الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1613 281 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، قالت عمرة: فقالت عائشة - رضي الله عنها-: ليس كما قال ابن عباس، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بيدي، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- شيء أحله الله حتى نحر الهدي.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بيديه" ورجاله قد ذكروا، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قد مر في باب الوضوء مرتين وهذه رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر سقط عمرو، وعمرة هي خالة عبد الله الراوي عنها، ورجال الإسناد كلهم مدنيون إلا شيخ البخاري، وزياد بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف، وبعد الألف دال مهملة، ابن أبي سفيان أبو المغيرة، وهو الذي ادعاه معاوية أخا له لأبيه فألحقه بنسبه، وقيل له: زياد بن أبيه.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الوكالة، عن إسماعيل بن أبي أويس، وأخرجه مسلم أيضا في الحج، عن يحيى بن يحيى، عن مالك، وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بالحديث دون القصة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن زياد بن أبي سفيان" ، كذا وقع في الموطأ، وكان شيخ مالك حدث به كذلك في زمن بني أمية، وأما بعدهم فما كان يقال له إلا زياد بن أبيه، وقيل: استلحاق معاوية له؛ لأنه كان يقال له: زياد بن عبيد، وكانت أمه سمية مولاة الحارث بن كلدة الثقفي تحت عبيد المذكور، فولدت زيادا على فراشه، فكان ينسب إليه، فلما كان في خلافة معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زيادا ولده، فاستلحقه معاوية لذلك، وزوج ابنه ابنته، وأمر زيادا على العراقين البصرة والكوفة، جمعهما له، ومات في خلافة معاوية سنة ثلاث وخمسين، ووقع عند مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك أن ابن زياد بدل قوله: إن زياد بن أبي سفيان قالوا: إنه وهم، نبه عليه الغساني ومن تبعه ممن يتكلم على صحيح مسلم، والصواب ما وقع في البخاري؛ لأنه هو الموجود عند جميع رواة الموطأ، وكذا وقع في سنن أبي داود وغيرها من الكتب المعتمدة، ولأن ابن زياد لم يدرك عائشة، رضي الله عنها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " من أهدى" ؛ أي: من بعث الهدي إلى مكة، قوله: " على الحاج" ويروى: " من الحاج"، قوله: " حتى ينحر هديه" على صيغة المجهول، قوله: " قالت عمرة" ؛ أي: عمرة بنت عبد الرحمن المذكورة في السند، وإنما قالت بالسند المذكور، قوله: " ثم بعث بها" ؛ أي: ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالهدي، وإنما أنث الضمير باعتبار البدنة؛ لأن هديه - صلى الله عليه وسلم- الذي بعث به كان بدنة، قوله: " مع أبي" بفتح الهمزة وكسر الباء الموحدة المخففة، وهو أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه- وكان بعثه - صلى الله عليه وسلم- بهديه مع أبي بكر سنة تسع عام حج أبو بكر بالناس، قوله: " حتى نحر الهدي" ؛ أي: حتى نحر أبو بكر الهدي، ويروى: " حتى نحر" على صيغة المجهول، وقال الكرماني: (فإن قلت): عدم الحرمة ليس مغيا إلى النحر؛ إذ هو باق بعده، فلا مخالفة بين حكم ما بعد الغاية وما قبلها. (قلت): هو غاية النحر لا لما يحرم، أي: الحرمة المنتهية، أي النحر لم يكن؛ وذلك لأنه رد لكلام ابن عباس، وهو كان مثبتا للحرمة إلى النحر. انتهى.

                                                                                                                                                                                  ووقعت زيادة في رواية مسلم هنا، عن يحيى بن يحيى بعد قوله: " حتى ينحر الهدي" وهي: وقد بعثت بهديي، فاكتبي إلي بأمرك، ووقعت في رواية الطحاوي زيادة أخرى، وهي بعد قوله: " فاكتبي إلي بأمرك أو مري صاحب الهدي "؛ أي: الذي معه الهدي، يعني مري بما يصنع، وأخرج الطحاوي هذا الحديث من ثمانية [ ص: 41 ] عشر طريقا كلها في بيان حجة من قال: لا يجب على من بعث بهدي أن يتجرد عن ثيابه، ولا يترك شيئا مما يتركه المحرم إلا بدخوله في الإحرام إما بحج وإما بعمرة، وقد مضى الكلام فيه مستقصى في باب من أشعر وقلد بذي الحليفة، وقد ذكرنا أنهم ردوا قول ابن عباس - رضي الله تعالى عنه- فيما ذهب إليه من قوله: " إن من بعث بهديه إلى مكة وأقام هو، فإنه يلزمه أن يجتنب ما يجتنبه المحرم حتى ينحر هديه"، وقال ابن التين: خالف ابن عباس - رضي الله تعالى عنه- في هذا جميع الفقهاء، واحتجت عائشة بفعل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم- وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه، ولعل ابن عباس - رضي الله تعالى عنه- رجع عنه، انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): ابن عباس لم ينفرد بذلك، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ منهم ابن عمر، رواه ابن أبي شيبة، عن ابن علية، عن أيوب وابن المنذر من طريق ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر: كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم إلا أنه لا يلبي، ومنهم قيس بن سعد بن عبادة، أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيب عنه نحو ذلك، وروى ابن أبي شيبة من طريق محمد بن علي بن الحسين ، عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا في الرجل يرسل ببدنته: إنه يمسك عما يمسك عنه المحرم وهذا منقطع.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: (فإن قلت): ما وجه رد عائشة على ابن عباس؟ (قلت): حاصله أن ابن عباس قال ذلك قياسا للتوكيل في أمر الهدي على المباشرة له، فقالت له عائشة: لا اعتبار للقياس في مقابلة السنة الظاهرة، انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لا نسلم أن ابن عباس قال ذلك قياسا، بل الظاهر أنه إنما قاله لقيام دليل من السنة عنده، ولم يقل ابن عباس هذا وحده كما ذكرناه الآن، ألا يرى أن جماعة من التابعين وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري، ومحمد بن سيرين ومجاهد وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير وافقوا ابن عباس فيما ذهب إليه من ذلك، واحتج لهم الطحاوي في ذلك من حديث جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم- جالسا، فقد قميصه حتى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا وكذا، فلبست قميصي ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي، وكان بعث ببدنة وأقام بالمدينة ، وإسناده حسن، وأخرجه أبو عمر أيضا.

                                                                                                                                                                                  وفي هذا الحديث من الفوائد: تناول الكبير الشيء بنفسه وإن كان له من يكفيه إذا كان مما يهتم به، ولا سيما ما كان من إقامة الشرائع وأمور الديانة، وفيه رد بعض العلماء على بعض، وفيه رد الاجتهاد بالنص، وفيه أن الأصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم- التأسي حتى تثبت الخصوصية.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية