الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1693 362 - حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن حبيب المعلم، عن عطاء قال: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وكان علي قدم من اليمن ومعه الهدي، فقال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا بالبيت، ثم يقصروا ويحلوا إلا من معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، وأن عائشة حاضت فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، قال: فلما طهرت وطافت قالت: يا رسول الله، أتنطلقون بعمرة وحجة، وأنطلق بالحج، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة، وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالعقبة، وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: لا، بل للأبد.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " فأمر عبد الله بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم"، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وعطاء هو ابن أبي رباح المكي.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في التمني عن الحسن بن عمر، هو ابن شقيق عن يزيد بن زريع عن عطاء، وأخرجه أبو داود في الحج أيضا عن أحمد بن حنبل عن عبد الوهاب الثقفي به.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وطلحة" هو ابن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي المدني، أبو محمد، أحد المشهود لهم بالجنة، وهو عطف على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: وغير طلحة، والحاصل أنه لم يكن هدي إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع طلحة فقط.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): ما تقول فيما رواه أحمد ومسلم وغيرهما [ ص: 121 ] من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة أن الهدي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وذوي اليسار.

                                                                                                                                                                                  وروى البخاري أيضا على ما سيأتي من طريق أفلح عن القاسم بلفظ: " ورجال من أصحابه ذوي قوة.." الحديث، وهذا يخالف ما رواه جابر رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): التوفيق بينهما بأن يحمل على أن كلا منهما قد ذكر ما شاهده، واطلع عليه، وقد روى مسلم أيضا من طريق مسلم القري، بضم القاف وتشديد الراء، عن ابن عباس في هذا الحديث: وكان طلحة ممن ساق الهدي فلم يحل، وهذا يشهد لحديث جابر في ذكر طلحة في ذلك، ويشهد أيضا لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها في أن طلحة لم ينفرد بذلك، وداخل في قولها: " وذوي اليسار". وروى مسلم أيضا من حديث أسماء بنت أبي بكر أن الزبير كان ممن كان معه هدي.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وكان علي قدم من اليمن" ، وفي رواية ابن جريج عن عطاء عند مسلم: " من سعايته". قوله: " ومعه الهدي" ؛ جملة وقعت حالا. قوله: " أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم" ويروى: " بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية ابن جريج عن عطاء عن جابر، وعن ابن جريج، عن طاوس، عن ابن عباس في هذا الحديث عند البخاري في الشركة: " فقال أحدهما يقول: لبيك بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: لبيك بحجة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمره أن يقيم على إحرامه وإشراكه في الهدي"

                                                                                                                                                                                  وقد مضى بيان ذلك في باب: من أهل في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإهلال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة" زاد ابن جريج عن عطاء فيه " وأصيبوا النساء، قال عطاء: ولم يعزم عليهم، ولكن أحلهن لهم" يعني إتيان النساء؛ لأن من لازم الإحلال إباحة إتيان النساء، وقد مضى البحث فيه في آخر باب التمتع والقران.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن يجعلوها" الضمير فيه يرجع إلى الحج في قوله: " أهل وأصحابه بالحج" إلا أنه أنثه باعتبار الحجة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يطوفوا بالبيت" . قوله: " ثم يقصروا " عطف على: " يطوفوا"، وقوله: " ويحلوا" عطف على ما قبله إلا من كان معه الهدي فلا يحل، وفي رواية مسلم: " قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل. قال عطاء: قال: حلوا وأصيبوا النساء. قال عطاء: ولم يعزم عليهم، ولكن أحلهن لهم، فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا بالمني، قال: يقول جابر بيده: كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها، قال: فقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فينا، فقال: قد علمتم أني أتقاكم لله، وأصدقكم، وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا، فحللنا وسمعنا وأطعنا.. الحديث.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فقالوا" ؛ أي أصحابه. قوله: " وذكر أحدنا يقطر" جملة حالية، أي: يقطر بالمني، إنما قالوا ذلك لأنه شق عليهم أن يحلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم، ولم يعجبهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ويتركوا الاقتداء به، وقال الطيبي: ولعلهم إنما شق عليهم لإفضائهم إلى النساء قبل انقضاء المناسك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم" ؛ أي بلغه ما قالوا من القول المذكور. قوله: " فقال" ؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم قال تطييبا لقلوبهم: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت"؛ أي: لو علمت في الأول ما علمت في الآخر ما سقت الهدي وأحللت وتمتعت، والمقدمة الأولى للتمني عما فات، والثانية لحكم الحال، وقال ابن الأثير: أي: لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخرا لأمرتكم به في أول أمري. قوله: " وأن عائشة حاضت" عطف على أن المذكورة في أول الحديث، وكان حيضها بسرف قبل دخولهم مكة، وفي رواية مسلم عن أبي الزبير " عن جابر، أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وشكواها ذلك له كان يوم التروية"، وروى مسلم أيضا من طريق مجاهد عن عائشة أن طهرها كان بعرفة، وفي رواية القاسم عنها " وطهرت صبيحة ليلة عرفة حين قدمنا منى"، وله من طريق آخر: " فخرجت في حجتي حتى نزلنا منى فتطهرت ثم طفنا بالبيت.." الحديث، واتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأن سراقة" عطف على "أن" التي قبله، وسراقة، بضم السين المهملة وتخفيف الراء وبالقاف، ابن مالك بن جعشم، بضم الجيم والشين المعجمة وسكون العين بينهما، الكناني المدلجي، مر في باب: من أهل في زمن النبي [ ص: 122 ] صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وهو بالعقبة" ؛ جملة حالية، أي: والنبي صلى الله عليه وسلم كان بعقبة منى. قوله: " وهو يرميها" جملة حالية أيضا؛ أي: والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يرمي جمرة العقبة. قوله: " فقال" ؛ أي: سراقة. قوله: " ألكم هذه؟" أي: هذه الفعلة؛ وهي جعل الحج عمرة أو العمرة في أشهر الحج، والألف في: " ألكم" للاستفهام على سبيل الاستخبار، أراد أن هذه الفعلة مخصوصة بكم في هذه السنة، أو لكم ولغيركم أبدا؟ فأجاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: " للأبد"، وفي رواية يزيد بن زريع: " لنا هذه خاصة"، وفي رواية جعفر عند مسلم: " فقام سراقة فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا، بل لأبد الأبد".

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: اختلف العلماء في معناه على أقوال أصحها وبه قال جمهورهم: معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج.

                                                                                                                                                                                  والثاني: معناه جواز القران، وتقدير الكلام: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إلى يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                  والثالث: تأويل بعض القائلين بأن العمرة ليست واجبة، قالوا: معناه سقوط العمرة، ومعنى دخولها في الحج سقوط وجوبها، وهذا ضعيف أو باطل، وسياق الحديث يقتضي بطلانه.

                                                                                                                                                                                  والرابع: تأويل بعض أهل الظاهر أن معناه جواز فسخ الحج إلى العمرة، وهذا أيضا ضعيف، ورد هذا بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، وفيه نظر.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي أيضا: اختلف العلماء في هذا الفسخ هل هو خاص للصحابة تلك السنة خاصة أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلل بأعمالها، وقال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، ومما يستدل به للجماهير حديث أبي ذر الذي رواه مسلم: كانت في الحج لأصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، يعني فسخ الحج إلى العمرة، وروى النسائي عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: " قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة، فقال: بل لنا خاصة"، وأما الذي في حديث سراقة: " ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: لا، بل للأبد" فمعناه جواز الاعتمار في أشهر الحج والقران كما ذكرناه.

                                                                                                                                                                                  ومن فوائد الحديث المذكور: جواز التمتع، وتعليق الإحرام بإحرام الغير، وجواز قول: "لو" في التأسف على فوات أمور الدين والمصالح، وأما الحديث في أن "لو" تفتح عمل الشيطان، فمحمول على التأسف في حظوظ الدنيا.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية