الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  146 12 - حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثنا الليث قال : حدثني عقيل عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، فكان عمر يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة ، حرصا على أن ينزل الحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب . [ ص: 283 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 283 ] مطابقة الحديث للترجمة في قوله : « إذا تبرزن إلى المناصع " وأشار البخاري بهذا الباب إلى أن تبرز النساء إلى البراز كان أولا لعدم الكنف في البيوت ، وكان رخصة لهن ، ثم لما اتخذت الكنف في البيوت منعن عن الخروج منها إلا عند الضرورة ، وعقد على ذلك الباب الذي يأتي عقيب هذا الباب .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم ستة ، تقدم ذكرهم بهذا الترتيب في كتاب الوحي ، وعقيل بضم العين وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) .

                                                                                                                                                                                  منها أن فيه صيغة التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة ، ومنها أن فيه تابعيين ابن شهاب وعروة ، وقرينين الليث وعقيل ، ومنها أن رواته ما بين مصري ومدني ، ومنها أن هذا الإسناد على شرط الستة إلا يحيى ; فإنه على شرط البخاري ومسلم .

                                                                                                                                                                                  ( بيان من أخرجه غيره ) .

                                                                                                                                                                                  أخرجه مسلم أيضا في الاستئذان عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه عن جده به .

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات ) قوله : « إذا تبرزن " أي : إذا خرجن إلى البراز للبول والغائط ، فأصله من تبرز ، بفتح عين الفعل إذا خرج إلى البراز للغائط ، وهو الفضاء الواسع ، قوله : « إلى المناصع " جمع منصع مفعل من النصوع ، وهو الخلوص ، والناصع الخالص من كل شيء ، يقال : نصع ينصع نصاعة ونصوعا ، ويقال : أبيض ناصع وأصفر ناصع ، قال الأصمعي : كل ثور خالص البياض أو الصفرة أو الحمرة فهو ناصع ، وفي العباب : المناصع المجالس فيما يقال ، وقال أبو سعيد : المناصع المواضع التي يتخلى فيها لبول أو لغائط ، الواحد منصع ، بفتح الصاد .

                                                                                                                                                                                  وقال الأزهري : أراها مواضع خارج المدينة ، وقال ابن الجوزي : هي المواضع التي يتخلى فيها للحاجة ، وكان صعيدا أفيح خارج المدينة يقال له المناصع ، والصعيد وجه الأرض ، وقد فسره في الحديث بقوله : « وهو صعيد أفيح " والأفيح بالفاء وبالحاء المهملة الواسع ، وزاد فيحا ، أي : وسعة ، وقال الصغاني : بحر أفيح بين الفيح ، أي : واسع ، وبحر فياح أيضا بالتشديد ، وقال الأصمعي : إنه لجواد فياح وفياض بمعنى واحد . قلت : كأنه سمي بالمناصع لخلوصه عن الأبنية والأماكن .

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « كن " جملة في محل الرفع على أنها خبر أن ، قوله : « يخرجن " جملة في محل النصب على أنها خبر كان ، والباء في بالليل ظرفية ، وكلمة إذا ظرفية ، قوله : « إلى المناصع " جار ومجرور يتعلق بقوله يخرجن ، قال الكرماني : ويحتمل أن يتعلق بقوله تبرزن . قلت : احتمال بعيد ، قوله : « وهو " مبتدأ ، وقوله : « صعيد أفيح " صفة وموصوف خبره ، قوله : « يقول " جملة في محل النصب أيضا ; لأنها خبر كان ، قوله : « احجب نساءك " مقول القول ، قوله : « يفعلوا " جملة في محل النصب أيضا ; لأنها خبر كان ، قوله : « بنت زمعة " كلام إضافي مرفوع ; لأنه صفة لسودة .

                                                                                                                                                                                  وقوله : « زوج النبي - عليه الصلاة والسلام - " كلام إضافي أيضا مرفوع ; لأنه صفة أخرى لسودة ، قوله : « ليلة " نصب على الظرف ، قوله : « عشاء " هو بكسر العين وبالمد نصب على أنه بدل من قوله : « ليلة " قوله : « ألا " بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح ينبه بها على تحقق ما بعدها ، قوله : « يا سودة " منادى مفرد معرفة ، ولهذا يبنى على الضم ، قوله : « حرصا " نصب على أنه مفعول له والعامل فيه قوله : « فناداها " قوله : « على أن ينزل " على صيغة المجهول ، وأن مصدرية .

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) قوله : « وهو صعيد أفيح " تفسير لقوله : « إلى المناصع " وقال بعضهم : الظاهر أن التفسير مقول عائشة رضي الله عنها . قلت : لا دليل على الظاهر ، وإنما هو يحتمل أن يكون منها أو من عروة أو ممن دونه من الرواة ، قوله : « احجب نساءك " أي : امنعهن من الخروج من البيوت ، وسياق الكلام يدل على هذا المعنى ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون أراد أولا الأمر بستر وجوههن ، فلما وقع الأمر بوفق ما أراد أحب أيضا أن يحجب أشخاصهن مبالغة في التستر ، فلم يجب لأجل الضرورة ، وهذا أظهر الاحتمالين .

                                                                                                                                                                                  قلت : ليس الأظهر إلا ما قلنا بشهادة سياق الكلام ، والاحتمال الذي ذكره لا يدل عليه هذا الحديث ، وإنما الذي يدل عليه هو حديث آخر ، وذلك لأن الحجب ثلاثة ، الأول : الأمر بستر وجوههن يدل عليه قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن الآية . قال القاضي عياض : والحجاب الذي خص به خلاف أمهات المؤمنين هو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا لغيرها ، الثاني : هو الأمر بإرخاء الحجاب بينهن وبين الناس يدل عليه قوله تعالى وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب الثالث : هو الأمر بمنعهن من الخروج من البيوت إلا لضرورة شرعية ; فإذا [ ص: 284 ] خرجن لا يظهرن شخصهن ، كما فعلت حفصة يوم مات أبوها ، سترت شخصها حين خرجت ، وزينب عملت لها قبة لما توفيت ، وكان لهن في التستر عند قضاء الحاجة ثلاث حالات ، الأولى بالظلمة ; لأنهن كن يخرجن بالليل دون النهار ، كما قالت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث "كن يخرجن بالليل" ، وسيأتي في حديث عائشة في قصة الإفك "فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا" الحديث ، ثم نزل الحجاب فتسترن بالثياب ; لكن ربما كانت أشخاصهن تتميز ، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه : قد عرفناك يا سودة ، وهذه هي الحالة الثانية ، ثم لما اتخذت الكنف في البيوت منعن عن الخروج منها ، وهي الحالة الثالثة ، فدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك ، فإن فيها "وذلك قبل أن تتخذ الكنف" ، وكانت قصة الإفك قبل نزول آية الحجاب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                  قوله : « سودة بنت زمعة " بالزاي والميم والعين المهملة المفتوحتين ، وقال ابن الأثير : وأكثر ما سمعنا من أهل الحديث والفقهاء يقولونه بسكون الميم ، ابن قيس القريشية العامرية ، أسلمت قديما وبايعت ، وكانت تحت ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو ، أسلم معها وهاجرا جميعا إلى الحبشة ، فلما قدم مكة مات زوجها فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودخل بها بمكة ، وذلك بعد موت خديجة قبل عائشة رضي الله عنهما ، وهاجرت إلى المدينة ، فلما كبرت أراد طلاقها ، فسألته أن لا يفعل ، وجعلت يومها لعائشة فأمسكها ، روي لها خمسة أحاديث ، أخرج البخاري منها حديثين ، توفيت آخر خلافة عمر رضي الله عنه ، وقيل : زمن معاوية سنة أربع وخمسين بالمدينة .

                                                                                                                                                                                  قوله : « فأنزل الله الحجاب " وفي رواية المستملي "فأنزل الله آية الحجاب" وزاد أبو عوانة في صحيحه من طريق الزبيدي عن ابن شهاب "فأنزل الله الحجاب" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية ، وقال الكرماني : الحجاب ، أي : حكم الحجاب ، يعني حجاب النساء عن الرجال ، فأنزل الله آية الحجاب ، ويحتمل أن يراد بآية الحجاب الجنس فيتناول الآيات الثلاث ، قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن الآية ، وقوله تعالى وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب وقوله تعالى وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن الآية ، وأن يراد به العهد من واحدة من هذه الثلاث .

                                                                                                                                                                                  قلت : رواية أبي عوانة المذكورة فسرت المراد من آية الحجاب صريحا ، كما ذكرنا ، وسبب نزولها قصة زينب بنت جحش ، لما أولم عليها وتأخر النفر الثلاثة في البيت ، واستحيى النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يأمرهم بالخروج ، فنزلت آية الحجاب ، وسيأتي في تفسير الأحزاب ، وسيأتي أيضا حديث عمر رضي الله تعالى عنه . قلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخلن عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب" ، وروى ابن جرير في تفسيره من طريق مجاهد قال : بينا النبي - عليه الصلاة والسلام - يأكل ومعه بعض أصحابه وعائشة تأكل معهم إذ أصابت يد رجل منهم يدها ، فكره النبي - عليه الصلاة والسلام - ذلك ، فنزلت آية الحجاب .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما طريقة الجمع بين هذه ؟ قلت : أسباب نزول الحجاب تعددت ، وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصتها في الآية ، وقال التيمي : الحجاب هنا استتارهن بالثياب حتى لا يرى منهن شيء عند خروجهن ، وأما الحجاب الثاني فهو إرخاؤهن الحجاب بينهن وبين الناس . قلت : رواية أبي عوانة تخدش هذا الكلام على ما لا يخفى ، ثم اعلم أن الحجاب كان في السنة الخامسة في قول قتادة ، وقال أبو عبيد : في الثالثة ، وقال ابن إسحاق : بعد أم سلمة ، وعند ابن سعيد في الرابعة في ذي القعدة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) :

                                                                                                                                                                                  الأول : قال ابن بطال : فيه مراجعة الأدون للأعلى في الشيء الذي يتبين له .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه فضل المراجعة إذا لم يقصد بها التعنت ; فإنه قد يتبين فيها من العلم ما خفي ; فإن نزول الآية ، وهي قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين الآية كان سببه المراجعة .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه فضل عمر رضي الله تعالى عنه ; فإن الله تعالى أيد به الدين ، وقال الكرماني : وهذه من إحدى الثلاث التي وافق فيها نزول القرآن . قلت : هذه إحدى ما وافق فيها ربه ، والثانية في قوله عسى ربه إن طلقكن والثالثة واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وهذه الثلاثة ثابتة في الصحيح ، والرابعة موافقة في أسرى بدر ، والخامسة في منع الصلاة على المنافقين ، وهاتان في صحيح مسلم ، والسادسة موافقته في آية المؤمنين ، وروى أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث علي بن زيد : وافقت ربي لما نزلت ثم أنشأناه خلقا آخر فقلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين ، فنزلت ، والسابعة موافقته في تحريم الخمر ، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، والثامنة موافقته [ ص: 285 ] في قوله من كان عدوا لله وملائكته الآية ، ذكره الزمخشري ، وقال ابن العربي : قدمنا في الكتاب الكبير أنه وافق ربه تعالى تلاوة ومعنى في أحد عشر موضعا ، وفي جامع الترمذي مصححا عن ابن عمر رضي الله عنهما : ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر فيه إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه كلام الرجال مع النساء في الطرق .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه جواز وعظ الإنسان أمه في البر ; لأن من أمهات المؤمنين .

                                                                                                                                                                                  السادس : فيه جواز الإغلاظ في القول والعتاب إذا كان قصده الخير ; فإن عمر رضي الله عنه قال : قد عرفناك يا سودة ، وكان شديد الغيرة ، لا سيما في أمهات المؤمنين .

                                                                                                                                                                                  السابع : في التزام النصيحة لله ولرسوله ، في قول عمر رضي الله عنه : احجب نساءك ، وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أن حجبهن خير من غيره ، لكنه كان يترقب الوحي ، بدليل أنه لم يوافق عمر رضي الله عنه حين أشار بذلك ، وكان ذلك من عادة العرب .

                                                                                                                                                                                  الثامن : فيه جواز تصرف النساء فيما لهن حاجة إليه ; لأن الله تعالى أذن لهن في الخروج إلى البراز بعد نزول الحجاب ، فلما جاز ذلك لهن جاز لهن الخروج إلى غيره من مصالحهن ، وقد أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالخروج إلى العيدين ، ولكن في هذا الزمان لما كثر الفساد ولا يؤمن عليهن من الفتنة ينبغي أن يمنعن من الخروج إلا عند الضرورة الشرعية ، والله تعالى أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية