الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1473 141 - حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وسمعتهم يصرخون بهما جميعا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا طريق آخر مع زيادة فيه، وفي قوله: (وسمعتهم يصرخون)، أي: يرفعون أصواتهم بهما، أي: بالحج والعمرة.

                                                                                                                                                                                  وفيه دليل على أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان قارنا، وأنه أفضل من التمتع والإفراد.

                                                                                                                                                                                  وقال المهلب: إنما سمع أنس من قرن خاصة، وليس في حديثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرخ بها، وإنما أخبر بذلك عن قوم، وقد يمكن أن يسمع قوما يصرخون بحج وقوما يصرخون بعمرة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا تحكم وخروج عما يقتضيه الكلام، فإن الضمير في يصرخون يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه، والباء في بهما يتعلق بيصرخون، فكيف يفرق مرجع الضمير إلى بعضهم بشيء، وإلى الآخرين بشيء غير ذلك، ولو لم يكن الصراخ بهما عن الكل لكان أنس فرقه، وبين من يصرخ بالحج، ومن يصرخ بعمرة، ومن يصرخ بهما; لأنه في صدد الإخبار بصورته التي وقعت.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني أيضا: يحتمل أن يكون على سبيل التوزيع بأن يكون بعضهم صارخا بالحج، وبعضهم بالعمرة.

                                                                                                                                                                                  وكل هذا التعسف منهما أن لا يكون الحديث حجة عليهما، ومع هذا هو حجة عليهما، وعلى كل من كان في مذهبهما، ولا يوجد في الرد عليهم أقوى من قوله صلى الله عليه وسلم: "لبيك بحجة وعمرة معا" كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  وفيه حجة للجمهور في استحباب رفع الأصوات بالتلبية، وقد جاءت أحاديث في رفع الصوت بالتلبية منها حديث خلاد بن السائب رواه الأربعة، فأبو داود من طريق مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، والنسائي وابن ماجه من طريق ابن عيينة، كما رواه الترمذي، وقال: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر، وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام، فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية).

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث زيد بن خالد، أخرجه ابن ماجه، ولفظه: (جاءني جبريل، فقال: يا محمد، مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعائر الحج).

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث أبي هريرة أخرجه أحمد في (مسنده) [ ص: 171 ] ولفظه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرني جبريل عليه السلام برفع الصوت بالإهلال، وقال: إنه من شعائر الحج) ورواه البيهقي أيضا.

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث ابن عباس أخرجه أحمد أيضا عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن جبريل عليه السلام أتاني، فأمرني أن أعلن بالتلبية).

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث جابر أخرجه سعيد بن منصور في (سننه) من رواية أبي الزبير عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة أصوات يباهي الله عز وجل بهن الملائكة: الأذان، والتكبير في سبيل الله، ورفع الصوت بالتلبية ).

                                                                                                                                                                                  وقال المحب الطبري : غريب من حديث أبي الزبير عن جابر.

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أخرجه البيهقي عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بلغنا الروحاء حتى سمعنا عامة الناس، وقد بحت أصواتهم).

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أخرجه الترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (سئل: أي الحج أفضل؟ قال: العج والثج) العج بالعين المهملة رفع الصوت بالتلبية، وقد عج يعج عجا، فهو عاج وعجاج، والثج بفتح الثاء المثلثة سيلان دم الأضاحي، يقال: ثجه يثجه ثجا.

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث سهل بن سعد أخرجه الحاكم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ( ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر حتى منقطع الأرض من هنا وهنا ) يعني: عن يمينه وشماله، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه.

                                                                                                                                                                                  وروى ابن أبي شيبة من حديث المطلب بن عبد الله، قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تثج أصواتهم).

                                                                                                                                                                                  وقال عبد الله بن عمر: (ارفعوا أصواتكم بالتلبية) وعن ابن الزبير مثله.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال: رفع الصوت بالتلبية مستحب، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والشافعي، واختلفت الرواية عن مالك، ففي رواية ابن القاسم: لا ترفع الأصوات بالتلبية إلا في المسجد الحرام ومسجد منى.

                                                                                                                                                                                  وقال الشافعي في قوله القديم: "لا يرفع الصوت بالتلبية في مساجد الجماعات إلا المسجد الحرام، ومسجد منى ومسجد عرفة" وقوله الجديد استحبابه مطلقا.

                                                                                                                                                                                  وفي (التوضيح): وعندنا أن التلبية المقترنة بالإحرام لا يجهر بها، صرح به الجويني من أصحابنا.

                                                                                                                                                                                  وأجمعوا أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، وإنما عليها أن تسمع نفسها، كأنهم لمحوا ما رواه ابن أبي شيبة عن معن عن إبراهيم بن أبي حبيبة عن داود بن حصين عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية، ومن حديث أبي الجويرية عن حماد، عن إبراهيم، مثله. وعن عطاء كذلك.

                                                                                                                                                                                  ومن حديث عدي بن أبي عيسى، عن نافع، عن ابن عمر ليس على النساء أن يرفعن أصواتهن بالتلبية.

                                                                                                                                                                                  لكن يعارضه ما رواه بسند كالشمس عن ابن مهدي عن سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه ، قال: خرج معاوية ليلة النفر فسمع صوت تلبية، فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة اعتمرت من التنعيم، فذكر ذلك لعائشة فقالت: لو سألني لأخبرته وعند وكيع: حدثنا إبراهيم بن نافع، قال: قدمت امرأة أعجمية فخرجت مع الناس، ولم تهل، إلا أنها كانت تذكر الله تعالى، فقال عطاء: لا يجزيها.

                                                                                                                                                                                  وفي (الأشراف) لابن المنذر: وقد روينا عن ميمونة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها كانت تجهر بالتلبية. واستدل بعضهم على جواز رفع المرأة صوتها بالإهلال بحديث رواه ابن حزم من طريق أبي سعيد بن الأعرابي عن زينب الأحمسية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في امرأة حجت معها مصمتة: قولي لها تتكلم، فإنه لا حج لمن لا يتكلم وليس فيه دليل لأمرين.

                                                                                                                                                                                  الأول: لا تعرض فيه للتلبية.

                                                                                                                                                                                  الثاني: قال ابن القطان : ليس هو خبرا إنما هو أثر عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ومع ذلك فيه مجهولان.

                                                                                                                                                                                  وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالإهلال، ولا بد، وهو فرض، ولو مرة، واستدل بحديث خلاد بن السائب المذكور، قال: وفيه أمر، والأمر للوجوب. وفي (التوضيح) قام الإجماع على مشروعية التلبية.

                                                                                                                                                                                  وفيه مذاهب:

                                                                                                                                                                                  أحدها أنها سنة، قاله الشافعي، والحسن بن حي.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أنها واجبة، يجب بتركها دم، قاله أصحاب مالك; لأنها نسك، ومن ترك نسكا أراق دما.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أنها من شروط الإحرام لا يصح إلا بها، قاله الثوري وأبو حنيفة، قال أبو حنيفة: لا يكون محرما حتى يلبي، ويذكر ويسوق هديه، قالا: كالتكبير للصلاة; لأن ابن عباس قال: "فمن فرض فيهن الحج" قال الإهلال.

                                                                                                                                                                                  وعن عطاء وعكرمة وطاوس: هو التلبية، قال: وعندنا قول: إنه لا ينعقد إلا بها، لكن يقوم مقامها سوق الهدي، والتقليد، والتوجه معه.

                                                                                                                                                                                  وفيه رد لقول أهل الظاهر في إجازتهم تقصير الصلاة في مقدار ما بين المدينة وذي الحليفة، وفي أقل من ذلك; لأنه إنما قصرها; لأنه كان خارجا إلى مكة، فلذلك قصرها بها.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية