الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1442 112 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تدرك بدقة النظر؛ وذلك أن الحديث يدل على تأكيد الأمر بالحج حتى إن المكلف لا يعذر بتركه عند عجزه عن المباشرة بنفسه، بل يلزمه أن يستنيب غيره، وهذا يدل على أن في مباشرته فضلا عظيما، فمن هذا تؤخذ المطابقة بين الترجمة والحديث، وسيأتي باب مستقل في فضل الحج إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  ورجاله قد ذكروا غير مرة، وسليمان بن يسار -ضد اليمين- تقدم في الوضوء.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره):

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا عن القعنبي عن مالك، وعن موسى بن إسماعيل في المغازي.

                                                                                                                                                                                  وقال محمد بن يوسف: حدثنا الأوزاعي. وفيه وفي الاستئذان عن أبي اليمان عن شعيب، كلهم عن الزهري.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي به.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع عن روح بن عبادة، وليس فيه صدر الحديث.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، وعن قتيبة، وعن أبي داود الحراني، وعن عثمان بن عبد الله، وعن مجاهد بن موسى، وعن محمود بن خالد.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، الحديث.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما قيل في هذا الحديث):

                                                                                                                                                                                  قال أبو العباس الطرقي: مدار هذا الحديث على ابن شهاب، وقد اختلف عنه في إسناده، رواه ابن جريج عنه، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عباس، عن الفضل بن عباس، وهو الصحيح عندي، والحديث حديث الفضل؛ لأنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة النحر من المزدلفة إلى منى، وعبد الله بن عباس قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من جمع بليل، وروي عنه أنه قال: "مشيت على رجلي" في سياق "إلى منى" فقد دل غير شاهد واحد على أن عبد الله لم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وإنما سمع ذلك من الفضل كما جاء في حديث ابن عباس حين دفعوا عشية عرفة: "عليكم بالسكينة".

                                                                                                                                                                                  قال عبد الله: وأخبرني الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وكذلك روى مسلم قال: حدثني علي بن خشرم قال: أخبرنا عيسى، عن ابن جريج، عن ابن شهاب قال: حدثنا سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن الفضل أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، فقال النبي [ ص: 124 ] صلى الله عليه وسلم: فحجي عنه.

                                                                                                                                                                                  وأخرج مسلم أيضا عن يحيى بن يحيى عن مالك نحو رواية البخاري.

                                                                                                                                                                                  وقال الترمذي: وروي عن ابن عباس أيضا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فسألت محمدا عن هذه الروايات فقال: أصح شيء في هذا ما روي عن ابن عباس عن الفضل بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال محمد: ويحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روي هكذا فأرسله، ولم يذكر الذي سمعه منه.

                                                                                                                                                                                  قال أبو عيسى : وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث، قيل: قول الترمذي: وروي عن ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني، عن عمته، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه نظر من حيث إن الموجود بهذا الإسناد هو حديث آخر في المشي إلى الكعبة لا عن الكبير العاجز، رواه الطبراني من رواية عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن كريب، عن كريب، عن ابن عباس، عن سنان بن عبد الله الجهني، أن عمته حدثته "أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله توفيت أمي وعليها مشي إلى الكعبة نذرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تستطيعين أن تمشين عنها؟ قالت: نعم، قال: فامشي عن أمك، قالت: أويجزئ ذلك عنها؟ قال: نعم، أرأيت لو كان عليها دين ثم قضيتيه عنها هل كان يقبل منك؟ قالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فالله أحق بذلك".

                                                                                                                                                                                  وأجيب عنه بأنه أراد أن يبين الاختلاف في هذا الحديث عن ابن عباس في المتن والإسناد معا، وهذا اختلاف في متنه.

                                                                                                                                                                                  وقال الترمذي في (العلل الكبير) عن محمد : الصحيح الزهري عن سليمان عن ابن عباس عن الفضل.

                                                                                                                                                                                  (قلت): كان عبد الله يرويه عن الفضل وعن حصين بن عوف قال: أرجو أن يكون صحيحا، ويحتمل أن يكون عبد الله روى هذا عن غير واحد ولم يذكر الذي سمعه منه، ويحتمل أن يكون كله صحيحا.

                                                                                                                                                                                  (قلت): حديث حصين رواه ابن ماجه عن ابن نمير، عن أبي خالد الأحمر، عن محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس، أخبرني حصين قلت: "يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج إلا معترضا، فصمت ساعة ثم قال: حج عن أبيك".

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه): قوله: "كان الفضل" هو الفضل بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو عبد الله ويقال: أبو محمد ويقال: أبو العباس المدني ابن عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية، وكان شقيق عبد الله بن عباس، رواه عنه أخوه عبد الله بن عباس وغيره.

                                                                                                                                                                                  وقيل: لم يسمع منه سوى أخيه عبد الله وأبي هريرة، ومن عداهما فروايته عنه مرسلة، قتل يوم اليرموك في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  وقيل: قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو داود: قتل بدمشق.

                                                                                                                                                                                  وقال الواقدي: مات بالشام في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن سعد: كان أسن ولد عباس رضي الله تعالى عنهما، خرج إلى الشام مجاهدا فمات بناحية الأردن في طاعون عمواس في سنة ثماني عشرة من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو الذي يركب وراء الراكب، وقد جمع ابن منده الأصفهاني كتابا فيه أسماء من أردفه سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معه على الدابة، فبلغ بهم نيفا وثلاثين رجلا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فجاءت امرأة من خثعم" - بفتح الخاء المعجمة وسكون الثاء المثلثة وفتح العين المهملة - وهي قبيلة باليمن، وفي رواية: "وقالت امرأة من جهينة" وهاتان القبيلتان لا تجتمعان؛ لأن جهينة هو ابن زيد بن ليث بن الأسود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وخثعم هو ابن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان.

                                                                                                                                                                                  وفي (التوضيح) هذه المرأة يجوز أن تكون غاثية أو غايثة بالغين المعجمة فيهما، واعلم أنه قد اختلفت طرق الأحاديث في السائل عن ذلك هل هو امرأة أو رجل، وفي المسئول عنه أن يحج عنه أيضا، هل هو أب أو أم أو أخ، فأكثر طرق الأحاديث الصحيحة دالة على أن السائل امرأة، وأنها سألت عن أبيها كما هو في أكثر طرق حديث الفضل، وأكثر طرق عبد الله بن عباس، وكذلك في حديث علي رضي الله تعالى عنه "قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة" الحديث.

                                                                                                                                                                                  وفيه: "فاستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير" الحديث، وفي رواية للنسائي في حديث الفضل أن السائل رجل سأل عن أمه، وفي (صحيح ابن حبان) في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن السائل رجل سأل عن أبيه، وعند النسائي أيضا أن امرأة سألته عن أبيها مات ولم يحج، وفي حديث بريدة أخرجه الترمذي أن امرأة سألت عن أمها.

                                                                                                                                                                                  وفي حديث حصين بن عوف رواه [ ص: 125 ] ابن ماجه، وفي حديث أبي رزين العقيلي أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وفي حديث سودة رواه أحمد في (مسنده)، وفي حديث عبد الله بن الزبير أخرجه النسائي أن السائل رجل سأله عن أبيه، وفي حديث سنان بن عبد الله أن عمته حدثته رواه الطبراني، وقد ذكرناه عن قريب.

                                                                                                                                                                                  وفيه "أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله توفيت أمي" الحديث.

                                                                                                                                                                                  والجمع بين هذه الروايات ما قاله شيخنا زين الدين رحمه الله: إن السؤال وقع مرات، مرة من امرأة عن أبيها، ومرة من امرأة عن أمها، ومرة من رجل عن أمه، ومرة من رجل عن أبيه، ومرة من رجل عن أخيه، ومرة في السؤال عن الشيخ الكبير، ومرة في الحج عن الميت.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): هل يعلم السائل عن هذا رجلا كان أو امرأة؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): أما الرجل فقد سمي من السائلين من ذلك حصين بن عوف كما ذكره ابن ماجه، وسمي منهم أبو رزين لقيط بن عامر، كما هو عند أصحاب السنن، وأما النساء فلم يسم منهن أحد إلا في رواية سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وعمته لم تسم، وفي حديث النسائي "إن أحد النساء امرأة سنان بن سلمة الجهني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت" الحديث، والمرأتان ذكرتا في الحج عن الميت لا عن المعضوب -وهو بالعين المهملة والضاد المعجمة -الزمن الذي لا حراك به.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فجعل الفضل" كلمة جعل من أفعال المقاربة، وجعل وضع لدنو الخبر على وجه الشروع فيه والأخذ في فعله، وقوله: "الفضل" اسم جعل، وقوله: "ينظر إليها" في محل النصب خبره، أي: إلى المرأة المذكورة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وتنظر إليه" أي: تنظر المرأة إلى الفضل، والكلام في قوله: "وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف" مثل الكلام في "جعل الفضل".

                                                                                                                                                                                  قوله: "إلى الشق" أي: إلى الجنب الآخر، وهو بكسر الشين المعجمة وتشديد القاف.

                                                                                                                                                                                  قوله: "شيخا" نصب على الحال، و"كبيرا" صفة "شيخا" وقوله: "لا يثبت" أيضا في محل النصب على الحال، فهما حالان متداخلتان، ويجوز أن يكون "لا يثبت" صفة لـ"شيخا" ومعناه: وجب عليه الحج بأن أسلم وهو شيخ، وحصل له المال في هذه الحالة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أفأحج عنه" الهمزة للاستفهام، والفاء عاطفة على مقدر بعد الهمزة، والتقدير: أنوب عنه فأحج، وإنما قدرنا هكذا؛ لأن الهمزة تقتضي الصدارة، والفاء تقتضي عدمها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وذلك في حجة الوداع" بكسر الحاء وفتحها، وسميت بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، وليست هذه الإضافة للتقييد التمييزي؛ لأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة وهي هذه الحجة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه):

                                                                                                                                                                                  فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة، والإرداف للسادة والرؤساء سائغ، ولا سيما في الحج لتزاحم الناس ومشقة سير الرجالة، ولأن الركوب فيه أفضل كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  وفيه دلالة على أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام، وهو إجماع كما حكاه أبو عمر، ويحتمل -كما قال ابن التين- أنها سدلت ثوبا على وجهها.

                                                                                                                                                                                  وفيه في نظر الفضل مغالبة طباع البشر لابن آدم، وضعفه عما ركب فيه من الشهوات.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن العالم يغير ما أمكنه إذا رآه، واستدل ابن المنذر من حديث ابن عباس قال: "كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فجعل الفضل يلاحظ النساء وينظر إليهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له" ولم ينقل أنه نهى المرأة عن النظر إليه، وكان الفضل وسيما أي: جميلا.

                                                                                                                                                                                  ويحتمل أن يكون الشارع اجترأ بنفع الفضل لما رأى أنها تعلم بذلك منع نظرها إليه؛ لأن حكمهما واحد أو تنبهت لذلك، أو كان ذلك الموضع هو محل نظره الكريم فلم يصرف نظرها.

                                                                                                                                                                                  وقال الداودي: فيه احتمال أن ليس على النساء غض أبصارهن عن وجوه الرجال إنما تغضضن عن عورتهن.

                                                                                                                                                                                  وقال بعض المالكية: ليس على المرأة تغطية وجهها؛ لهذا الحديث، وإنما على الرجل غض البصر.

                                                                                                                                                                                  وقيل: إنما لم يأمرها بتغطية وجهها لأنه محل إحرامها، وصرف وجه الفضل بالفعل أقوى من الأمر.

                                                                                                                                                                                  وذهب ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم إلى أن المراد في قوله تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أي: الوجه والكفان.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز الحج عن غيره إذا كان معضوبا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.

                                                                                                                                                                                  وقال مالك والليث والحسن بن صالح: لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام.

                                                                                                                                                                                  وحاصل ما في مذهب مالك ثلاثة أقوال، مشهورها: لا يجوز ثانيها، يجوز من الولد ثالثها، يجوز إن أوصى به. وعن النخعي وبعض السلف لا يصح الحج عن ميت ولا عن غيره وهي رواية [ ص: 126 ] عن مالك، وإن أوصى به. وفي (مصنف) ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: لا يحج أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد، وكذا قال إبراهيم النخعي.

                                                                                                                                                                                  وقال الشافعي: والجمهور يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره، سواء أوصى به أو لم يوص، وهو واجب في تركته.

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب (التوضيح): وعندنا يجوز الاستنابة في حجة التطوع على أصح القولين، والحديث حجة على الحسن بن حي في قوله: "إن المرأة لا يجوز أن تحج عن الرجل" وهو حجة لمن أجازه.

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي: فيه جواز الحج عن غيره إذا كان معضوبا، ولم يجزه مالك، وهو راوي الحديث، وهو حجة عليه.

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب (الهداية): الأصل أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صدقة أو صوما أو غيرها عند أهل السنة والجماعة؛ لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بكبشين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته.

                                                                                                                                                                                  والعبادات أنواع: مالية محضة كالزكاة، وبدنية كالصلاة، ومركب منهما كالحج، والنيابة تجزئ في النوع الأول ولا تجزئ في الثاني بحال، وتجزئ في النوع الثالث عند العجز ولا تجزئ عند القدرة، والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت، وظاهر المذهب أن الحج يقع عن المحجوج عنه؛ لحديث الخثعمية، وعند محمد أن الحج يقع عن الحاج وللآخر ثواب النفقة.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال: اختلفوا في المريض يأمر بمن يحج عنه ثم يصح بعد ذلك، فقال الكوفيون والشافعي وأبو ثور: لا يجزيه وعليه أن يحج.

                                                                                                                                                                                  وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الحج عنه.

                                                                                                                                                                                  وكذا من مات من مرضه وقد حج عنه، فقال الكوفيون وأبو ثور: يجزيه عن حجة الإسلام، وللشافعي قولان: أحدهما هذا، والآخر لا يجزئ عنه وهو أصح القولين.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عبد البر: اختلف أهل العلم في معنى هذا الحديث، فإن جماعة منهم ذهبوا إلى أن هذا الحديث مخصوص به أبو الخثعمية، لا يجوز أن يتعدى به إلى غيره بدليل قوله تعالى: من استطاع إليه سبيلا وكان أبوها ممن لا يستطيع فلم يكن عليه الحج، فلما لم يكن عليه لعدم استطاعته كانت ابنته مخصوصة بذلك الجواب، وممن قال ذلك مالك وأصحابه؛ لأن الحج عندهم من عمل البدن فلا ينوب فيه أحد عن أحد، قياسا على الصلاة، وذكر ابن حزم من حديث إبراهيم بن محمد العدوي أن امرأة قالت: إن أبي شيخ كبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنه وليس لأحد بعده وكذا رواه محمد بن حبان الأنصاري: أن امرأة قالت. الحديث. وفيه: ليس لأحد بعده وضعفهما بالإرسال وغيره.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين: الاستطاعة أن يقدر على الوصول إلى البيت من غير خروج عن عادة فمن كان عادته السفر ماشيا لزمه أن يمشي وإن لم يجد راحلة، ومن كان عادته تكفف الناس وأمكنه التوصل به لزمه وإن لم يجد زادا، ومن كان عادته الركوب والغناء عن الناس لم يلزمه حج إلا بوجدان ذلك.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال: وإلى هذا ذهب ابن الزبير وعكرمة والضحاك. وعند أبي حنيفة والشافعي: لا يلزم إلا من وجد زادا وراحلة، وهو قول الحسن ومجاهد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وعبد العزيز بن أبي سلمة وسحنون، وظاهر قول ابن حبيب.

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي: مالك وأصحابه رأوا أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وإن الأصل في الاستطاعة هي القوة بالبدن قال تعالى: فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا أي: ما قدروا ولا قووا.

                                                                                                                                                                                  فإذا قال القائل: "فلان مستطيع أو غير مستطيع" فالظاهر منه السابق إلى الفهم هي القدرة وإتيانها، فلما عارض ظاهر الحديث ظاهر القرآن العزيز رجح مالك ظاهر القرآن.

                                                                                                                                                                                  والجواب أن حديث الزاد والراحلة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، منها صحيح ومنها حسن.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قال ابن حزم : الأخبار في ذلك في أحدها إبراهيم الجوزي وهو ساقط مطروح، وفي الثاني الحارث الأعور وهو مذكور بالكذب، والثالث مرسل ولا حجة فيه، والروايات في ذلك عن الصحابة واهية كلها، وتبعه على ذلك ابن العربي وغيره.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر : روي ذلك من وجوه، منها مرسلة ومنها ضعيفة، والجواب عن هذا أن حديث أنس الذي مضى ذكره في أول باب وجوب الحج أخرجه الحاكم على شرط مسلم، وهو حديث صحيح.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قال البيهقي وذكر رواية حماد وسعيد: لا أرى إلا وهما؛ لأن ابن أبي عروبة روى عن قتادة عن الحسن مرسلا، وهو المحفوظ، وكذا رواه يونس بن عبيد.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا ظن منه وتوهم من غير جزم، والظن لا تضعف به الأحاديث ولا تقوى.

                                                                                                                                                                                  وقوله: "وكذا رواه يونس" غير موجه؛ لأن الدارقطني روى من حديث حصين بن مخارق عنه، عن الحسن، عن أنس رضي الله تعالى عنه، الحديث مسندا بلفظ: "يا رسول الله ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة".

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قال ابن المنذر : الحديث [ ص: 127 ] الذي فيه ذكر الزاد والراحلة ليس بمتصل.

                                                                                                                                                                                  (قلت): الحديث الذي ذكرناه متصل.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قال ابن المنذر أيضا: والدليل على عدم اعتبار الراحلة حديث "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" فجعل صحة الجسم مساوية للغنى، فسقط قول من اعتبر الراحلة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لا نسلم ذلك، فإن الحديث مفسر للاستطاعة في الآية وهو مبين عن الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قال إسماعيل بن إسحاق: لو أن رجلا كان في موضع يمكنه المشي إلى الحج وهو لا يملك راحلة لوجب عليه الحج؛ لأنه مستطيع إليه سبيلا.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لا نسلم ذلك؛ لأن الاستطاعة فسرت بالزاد والراحلة.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): ما روي عن السلف في ذلك أن السبيل الزاد والراحلة، وإنما أرادوا به التغليظ على من ملك هذا المقدار ولم يحج.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لا نسلم ذلك بل أرادوا به التشريع.

                                                                                                                                                                                  وفيه ما يدل على أنه ما يجوز للرجل أن يحج عن غيره وإن لم يكن حج عن نفسه؛ لإطلاق الحديث، ولم يسأله صلى الله عليه وسلم: أحججت عن نفسك أم لا؟ وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، ويحكى كذلك عن الحسن وإبراهيم وأيوب وجعفر بن محمد.

                                                                                                                                                                                  وقال الأوزاعي والشافعي وإسحاق: ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره، فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام.

                                                                                                                                                                                  وقال عبد العزيز: يقع الحج باطلا ولا يصح عنه ولا عن غيره، وروي ذلك عن ابن عباس.

                                                                                                                                                                                  وفي (مسند الشافعي): حدثنا سعيد بن سالم، عن سفيان بن سعيد، عن طارق بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سألته عن الرجل لم يحج أيستقرض للحج؟ قال: لا، واحتجوا بما رواه أبو داود ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك وحج عن شبرمة " وروي أيضا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صرورة في الإسلام".

                                                                                                                                                                                  والجواب عنه ما قاله الطحاوي : إن حديث شبرمة معلول، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، والذي يصح في هذا المعنى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من رواية ابن عباس: سئل عن رجل لم يحج أيحج عن غيره؟ فقال: "دين الله عز وجل أحق أن يقضيه" وليس فيه أنه لو أحرم عن غيره كان ذلك الإحرام عن نفسه.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: يحمل على الندب؛ لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".

                                                                                                                                                                                  وقال الأثرم: قال أبو عبد الله: رفعه عبدة بن سليمان وهو خطأ، وقد رواه عدة موقوفا على ابن عباس ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية همام عن قتادة، عن سعيد بن جبير موقوف، وكذا قال أبو قلابة عن ابن عباس.

                                                                                                                                                                                  وقال مهنا: قلت لأبي عبد الله : حديث عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن ابن جبير، عن ابن عباس سمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رجلا يلبي عن شبرمة قال: ليس بصحيح، إنما هو عن ابن عباس، حدثني غير واحد عن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن ابن عباس مرسلا. ورواه روح، عن حماد بن مسلمة، عن أيوب، عن عكرمة، ورواه عن ابن عباس مرسلا، ورواه إسماعيل عن ابن جريج، عن عطاء، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يذكر ابن عباس.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قال أبو عمر : الذي رفعه حافظ حفظ ما قصر عنه غيره، فوجب قبول زيادته.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن قطان : الرافعون له ثقات فلا يضرهم وقف الواقفين له؛ إما لأنهم حفظوا ما لم يحفظه أولئك، وإما لأن الواقفين رووا عن ابن عباس رواية وأولئك رواية.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا الحديث مما يعلم بالضرورة توقيفه؛ لأن الحج إنما كان في سنة عشر سنة حج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمع الرجل يلبي عن غيره في تلك الحجة فكيف يسوغ قوله: "أحججت عن نفسك؟" أيحج أحد إلى غير البيت، وفي غير ذلك الوقت فليتأمل هذا فإنه واضح.

                                                                                                                                                                                  وروى الدارقطني من حديث الحسن بن عمارة، عن عبد الملك، عن طاوس، عن ابن عباس سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجلا يلبي عن نبيشة فقال: أيها الملبي عن نبيشة، هذه عن نبيشة، واحجج عن نفسك " قال الدارقطني : الحسن متروك الحديث، والمحفوظ الصحيح عن ابن عباس حديث شبرمة، وذكر أبو نعيم الأصبهاني شبرمة هذا في كتاب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وذكر له هذا الحديث، وأنه توفي في حياة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  وأما قوله: "لا صرورة في الإسلام" فقد قال الخطابي: إن الصرورة هو الذي أقلع عن النكاح بالكلية وأعرض عنه كرهبان النصارى. وله معنى آخر وهو أنه الذي لم يحج، فيكون معناه أن سنة الدين أن لا يبقى من الناس من يستطيع الحج إلا ويحج، وهذا ليس فيه دليل على أن من لم يحج [ ص: 128 ] عن نفسه لا يحج عن غيره.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: هذا مبني على أن الحج على الفور أو التراخي، فذهب الشافعي إلى أنه على التراخي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن، وهو المروي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس.

                                                                                                                                                                                  وقال مالك وأبو يوسف هو على الفور، وهو قول المزني وقول جمهور أصحاب أبي حنيفة، ولا نص لأبي حنيفة في ذلك.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو يوسف: مذهبه يقتضي أنه على الفور وهو الصحيح، ذكره الطرطوشي واحتج لهم بما رواه الحاكم من حديث مهران بن أبي صفوان عن ابن عباس يرفعه " من أراد الحج فليعجل ".

                                                                                                                                                                                  وقال أبو زرعة: مهران لم يعرف.

                                                                                                                                                                                  وقال الحاكم: كان مولى لقريش ولا يعرف بجرح، وذكره ابن حبان في (الثقات) وصحح حديثه أيضا أبو محمد الإشبيلي وفي لفظ لأبي داود من حديث إسماعيل بن أبي إسحاق الملائي فيه لين عن فضيل بن عمرو عن سعيد بن جبير، عن عبد الله أو عن الفضل أو أحدهما عن الآخر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد الحج فليعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة " .

                                                                                                                                                                                  وفي (مسند أحمد): "تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" واحتج الشافعي وأصحابه بأن فريضة الحج نزلت بعد الهجرة، وكان الفتح في رمضان سنة ثمان فأقام عتاب للناس الحج سنة ثمان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة ومعه عامة أصحابه، ثم غزا تبوك سنة تسع ولم يحج، وكان انصرافه عنها قبل الحج، فبعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فأقام للناس الحج تلك السنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم معتمر هو وأزواجه وأصحابه مع القدرة على الحج، ثم حج سنة عشر، فدل على جواز التأخير.

                                                                                                                                                                                  وفيه دليل على أن المرأة يجوز لها أن تحج عن الرجل، وهو حجة على الحسن بن حي رحمه الله تعالى في منعه عن ذلك.

                                                                                                                                                                                  وفيه بر الوالدين بالقيام بمصالحهما من قضاء الديون وغيره.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز أن يقال: حجة الوداع، بدون كراهة.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية