الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1557 225 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال: من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما، فقدمت مكة وأنا حائض، فلما قضينا حجنا أرسلني مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت فقال صلى الله عليه وسلم: هذه مكان عمرتك، فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة" لأنه هو القارن.

                                                                                                                                                                                  وفيه بيان طوافه أنه واحد، والحديث قد مضى في "باب كيف تهل الحائض والنفساء" فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، وهنا عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، وقد مر الكلام فيه مستقصى; ولكن نتكلم فيه للرد على بعضهم في رده على الإمام أبي جعفر الطحاوي من غير وجه لأريحية العصبية فيه.

                                                                                                                                                                                  فنقول: أولا ما ذكره الطحاوي، فقال: باب القارن كم عليه من الطواف لعمرته ولحجته، حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ومحمد بن إدريس المكي قالا: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد العزيز [ ص: 280 ] ابن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحرم بالحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد، ثم لا يحل حتى لا يحل منهما جميعا " ثم قال: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقالوا: على القارن بين الحج والعمرة طواف واحد لا يجب عليه من الطواف غيره، وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يطوف لكل واحد منهما طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا، وكان من الحجة لهم في ذلك أن هذا الحديث خطأ أخطأ فيه الدراوردي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أصله عن ابن عمر نفسه، هكذا رواه الحفاظ، وهم مع هذا لا يحتجون بالدراوردي عن عبيد الله أصلا، فلم يحتجون له في هذا، فأما ما رواه الحفاظ من ذلك عن عبيد الله فما حدثنا صالح بن عبد الرحمن قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: "إذا قرن طاف لهما طوافا واحدا، فإذا فرق طاف لكل منهما طوافا وسعى سعيا" انتهى. ثم قال هذا القائل بعد أن نقل كلام الطحاوي: وهو تعليل مردود، فالدراوردي صدق، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره، فلا مانع أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: المردود ما قاله وذهب إليه من غير تحقيق النظر فيه، فهل يحل رد ما لا يرد لأجل ما قصر فيه فهمه وكثر تعنته ومصادمته للحق الأبلج، أفلا وقف هذا على ما قاله الترمذي بعد أن ذكر الحديث المذكور: "وقد رواه غير واحد عن عبيد الله ولم يرفعوه وهو أصح"؟!

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر في الاستذكار: لم يرفعه أحد عن عبيد الله غير الدراوردي، وكل من رواه عنه غيره أوقفه على ابن عمر، وكذا رواه مالك عن نافع موقوفا.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو زرعة: الدراوردي سيئ الحفظ، ذكره عنه الذهبي في الكاشف.

                                                                                                                                                                                  وقال النسائي : ليس بالقوي، وحديثه عن عبيد الله منكر.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يغلط.

                                                                                                                                                                                  ثم قال هذا القائل: واحتجت الحنفية بما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل وطريقه عن علي عند عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك.

                                                                                                                                                                                  وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: حديث علي رضي الله تعالى عنه رواه النسائي في سننه الكبرى، عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن إبراهيم بن محمد قال: طفت مع أبي وقد جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، وحدثني أن عليا رضي الله تعالى عنه فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك".

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: قال صاحب التنقيح: وحماد هذا ضعفه الأزدي.

                                                                                                                                                                                  قلت: ذكره ابن حبان في الثقات.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الدارقطني من وجوه عن الحسن بن عمارة، ثم قال: وهو متروك.

                                                                                                                                                                                  وعن حفص بن أبي داود، عن ابن أبي ليلى.

                                                                                                                                                                                  وقال: حفص ضعيف.

                                                                                                                                                                                  وعن عيسى بن عبد الله بن علي، ثم قال: وهو متروك.

                                                                                                                                                                                  قلت: إذا كثرت طرق الحديث ولو كان فيها ضعفاء تتعاضد وتتقوى.

                                                                                                                                                                                  وروى الطحاوي أيضا، عن أبي النضر قال: أهللت بالحج فأدركت عليا فقلت له: إني أهللت بالحج أفأستطيع أن أضيف إليه عمرة؟ قال: لا، لو كنت أهللت بالعمرة ثم أردت أن تضيف إليها الحج ضممته، قال: قلت: كيف أصنع إذا أردت ذلك؟ قال: تصب عليك إداوة ماء ثم تحرم بهما جميعا، وتطوف لكل واحد منهما طوافا" وعنه عن علي وعبد الله قالا: القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، ثم اعترض هذا القائل أيضا على الطحاوي حيث قال في قول عائشة: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا" أن مرادها جمعوا بين الحج والعمرة جمع متعة لا جمع قران، بقوله: وإني لكثير التعجب منه في هذا الموضع كيف ساغ له هذا التأويل وحديث عائشة مفصل للحالتين، فإنها صرحت بفعل من تمتع ثم بمن قرن حيث قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى، فهؤلاء أهل التمتع، ثم قالت: وأما الذين جمعوا، إلى آخره، فهؤلاء أهل القران، وهذا أبين من أن يحتاج إلى بيان. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا الذي ذكره متعجبا أخذه من كلام البيهقي، فإنه شنع على الطحاوي في كتابه المعرفة بغير معرفة، حيث قال: وزعم بعض من يدعي في هذا تصحيح الأخبار على مذهبه: إنما أرادت بهذا الجمع جمع متعة لا جمع قران، قالت: فإنما طافوا طوافا واحدا في حجتهم؛ لأن حجتهم كانت مكية، والحجة المكية لا يطاف لها قبل عرفة، وكيف استجاز لدينه أن يقول مثل هذا وفي حديثها أنها أفردت من جمع بينهما جمع متعة أولا بالذكر، فذكرت كيف طافوا في عمرتهم ثم كيف طافوا في حجتهم، ثم لم يبق إلا المفردون والقارنون [ ص: 281 ] فجمعت بينهم في الذكر، وأخبرت أنهم إنما طافوا طوافا واحدا، وأنها أرادت بين الصفا والمروة؛ لما ذكرنا من الدلالة مع كونه معقولا، ولو اقتصرت على اللفظة الأخيرة لم يجز حملها أيضا؛ لأنها تقتضي اقتصارا على طواف واحد لكل ما حصل به الجمع، والجمع إنما حصل بالعمرة والحج جميعا فيقتضي اقتصارا على طواف واحد لهما جميعا لا لأحدهما، والمتمتع لا يقتصر على طواف واحد بالإجماع، فدل على أنها أرادت بهذا الجمع جمع قران. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: لم يتأمل البيهقي كلام الطحاوي لغشيان التعصب على فكره، ألا ترى كيف يؤول قولها: فإنما "طافوا طوافا واحدا" أنها أرادت بهذا: السعي بين الصفا والمروة، فما الضرورة إلى تأويل الطواف بالسعي؟! بل المراد الطواف بالبيت، وقوله: تقتضي اقتصارا على طواف واحد إلى آخره، ليس كذلك; لأنه قال: إن حجتهم تلك صارت مكية، والحجة المكية يطاف لها بعد عرفة، فإذا كان كذلك يقتصر المتمتع على طواف واحد، على أنا نقول: أحاديث عائشة رضي الله تعالى عنها في هذا الباب مضطربة جدا لا يتم بها الاستدلال لأحد من الخصوم، وقد قالت في رواية:أهللنا بعمرة ، وفي أخرى: فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج ، قالت: ولم أهل إلا بحج وفي أخرى: خرجنا لا نريد إلا الحج وفي أخرى: لبينا بالحج وفي أخرى: مهلين بالحج والكل صحيح، وفي رواية: وكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي حتى قال مالك : ليس العمل على حديث عروة عن عائشة قديما وحديثا.

                                                                                                                                                                                  وسأل الكرماني عن وجه الجمع بين هذه الروايات، ثم قال: قالوا: وجهه أنهم أحرموا بالحج ثم لما أمرهم بالفسخ إلى العمرة أحرم أكثرهم متمتعين، وبعضهم بسبب الهدي بقوا على ما كانوا عليه، وبعضهم صاروا قارنين، ثم قال هذا القائل المعترض: قال عبد الرزاق: عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل قال: حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا وهذا إسناد صحيح.

                                                                                                                                                                                  وفيه بيان ضعف ما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما من ذلك. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: ليت شعري! ما وجه هذا البيان، وعجبي كيف يلهج هذا القائل بهذا القول الذي لا يجديه شيئا، ونقل هذا اليمين عن طاوس كاد أن يكون محالا لعدم القدرة على الإحاطة على أطوفة الصحابة أجمعين، والكلام أيضا في الرواة من دون عبد الرزاق.

                                                                                                                                                                                  قوله "فلما قضينا حجنا" وذلك بعد أن طهرت وطافت بالبيت أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما إلى التنعيم -بفتح التاء المثناة من فوق وسكون النون وبالعين المهملة المكسورة- وهو على ثلاثة أميال من مكة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "مكان عمرتك" نصب على الظرف أي بدل عمرتك.

                                                                                                                                                                                  وقيل: إنما قال ذلك تطييبا لقلبها، ويقال: معناه مكان عمرتك التي تركتها لأجل حيضك.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإنما طافوا" وفي كثير من النسخ طافوا بدون لفظ "فإنما" وبدون الفاء في طافوا، وهذا دليل جواز حذف الفاء في جواب "أما" مع أن النحاة صرحوا بلزوم ذكره إلا في ضرورة الشعر.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: لا يجوز حذف الفاء مستقلا لكن يجوز حذفها مع القول كما في قوله تعالى: فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم إذ تقديره: فالقول لهم هذا الكلام.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن مالك: هذا الحديث وأخواته كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "أما موسى كأني أنظر إليه" "وأما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا" فمخالف لهذه القاعدة، فعلم أن من خصه بما إذا حذف القول معه فهو مقصر في فتواه عاجز عن نصرة دعواه.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية