الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1754 426 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قولها: " إن أمي نذرت.." إلى آخره، وفيه حج عن نذر الميت، وهو مطابق للجزء الأول من الترجمة، وقال بعضهم في قوله: " والرجل يحج عن المرأة" نظر؛ لأن لفظ الحديث أن امرأة سألت عن نذر كان على أبيها، فكان حق الترجمة أن يقول: والمرأة تحج عن الرجل، ثم قال: وأجاب ابن بطال بأن النبي - صلى الله عليه وسلم- خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء، وهو قوله: " اقضوا الله" ثم قال هذا القائل: والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى رواية شعبة، عن أبي بشر في هذا الحديث، فإنه قال فيه: " أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أختي نذرت أن تحج.." الحديث، وفيه: " فأقضي الله فهو أحق بالقضاء"، وقال الكرماني: الترجمة في حج الرجل عن المرأة، وهذا هو حج المرأة عن المرأة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): يلزم منه الترجمة بالطريق الأولى، وفي بعض التراجم: المرأة تحج عن المرأة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): في كل هذا نظر: أما جواب ابن بطال فكاد أن يكون باطلا؛ لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم- هنا ليس للمراد خاصة، وإنما هو خطاب لمن كان حاضرا هناك، ودخول المرأة في الخطاب لا يقتضي المطابقة بين الحديث والترجمة، وأما جواب هذا القائل فأبعد من الأول؛ لأن الترجمة في باب لا يقال بينها وبين حديث مذكور في باب آخر: إنه مطابق لهذه الترجمة، فالأصل أن تكون المطابقة بين ترجمة وحديث مذكورين في باب واحد.

                                                                                                                                                                                  وأما جواب الكرماني ففيه دعوى الأولوية بطريق الملازمة فيحتاج إلى بيان بدليل صحيح مطابق، والوجه ما ذكرناه، فإن قالوا: يلزم من ذلك تعطيل الجزء الأول من الترجمة عن ذكر الحديث.

                                                                                                                                                                                  (قلت): فعلى ما ذكروا يلزم تعطيل الجزء الثاني.

                                                                                                                                                                                  ورجاله قد ذكروا غير مرة، وأبو عوانة، بفتح العين، الوضاح اليشكري، وأبو بشر جعفر بن إياس، وقد مر عن قريب.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الاعتصام عن مسدد، وفي النذور عن آدم، عن شعبة، وأخرجه النسائي أيضا في الحج، عن بندار، عن غندر.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " إن امرأة من جهينة" ؛ بضم الجيم وفتح الهاء وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون، اسم قبيلة في قضاعة، وجهينة بن زيد بن ليث بن أسود بن أسلم، بضم اللام، ابن إلحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير في اليمن، ولم يدر [ ص: 213 ] اسم المرأة، ولكن روى ابن وهب، عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، أن غاثية أتت النبي - صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة، فقال: " اقضي عنها"، أخرجه ابن منده في حرف الغين المعجمة من الصحابيات، وجزم ابن طاهر في المبهمات بأنه اسم لجهينة المذكورة في حديث الباب، وقال الذهبي في حرف الغين المعجمة: غايثة، وقيل: غاثية، سألت عن نذر أمها. أرسله عطاء الخراساني ولا يثبت؛ وغاثية: بالثاء المثلثة بعد الألف، وبعدها الياء آخر الحروف، وقيل بتقديم الياء آخر الحروف على الثاء المثلثة.

                                                                                                                                                                                  وروى النسائي: أخبرنا عمران بن موسى بصري قال: حدثنا عبد الوارث، وهو ابن سعيد، قال: حدثنا أبو التياح، واسمه يزيد بن حميد، بصري، قال: حدثني موسى بن سلمة الهذلي، أن ابن عباس قال: " أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن يسأل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم- أن أمها ماتت ولم تحج، أفيجزي عن أمها أن تحج عنها؟ قال: نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها لم يكن يجزئ عنها، فلتحج عن أمها".

                                                                                                                                                                                  أخبرني عثمان بن عبد الله بن خورزاد أنطاكي، قال: حدثنا علي بن حكيم الأزدري قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن الزهري، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس " أن امرأة سألت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم- عن أبيها مات ولم يحج، فقال: حجي عن أبيك".

                                                                                                                                                                                  أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا سفيان، وهو ابن عيينة، عن الزهري، عن سليمان بن يسار، " عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم- غداة جمع فقالت: يا رسول الله، فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستمسك على الرحل، أحج عنه؟ قال: نعم".

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): هل يصلح أن يفسر بما رواه النسائي من هذه الأحاديث المبهم الذي في حديث الباب؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): لا يصلح؛ لأن في حديث الباب أن المرأة سألت بنفسها، وفي حديث النسائي من طريق عمران بن موسى أن غيرها سأل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم- من جهتها، وأما السؤال في الحديثين الآخرين فعن مطلق الحج، وليس فيهما التصريح بأن الحجة المسئول عنها كانت نذرا.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): روى ابن ماجه من طريق محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس، عن سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - فقالت: إن أمي توفيت وعليها مشي إلى الكعبة نذرا..." الحديث.

                                                                                                                                                                                  (قلت): إن صح هذا فيحمل على واقعتين؛ بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجة أمها المفروضة، وبأن تكون عمته سألت بنفسها عن حجة أمها المنذورة، وتفسر "من" في حديث الباب بأنها عمة سنان، واسمها غاثية كما ذكرنا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن أمي نذرت أن تحج" هكذا وقع في هذا الباب بالطريق المذكور، ووقع في النذور من طريق شعبة، عن أبي بشر بلفظ: " أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال له: إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت... الحديث، فيحمل على أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته، والبنت سألت عن أمها، قيل: إن هذا اضطراب يعلل به الحديث، ورد بأنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أفأحج عنها؟" الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار. قوله: " قال: نعم" ؛ أي: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم-: نعم، حجي عنها؛ أي عن الأم. قوله: " أرأيت" بكسر التاء؛ أي: أخبريني. قوله: " قاضية" على وزن فاعلة، وهو رواية الكشميهني، ويروى " قاضيته" بالضمير في آخره؛ أي: قاضية الدين، وهو رواية الأكثرين. قوله: " اقضوا الله" ؛ أي: اقضوا حق الله، فالله أحق بوفاء حقه من غيره.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه جواز حج المرأة عن أمها لأجل الحجة التي عليها بطريق النذر، وكذا يجوز حج الرجل عن المرأة، والعكس أيضا، ولا خلاف فيه إلا للحسن بن صالح فإنه قال: لا يجوز، وعبارة ابن التين الكراهة فقط، وهو غفلة، وخروج عن ظاهر السنة، كما قال ابن المنذر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تحج عن أمها، وهو عمدة من أجاز الحج عن غيره، وقالت طائفة: لا يحج أحد عن أحد، روي هذا عن ابن عمر، والقاسم، والنخعي، وقال مالك والليث: لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام، ولا ينوب عن فرضه، فإن أوصى الميت بذلك فعند مالك وأبي حنيفة: يخرج من ثلثه، وهو قول النخعي. وعند الشافعي: من رأس ماله، وفي التوضيح: وفيه أن الحجة الواجبة من رأس المال كالدين، وإن لم يوص، وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء، وطاوس، وابن سيرين، ومكحول، وسعيد بن المسيب، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي، وأبي ثور.

                                                                                                                                                                                  (قلت): مذهب [ ص: 214 ] أبي حنيفة ليس كذلك، بل مذهبه أن من مات وعليه حجة الإسلام لم يلزم الورثة، سواء أوصى بأن يحج عنه أو لا، خلافا للشافعي.

                                                                                                                                                                                  فإن أوصى بأن يحج عنه مطلقا يحج عنه من ثلث ماله، فإن بلغ من بلده يجب ذلك، وإن لم يبلغ أن يحج من بلده فالقياس أن تبطل الوصية، وفي الاستحسان: يحج عنه من حيث بلغ، وإن لم يمكن أن يحج عنه بثلث ماله من مكان بطلت الوصية، ويورث عنه.

                                                                                                                                                                                  وفيه مشروعية القياس وضرب المثل؛ ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع، وأقرب إلى سرعة فهمه.

                                                                                                                                                                                  وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه، وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتب على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن وفاء الدين المالي عن الميت كان معلوما عندهم مقررا؛ ولهذا حسن الإلحاق به، وفيه ما احتج به الشافعية على أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله، كما أن عليه قضاء ديونه وقالوا: ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم- شبه الحج بالدين وهو مقضي، وإن لم يوص، ولم يشترط في إجازته ذلك شيئا، وكذلك تشبيهه له بالدين يدل على أن ذلك عليه من جميع ماله دون ثلث ماله كسائر الديون، قلنا: لا نسلم ذلك؛ لأن الميت ليس له حق إلا في ثلث ماله، ودين العباد أقوى لأجل أن له مطالبا، بخلاف دين الله تعالى، فلا يعتبر إلا من الثلث؛ لعدم المنازع فيه.

                                                                                                                                                                                  وقال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسئول عنه خلف مالا، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم- أن حق الله مقدم على حق العباد، واجب عليه الحج عنه، والجامع علة المالية، واعترض بأنا لا نسلم ذلك؛ لأنه لا يستلزم قوله: " أكنت قاضية" أن يكون ذلك مما خلفه، ويجوز أن يكون تبرعا، والله أعلم بحقيقة الحال.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية