الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1733 [ ص: 184 ] 405 - (حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش قال: حدثني إبراهيم عن الأسود عن عبد الله رضي الله عنه قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزل عليه: والمرسلات وإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها فابتدرناها فذهبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقيت شركم كما وقيتم شرها).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (اقتلوها)؛ فإن قلت: الترجمة فيما يقتل المحرم، وليس فيه ما يدل على أنه أمر بقتل الحية في حالة الإحرام. قلت: كان ذلك في ليلة عرفة، وبذلك صرح الإسماعيلي في روايته من طريق ابن نمير عن حفص بن غياث، وقوله: (في غار بمنى) يدل على أنه كان في الحرم، وعند ابن خزيمة من رواية أبي كريب، عن حفص بن غياث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر محرما بقتل حية في الحرم بمنى".

                                                                                                                                                                                  ورجال الحديث قد مروا غير مرة، والأعمش هو سليمان، وإبراهيم هو النخعي، والأسود هو ابن يزيد، وعبد الله هو ابن مسعود.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن قتيبة عن جرير، وعن عمر بن حفص أيضا، وقال في التفسير وغيره، وقال حفص وأبو معاوية وسليمان بن قرم، أربعتهم عن الأعمش عنه به، وأخرجه مسلم في الحيوان عن عمر بن حفص به، وعن قتيبة وعثمان بن أبي شيبة، كلاهما عن جرير به، وعن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم، أربعتهم عن أبي معاوية به، وفي الحج عن أبي كريب عن حفص بن غياث ببعضه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل حية بمنى، وأخرجه النسائي في الحج، وفي التفسير عن أحمد بن سليمان الرهاوي عن يحيى بن آدم عن حفص بن غياث به.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بينما) قد ذكرنا غير مرة أن "بينما" و"بينا" ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه هنا هو قوله: (إذ نزل عليه)، والأفصح أن لا يكون فيه "إذ" و"إذا"، وقد جاء أحدهما في الجواب كثيرا. قوله: (إذ نزل عليه)؛ أي: على النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله والمرسلات أي: سورة "والمرسلات" وهو فاعل لقوله: (نزل)، والفعل إذا أسند إلى مؤنث غير حقيقي يجوز فيه التذكير والتأنيث. قوله: (وإني لأتلقاها)؛ أي: لأتلقنها. قوله: (من فيه)؛ أي: من فمه. قوله: (وإن فاه)؛ أي: وإن فمه. قوله: (لرطب بها)؛ أي: لم يجف ريقه بها، وقال التيمي: الرطب عبارة عن الغض الطري، كأن معناها قبل أن يجف ريقه بها. قوله: (إذ وثبت) كلمة "إذ" للمفاجأة. قوله: (فابتدرناها)؛ أي: أسرعنا إلى أخذها، وهو من بدرت إلى الشيء أبدر بدورا؛ أسرعت، وكذلك بادرت إليه، ويقال: ابتدروا السلاح؛ أي: تسارعوا إلى أخذه. قوله: (وقيت)؛ أي: حفظت ومنعت. قوله: (شركم) بالنصب؛ لأنه مفعول ثان للفعل المجهول؛ أي: إن الله سلمها منكم كما سلمكم منها، ولم يلحقها ضرركم كما لم يلحقكم ضررها. قوله: (كما وقيتم) على صيغة المجهول أيضا، و"شرها" بالنصب مفعول ثان له.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه الأمر بقتل الحية سواء كان محرما أو حلالا أو في الحرم، والأمر مقتضاه الوجوب، وقال ابن بطال: أجمع العلماء على جواز قتل الحية في الحل والحرم؛ قال: وأجاز مالك قتل الأفعى، وهي داخلة عنده في معنى الكلب العقور، وقال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب، وقال نافع: لما قيل: فالحية لا يختلف فيها، وفي رواية: " ومن يشك فيها؟" ورد عليه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة أنه سأل الحكم وحمادا فقالا: لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب، قال: ومن حجتهما أنهما من هوام الأرض فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوام. قلت: نعم يباح قتل سائر الهوام القتالة كالرتيلاء وأم الأربعة والأربعين، والسام الأبرص، والوزغة، والنمل المؤذية ونحوها، وأما نهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن قتل حيات البيوت، فقد اختلف السلف قبلنا في ذلك، فقال بعضهم: بظاهر الأمر، يقتل الحيات كلها من غير استثناء شيء منها، كما روى أبو إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس مني"، وروى أيضا هذا عن عمرو ابن مسعود، وقال أبو عمر: روى شعبة عن مخارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب قال: اعتمرت فمررت بالرمال فرأيت حيات فجعلت أقتلهن، " وسألت عمر فقال: هن عدو فاقتلوهن"؛ قال ابن عيينة: سمعت الزهري يحدث عن سالم عن أبيه أن عمر سئل عن الحية يقتلها المحرم فقال: [ ص: 185 ] هي عدو فاقتلوها حيث وجدتموها، وقال زيد بن أسلم: أي كلب أعقر من الحية؟ وقال آخرون: لا ينبغي أن تقتل عوامر البيوت وسكانها إلا بعد مناشدة العهد الذي أخذ عليهن، فإن ثبت بعد إنشاده قتل، وذلك حذار الإصابة فيلحقه ما لحق الفتى المعرس بأهله حيث وجد حية على فراشه فقتلها قبل مناشدته إياها، واعتلوا في ذلك بحديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: " إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإن رأيتم منها شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه"، ولا تخالف بينهما، وربما تمثل بعض الجن ببعض صور الحيات فيظهر لأعين بني آدم كما روى ابن أبي مليكة عن عائشة بنت طلحة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رأت في مغتسلها حية فقتلتها فأتيت في منامها فقيل لها: إنك قتلت مسلما، فقالت: لو كان مسلما ما دخل على أمهات المؤمنين! فقيل: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك، فأصبحت فزعة ففرقت في المساكين اثني عشر ألفا"؛ قال ابن نافع: لا تنذر عوامر البيوت إلا بالمدينة خاصة على ظاهر الحديث، وقال مالك: تنذر بالمدينة وغيرها وهو بالمدينة أوجب، ولا تنذر في الصحارى. وقال غيره بالسوية بين المدينة وغيرها؛ لأن العلة إسلام الجن، ولا يحل قتل مسلم جني ولا إنسي، ومما يؤكد قتل الحية ما ذكره البخاري في هذا الباب عن ابن مسعود، وعند الدارقطني من حديث ذر عن عبد الله: من قتل حية أو عقربا فقد قتل كافرا"، وقال: الموقوف أشبه بالصواب.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية