الذي هو القبول عبر عنه بالقبول مجازا ، وأما القبول المنفي في مثل قوله عليه الصلاة والسلام : " من أتى عرافا لم تقبل له صلاة " فهو الحقيقي لأنه قد يصح العمل ، ولكن يتخلف القبول لمانع ، ولهذا كان يقول بعض السلف : لأن تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من جميع الدنيا . والتحقيق ها هنا أن القبول يراد به شرعا حصول الثواب ، وقد تخلف عن الصحة بدليل صحة صلاة العبد الآبق وشارب الخمر ما دام في جسده شيء منها والصلاة في الدار المغصوبة على الصحيح عند الشافعية أيضا ، وأما ملازمة القبول للصحة ففي قوله عليه الصلاة والسلام " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " والمراد بالحائض من بلغت سن الحيض ، فإنها لا تقبل صلاتها إلا بالسترة ، ولا تصح ولا تقبل مع انكشاف العورة ، والقبول يفسر بترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء ، فقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ " عام في عدم القبول في جميع المحدثين في جميع أنواع الصلاة ، والمراد بالقبول وقوع الصلاة مجزئة بمطابقتها للأمر ، فعلى هذا يلزم من القبول الصحة ظاهرا وباطنا ، وكذلك العكس ، ونقل عن بعض المتأخرين أن الصحة عبارة عن ترتب الثواب والدرجات على العبادة ، والإجزاء عبارة عن مطابقة الأمر فهما متغايران أحدهما أخص من الآخر ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، فالقبول على هذا [ ص: 245 ] التفسير أخص من الصحة ، فكل مقبول صحيح ولا عكس .

                                                                                                                                                                                  قوله : " من أحدث " قد قلنا : إن معناه من وجد منه الحدث وهو عبارة عما نقض الوضوء وهو بموضوعه يطلق على الأكبر كالجنابة والحيض والنفاس ، والأصغر كنواقض الوضوء ، وقد يسمى المنع المرتب عليه حدثا ، وبه يصح قولهم : رفعت الحدث ونويت رفعه ، وإلا استحال ما يرفع أن لا يكون رافعا ، وكأن الشارع جعل أمد المنع المرتب على خروج الخارج إلى استعمال المطهر ، وبهذا يقوى قول من يرى أن التيمم يرفع الحدث لكون المرتفع هو المنع وهو مرتفع بالتيمم لكنه مخصوص بحالة ما أو بوقت ما ، وليس ذلك ببدع ، فإن الأحكام قد تختلف باختلاف محلها ، وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبا لكل صلاة ، فقد ثبت أنه كان مختصا بوقت مع كونه رافعا للحدث اتفاقا ، ولا يلزم من انتهائه في ذلك الوقت بانتهاء وقت الصلاة إلا يكون رافعا للحدث ، ثم زال ذلك الوجوب كما عرف .

                                                                                                                                                                                  وقد ذكر الفقهاء أن الحدث وصف حكمي مقدر قيامه بالأعضاء على معنى الوصف الحسي ، وينزلون الوصف الحكمي منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء ، فمن يقول بأن التيمم لا يرفع الحدث يقول : إن الأمد المقدر الحكمي باق لم يزل ، والمنع الذي هو مرتب عليه التيمم زائل .

                                                                                                                                                                                  قوله : " حتى يتوضأ " نفى القبول إلى غاية وهو الوضوء ، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها ، فاقتضى قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا ، ودخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيا ، وتحقيقه أن لفظ صلاة اسم جنس فيعم .

                                                                                                                                                                                  ثم اعلم أن معنى قوله : " حتى يتوضأ " بالماء أو ما يقوم مقامه لأنه قد أتى بما أمر به على أن التيمم من أسمائه الوضوء ، قال عليه الصلاة والسلام : " الصعيد الطيب وضوء المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين " رواه النسائي بإسناد صحيح عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه ، فأطلق الشارع على التيمم أنه وضوء لكونه قام مقامه ، وإنما اقتصر على ذكر الوضوء نظرا إلى كونه الأصل ، وهاهنا قيد آخر ترك ذكره للعلم به وهو حتى يتوضأ مع باقي شروط الصلاة ، والضمير في قوله : " حتى يتوضأ " يرجع إلى قوله : " من أحدث " .

                                                                                                                                                                                  وسماه محدثا وإن كان طاهرا باعتبار ما كان كما في قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم وقوله " حتى يتوضأ " هو آخر الحديث والباقي إدراج والظاهر أنه من همام .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فساء أو ضراط " قال ابن بطال : إنما اقتصر على بعض الأحداث لأنه أجاب سائلا سأله عن المصلي يحدث في صلاته ، فخرج جوابه على ما سبق المصلي من الإحداث في صلاته ; لأن البول والغائط ونحوهما غير معهود في الصلاة ، وقال الخطابي : لم يرد بذكر هذين النوعين تخصيصهما وقصر الحكم عليهما ، بل دخل في معناه كل ما يخرج من السبيلين ، والمعنى إذا كان أوسع من الحكم كان الحكم للمعنى ، ولعله أراد به أن يثبت الباقي بالقياس عليه للمعنى المشترك بينهما .

                                                                                                                                                                                  قلت : ولعل ذلك لأن ما هو أغلظ من الفساء بالطريق الأولى ، ويحتمل أن يقال : المجمع عليه من أنواع الحدث ليس إلا الخارج النجس من المعتاد ، وما يكون مظنة له كزوال العقل ، فأشار إليه على سبيل المثال كما يقال : الاسم زيد أو كزيد ، ويسمى مثله تعريفا بالمثال أو يقال : كان أبو هريرة يعلم أنه عارف بسائر أنواع الحدث جاهل بكونهما حدثا ، فتعرض لحكمهما بيانا لذلك ، كذا قال بعض الشارحين ، وفيه بعد والأقرب أن يقال : إنه أجاب السائل بما يحتاج إلى معرفته في غالب الأمر كما ورد نحو ذلك في حديث آخر " لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه الدلالة على أن الصلوات كلها مفتقرة إلى الطهارة ، ويدخل فيها صلاة الجنازة والعيدين وغيرهما ، وحكي عن الشعبي ومحمد بن جرير الطبري أنهما أجازا صلاة الجنازة بغير وضوء وهو باطل لعموم هذا الحديث والإجماع ، ومن الغريب أن قولهما قال به بعض الشافعية ، فلو صلى محدثا متعمدا بلا عذر أثم ولا يكفر عند الجمهور ، وبه قالت الشافعية ، وحكي عن أبي حنيفة أنه يكفر لتلاعبه .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه الدليل على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختياريا أو اضطراريا لعدم التفرقة في الحديث بين حدث وحدث في حالة دون حالة .

                                                                                                                                                                                  الثالث : قال بعض الشارحين : هذا الحديث رد على من يقول : إذا سبقه الحدث يتوضأ ويبني على صلاته.

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا قول أبي حنيفة رحمه الله ، وحكي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم ، وهو ليس يرد عليهم أصلا لأن من سبقه الحدث إذا ذهب وتوضأ وبنى على صلاته يصدق عليه أنه توضأ وصلى بالوضوء ، وإن كان القياس يقتضي بطلان صلاته على أنه ورد الأثر فيه .

                                                                                                                                                                                  الرابع : قال الكرماني : فيه أن الطواف لا يجزئ بغير طهور لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سماه صلاة فقال : الطواف صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام .

                                                                                                                                                                                  قلت : اشتراط الطهارة للطواف بخبر [ ص: 246 ] الواحد زيادة على النص وهي نسخ فلا يثبت به وهو قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت غير أنا نقول بوجوبها لخبر الواحد ، ومعنى الحديث الطواف كالصلاة ، والتشبيه في الثواب دون الحكم لأن التشبيه لا عموم له ، ألا ترى أن الانحراف والمشي فيه لا يفسده .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية