الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1507 176 حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو الأحوص، قال: حدثنا الأشعث، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر: أمن البيت هو؟ قال: نعم. قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة. قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا طريق ثان في حديث عائشة رواه عن مسدد عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي عن الأشعث بن أبي الشعثاء المحاربي عن الأسود بن يزيد.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم أيضا في الحج، عن سعيد بن منصور، عن أبي الأحوص.

                                                                                                                                                                                  وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وكذا أخرجه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (عن الجدر) بفتح الجيم وسكون الدال المهملة كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي "الجدار".

                                                                                                                                                                                  وقال الخليل: الجدر لغة في الجدار.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: وبضم الجيم أيضا، والظاهر أنه وهم؛ لأن المراد الحجر، وفي مسند الطيالسي: عن أبي الأحوص شيخ مسدد فيه: "الجدر أو الحجر" بالشك، وعند أبي عوانة من طريق شيبان عن الأشعث: الحجر بلا شك.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أمن البيت هو) الهمزة فيه للاستفهام.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وهو) أي الجدر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قال نعم) أي قال عليه الصلاة والسلام: نعم الجدر من البيت، هذا يدل على أن الحجر كله من البيت، وبذلك كان يفتي عبد الله بن عباس كما رواه عبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل، قال: سمعت ابن عباس يقول: "لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت فلم يطف به إن لم يكن من البيت".

                                                                                                                                                                                  وروى الترمذي، قال: حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه (عن عائشة رضي الله تعالى عنهما قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بيدي فأدخلني الحجر فقال: صلي في الحجر إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروه حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. وقال علقمة بن أبي علقمة بن بلال.

                                                                                                                                                                                  قلت: أما أمه فاسمها مرجانة، ذكرها ابن حبان في الثقات.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود عن القعنبي، ورواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن عبد العزيز بن محمد وهو الدراوردي، وقد رواه أبو داود من رواية سعيد بن جبير: (أن عائشة قالت: يا رسول الله كل نسائك دخل الكعبة غيري، قال: فانطلقي إلى قرابتك شيبة يفتح لك الكعبة، فأتته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما فتحت بليل قط في جاهلية ولا إسلام، وإن أمرتني أن أفتحها فتحتها، قال: لا، ثم قال: إن قومك قصرت بهم النفقة فقصروا في البنيان، وإن الحجر من البيت فاذهبي فصلي فيه).

                                                                                                                                                                                  وقال شيخنا زين الدين رحمه الله تعالى في هذا الحديث: إن الحجر كله من البيت، وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر، ومقتضى كلام جماعة من أصحابه كما قال الرافعي.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: إنه الصحيح، وعليه نص الشافعي، وبه قطع جماهير أصحابنا، قال: وهذا هو الصواب، وكذا رجحه ابن الصلاح قبله.

                                                                                                                                                                                  وقال الرافعي: الصحيح أن ليس كله من البيت بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع متصل بالبيت، وبه قال الشيخ أبو محمد الجويني وابنه إمام الحرمين والغزالي والبغوي، والدليل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا أن قومك حديث عهد بشرك لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الصلاح : اضطربت الروايات فيه، ففي رواية في الصحيحين: "الحجر من البيت" وروي "ستة أذرع أو نحوها" وروي "خمسة أذرع" [ ص: 219 ] وروي قريبا من سبع، قال ابن الصلاح: وإذا اضطربت الروايات تعين الأخذ بأكثرها ليسقط الفرض بيقين.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم بعد أن ذكر حديث الترمذي الذي ذكرناه، وبعد أن قال: ونحوه لأبي داود من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها، ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة، ولأحمد من طريق سعيد بن جبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها: هذه الروايات كلها مطلقة، وقد جاءت روايات أصح منها مقيدة لمسلم من طريق أبي قزعة، عن الحارث بن عبد الله، عن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الباب: ( حتى أزيد فيه من الحجر ) وله من وجه آخر عن الحارث عنها: ( فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوه منه فأراها قريبا من سبعة أذرع ) ثم ذكر الروايات المضطربة فيه التي ذكرناها عن قريب، ثم قال: وهذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: قوله: "وقد جاءت روايات أصح منها" غير مسلم؛ لأن حديث الباب يدل على أن الحجر كله من البيت، وأصرح منه حديث الترمذي الذي لفظه: ( إن الحجر من البيت ) فكل ذلك صحيح، وترجيح رواية الحارث عن عائشة رضي الله تعالى عنها على رواية الأسود بن يزيد عنها بالأصحية لا دليل عليه، ثم تكلف في الجمع بين هذه الروايات بالكسر والجبر، فالأوجه والأصوب فيه ما قاله ابن الصلاح، وهو الذي ذكرناه آنفا.

                                                                                                                                                                                  ثم إن ثبت أن الحجر كله أو بعضه من البيت فلا تصح صلاة كل مستقبل شيئا منه، وهو غير مستقبل لشيء من الكعبة؛ وذلك لأن الأحاديث في هذا آحاد إنما تفيد الظن، وقد أمرنا باستقبال المسجد الحرام يقينا على ما هو معروف في التفصيل بين الحاضر والبعيد، وهذا هو المذهب عند الحنفية والمالكية، وهو الذي صححه الرافعي والنووي "أنه لا يصح استقبال شيء من الحجر في الصلاة مع عدم استقبال شيء من الكعبة".

                                                                                                                                                                                  قوله: (قصرت بهم النفقة) بفتح الصاد المشددة، أي النفقة الطيبة التي أخرجوها، ويروى: قصرت بضم الصاد المخففة.

                                                                                                                                                                                  وروى أبو إسحاق في السيرة عن عبد الله بن أبي نجيح: أنه أخبر عن عبد الله بن صفوان بن أمية، أن وهب بن عائد بن عمران بن مخزوم وهو جد جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي قال لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا طيبا ولا تدخلوا فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس".

                                                                                                                                                                                  قوله: (ليدخلوا) من الإدخال، وفي رواية المستملي: (يدخلوا) بغير لام، وفي لفظ مسلم: (هل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: قلت: لا، قال: تحرزا أن لا يدخلها إلا من أرادوا) فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حديث عهدهم) بتنوين "حديث" والعهد مرفوع؛ لأنه فاعله، ويروى بإضافة "حديث" إلى "عهدهم".

                                                                                                                                                                                  قوله: (بالجاهلية) بالألف واللام في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره "بجاهلية" بدون الألف واللام.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: أين جواب لولا؟

                                                                                                                                                                                  قلت: محذوف، تقديره: لأدخلت الجدر في البيت.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأخاف أن تنكر قلوبهم) وفي رواية شيبان عن أشعث: تنفر بالفاء بدل الكاف، ونقل ابن بطال عن بعض علمائهم أن النفرة التي خشيها صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أن أدخل الجدر) كلمة أن مصدرية، تقديره: أخاف إنكار قلوبهم بإدخال الجدر في البيت.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأن ألصق) عطف على ما قبله، أي وبأن ألصق، أي وبإلصاق بابه بالأرض.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية