الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1524 193 - حدثنا أبو معمر، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا أيوب، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله، أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط، فدخل البيت فكبر في نواحيه ولم يصل فيه.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (فكبر في نواحيه) وأبو معمر -بفتح الميمين- عبد الله بن عمرو المقعد البصري، وعبد الوارث بن سعيد وأيوب السختياني، وفي التوضيح: والحديث من أفراد البخاري، وليس كذلك، بل أخرجه أبو داود أيضا في الحج عن أبي معمر به.

                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  قوله: (لما قدم) أي مكة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أبى أن يدخل البيت) أي امتنع عن دخول البيت.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وفيه) أي والحال أن في البيت الآلهة أي الأصنام التي لأهل الجاهلية، أطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأمر بها فأخرجت) وفي رواية تأتي في الأنبياء حتى أمر بها فمحيت.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام) وفي رواية له أيضا في باب: واتخذ الله إبراهيم خليلا دخل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال: أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، هذا إبراهيم مصور، فما باله يستقسم؟!

                                                                                                                                                                                  قوله: (الأزلام) جمع زلم وهي الأقلام.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين: الأزلام القداح، وهي أعواد نحتوها وكتبوا في إحداها "افعل" وفي الآخر "لا تفعل" ولا شيء في الآخر، فإذا أراد أحدهم سفرا أو حاجة ألقاها، فإن خرج "افعل" فعل وإن خرج "لا تفعل" لم [ ص: 247 ] يفعل، وإن خرج الآخر أعاد الضرب حتى يخرج له "افعل" أو "لا تفعل" فكانت سبعة على صفة واحدة مكتوب عليها: "لا" "نعم" "منهم" "من غيرهم" "ملصق" "العقل" "فضل العقل" وكان بيد السادن فإذا أرادوا خروجا أو تزويجا أو حاجة ضرب السادن، فإن خرج "نعم" ذهب، فإن خرج "لا" كف، وإن شكوا في نسب واحد أتوا به إلى الصنم فضرب بتلك الثلاثة التي هي: "منهم" "من غيرهم" ملصق" فإن خرج "منهم" كان من أوسطهم نسبا، وإن خرج "من غيرهم" كان حليفا، وإن خرج "ملصق" لم يكن له نسب ولا حلف، وإذا جنى أحد جناية واختلفوا على من العقل ضربوا، فإن خرج "العقل" على من ضربه عليه عقل وبرئ الآخرون، وكانوا إذا عقلوا العقل وفضل الشيء منه واختلفوا فيه أتوا السادن فضرب فعلى من وجب أداه.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن قتيبة: كانت الجاهلية يتخذون الأقلام ويكتبون على بعضها: "نهاني ربي" وعلى بعضها: "أمرني ربي" وعلى بعضها: "نعم" وعلى بعضها: "لا" فإذا أراد أحدهم سفرا أو غيره دفعوها إلى بعضهم حتى يقبضها فإن خرج القدح الذي عليه "أمرني ربي" مضى، أو "نهاني" كف.

                                                                                                                                                                                  والاستقسام: ما قسم له من أمر يزعمه.

                                                                                                                                                                                  وقيل: كان إذا أراد أحدهم أمرا أدخل يده في الوعاء الذي فيه الأقلام فأخرج منها زلما وعمل بما عليه.

                                                                                                                                                                                  وقيل: الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها، والاستقسام استفعال من قسم الرزق والحاجات، وذلك طلب أحدهم بالأزلام على ما قسم له في حاجته التي يلتمسها من نجاح أو حرمان، وأبطل الرب تعالى ذلك فعلهم، وأخبر أنه فسق؛ لأنهم كانوا يستقسمون عند ألهتهم التي يعتقدونها، ويقولون: يا إلهنا أخرج الحق في ذلك، ثم يعملون بما خرج فيه، فكان ذلك كفرا بالله تعالى لإضافتهم ما يكون من ذلك من صواب أو خطأ إلى أنه من قسم آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع.

                                                                                                                                                                                  وأخبر الشارع عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام أنهما لم يكونا يفوضان أمورهما إلا إلى الله الذي لا يخفى عليه علم ما كان وما هو كائن؛ لأن الآلهة لا تضر ولا تنفع ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "لقد علموا أنهم لم يستقسما بها قط" لأنهم قد علموا أن أباءهم أحدثوها وكان فيهم بقية من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، منها: الختان وتحريم ذوات المحارم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين".

                                                                                                                                                                                  قوله: (قاتلهم الله) أي لعنهم الله، قال التيمي: يعني قاتل الله المشركين الذين صوروا صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، ونسبوا إليهما الضرب بالقداح، وكانا بريئين من ذلك، وإنما هو شيء أحدثه الكفار الذين غيروا دين إبراهيم عليه السلام، وأحدثوا أحداثا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أما والله) وفي رواية الأكثرين: أم والله، وحذف الألف منه للتخفيف، وكلمة أما لافتتاح الكلام.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قد علموا) ويروى: لقد علموا، بزيادة اللام لزيادة التأكيد، قيل: وجه ذلك أنهم كانوا يعلمون اسم أول من أحدث الاستقسام بالأزلام وهو عمرو بن لحي، فكانت نسبتهم الاستقسام بالأزلام إلى إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام افتراء عليهما.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لم يستقسما) أي إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بها) أي بالأزلام، ويروى "بهما" مثنى، وهو باعتبار أن الأزلام على نوعين خير وشر، وقد ذكرنا أن الاستقسام طلب القسم يعني طلب معرفة ما قسم له وما لم يقسم له بالأزلام، وكذا معرفة ما أمر به وما نهي عنه.

                                                                                                                                                                                  وقيل: هو قسمهم الجزور على الأنصباء المعلومة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فدخل البيت) أي فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فكبر في نواحيه، أي في جوانب البيت ولم يصل فيه صلاة، فهذا ابن عباس نفى الصلاة وأثبت التكبير، وبلال أثبت الصلاة ولم يتعرض للتكبير، وقد ذكرنا وجه ذلك مستقصى في باب إغلاق البيت، وهذا البخاري صحح حديث ابن عباس مع كونه يرى تقديم حديث بلال في إثبات الصلاة.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: كيف وجه هذا يصححه ويتركه؟

                                                                                                                                                                                  قلت: لم يترك لا حديث ابن عباس ولا حديث بلال، وترجم هنا بحديث ابن عباس؛ لأجل الزيادة فيه وهو التكبير في نواحي البيت، ولكنه قدم حديث ابن عباس لوجهين: أحدهما أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وإنما أسند نفي الصلاة تارة لأسامة وتارة لأخيه الفضل، مع أنه لم يثبت كون الفضل معهم إلا في رواية شاذة، والوجه الآخر أن قول المثبت يرجح؛ لأن فيه زيادة العلم، والله تعالى أعلم.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية