الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1801 [ ص: 271 ] 10 - (حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثني الليث عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل: هذا الحديث غير مطابق للترجمة، وأجاب عنه صاحب (التلويح) بأن في بعض طرق حديث ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال" فكأن البخاري على عادته أحال على هذا فطابق بذلك ما بوب له من ذكر رمضان، وصاحب (التوضيح) تبعه على ذلك، وقال بعضهم: وإنما أراد المصنف بإيراده في هذا الباب ثبوت ذكر رمضان بغير "شهر"، ولم يقع ذلك في الرواية الموصولة وإنما وقع في الرواية المعلقة. (قلت): قد ذهل هذا القائل عن حديث قتيبة في أول الباب؛ فإنه موصول وليس فيه ذكر "شهر"، والحديث الذي يليه عن يحيى بن بكير فيه ذكر الشهر، والترجمة هل يقال: رمضان أو شهر رمضان، فحديث قتيبة يطابق قوله: هل يقال: رمضان، وحديث يحيى يطابق قوله: أو شهر رمضان، فضاع الوجه الذي ذكره باطلا، وجواب صاحب التلويح أيضا ليس بشيء، والوجه في هذا أن يقال: الأحاديث المعلقة والموصولة المذكورة في هذا الباب تدل على أن لشهر رمضان أوصافا عظيمة، منها: أن فيه غفران ما تقدم من ذنب الصائم فيه إيمانا واحتسابا، وهو الذي علق منه البخاري قطعة في أول الباب، وأن فيه فتح أبواب الجنان، وأن فيه غلق أبواب النار، وأن فيه تسلسل الشياطين، وقد ثبت بالدلائل القطعية فرضية هذا الصوم الموصوف بهذه الأوصاف، وأورد هذا الحديث في هذا الباب ليعلم أن هذا الصوم يكون في أيام محدودة وهي أيام شهر رمضان، وأن الوجوب يتعلق برؤيته، فمن هذه الحيثية يستأنس لوجه إيراد هذا الحديث فيه، ويكفي في التطابق أدنى المناسبة، فافهم.

                                                                                                                                                                                  ثم سند هذا الحديث هو بعينه سند الحديث الذي قبله غير أنه في الأول يروي ابن شهاب عن ابن أبي أنس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وفي هذا الحديث يروي ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إذا رأيتموه" ؛ أي: الهلال، لا يقال: إنه إضمار قبل الذكر لدلالة السياق عليه كقوله تعالى: ولأبويه لكل واحد منهما السدس أي: لأبوي الميت. قوله: " فإن غم عليكم" ؛ أي: فإن ستر الهلال عليكم، ومنه الغم؛ لأنه يستر القلب، والرجل الأغم المستور الجبهة بالشعر، وسمي السحاب غيما؛ لأنه يستر السماء، ويقال: غم الهلال؛ إذا استتر ولم ير لاستتاره بغيم ونحوه، وغممت الشيء، أي: غطيته. قوله: " فاقدروا له" بضم الدال وكسرها، يقال: قدرت لأمر كذا؛ إذا نظرت فيه ودبرته.

                                                                                                                                                                                  وقال في (شرح المهذب) وغيره: أي ضيقوا له وقدروه تحت السحاب، وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يوم الغيم عن رمضان، وقال آخرون، منهم: ابن شريح، ومطرف بن عبد الله، وابن قتيبة: معناه: قدروه بحساب المنازل، يعني منازل القمر.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر في (الاستذكار): وقد كان بعض كبار التابعين يذهب في هذا إلى اعتباره بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب. وقال ابن سيرين - رحمه الله تعالى-: وكان أفضل له لو لم يفعل، وحكى ابن شريح عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه؛ جاز له أن يعتقد الصوم ويبيته ويجزيه، وقال أبو عمر: والذي عندنا في كتبه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلا برؤية فاشية، أو شهادة عادلة، أو إكمال شعبان ثلاثين يوما، وعلى هذا مذهب جمهور فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، والمغرب، منهم: مالك، والشافعي، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وعامة أهل الحديث إلا أحمد ومن قال بقوله، وذكر في (القنية) للحنفية: لا بأس بالاعتماد على قول المنجمين، وعن ابن مقاتل: لا بأس بالاعتماد على قولهم والسؤال عنهم إذا اتفق عليه جماعة منهم، وقول من قال: إنه يرجع إليهم عند الاشتباه بعيد. وعند الشافعي: لا يجوز تقليد المنجم في حسابه، وهل يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه؟ فيه وجهان، وقال المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله: " فاقدروا له" على أن المراد إكمال العدة ثلاثين،، كما فسره في حديث آخر، ولا يجوز أن يكون المراد حساب [ ص: 272 ] النجوم؛ لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا الأفراد، والشارع إنما يأمر الناس بما يعرفه جماهيرهم. قال القشيري: وإذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلا، فهذا يقتضي الوجوب؛ لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم، فإن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بإكمال العدة أو بالاجتهاد أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم، وإذا لم ير الهلال ولا أخبره من رآه. وفي (الإشراف): صوم يوم الثلاثين من شعبان إذ لم ير الهلال مع الصحو إجماع من الأمة أنه لا يجب، بل هو منهي عنه.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: واختلفوا في هذا التقدير، يعني: في قوله: " فاقدروا له" فقيل: معناه قدروا عدد الشهر الذي كنتم فيه ثلاثين يوما؛ إذ الأصل بقاء الشهر، وهذا هو المرضي عند الجمهور، وقيل: قدروا له منازل القمر وسيره، فإن ذلك يدل على أن الشهر تسعة وعشرون يوما أو ثلاثون، فقالوا: هذا خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، والوجه هو الأول.

                                                                                                                                                                                  وقد استفيد من هذا الحديث أن وجوب الصوم ووجوب الإفطار عند انتهاء الصوم متعلقان برؤية الهلال، وقال عبد الرزاق: حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر أن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين.

                                                                                                                                                                                  وقال الشافعي: حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: " لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"، قال ابن عبد البر: كذا قال، والمحفوظ في حديث ابن عمر: " فاقدروا له"، وقد ذكر عبد الرزاق عن أيوب، عن نافع عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهلال رمضان: "إذا رأيتموه فصوموا، ثم إذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوما".

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر: وروى ابن عباس، وأبو هريرة، وحذيفة، وأبو بكر، وطلق الحنفي، وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (قلت): حديث ابن عباس أخرجه أبو داود عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم، لا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا، والشهر تسع وعشرون" وحديث أبي هريرة عند الترمذي رواه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا " وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، وقد انفرد به الترمذي من هذا الوجه، وحديث حذيفة عند أبي داود والنسائي أخرجه أبو داود من رواية منصور عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة " ونقل ابن الجوزي في (التحقيق): إن أحمد ضعف حديث حذيفة وقال: ليس ذكر حذيفة فيه بمحفوظ، وقد أنكر عليه ابن عبد الهادي في (التنقيح): وقال: إنه وهم منه، فإن أحمد إنما أراد أن الصحيح قول من قال عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجهالته غير قادحة في صحة الحديث.

                                                                                                                                                                                  وحديث أبي بكرة رواه أبو داود الطيالسي، ومن طريقه البيهقي بلفظ: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما"، وحديث طلق بن علي رواه الطبراني في (الكبير) فقال: " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يصوم قبل رمضان بصوم يوم حتى تروا الهلال أو نفي العدة، ثم لا تفطرون حتى تروه أو نفي العدة "، وفي إسناده حبان بن رفيدة، قال ابن حبان: فيه نظر، وقال الذهبي: لا يعرف.

                                                                                                                                                                                  وغيرهم من الصحابة البراء بن عازب، وعائشة، وعمر، وجابر، ورافع بن خديج، وابن مسعود، وابن عمر، وعلي بن أبي طالب، وسمرة بن جندب رضي الله تعالى عنهم. فحديث البراء بن عازب عند الطبراني في (الكبير)، وحديث عائشة عند أبي داود، وحديث عمر عند البيهقي، وحديث جابر عند البيهقي أيضا، وحديث رافع بن خديج عند الدارقطني، وحديث ابن مسعود عند الطبراني في (الكبير)، وحديث ابن عمر عند مسلم، وحديث علي بن أبي طالب عند أحمد والطبراني، وحديث سمرة بن جندب عند الطبراني.

                                                                                                                                                                                  ثم الحكمة في النهي عن التقديم بصوم يوم أو يومين هي أن لا يختلط صوم الفرض بصوم نفل قبله ولا بعده تحذيرا [ ص: 273 ] مما صنعت النصارى في الزيادة على ما افترض عليهم برأيهم الفاسد، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم كراهة صوم يوم الشك أنه من رمضان، منهم: علي، وعمر، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، وأبو وائل، وابن المسيب، وعكرمة، وإبراهيم، والأوزاعي، والثوري، والأئمة الأربعة، وأبو عبيد، وأبو ثور، وإسحاق، وجاء ما يدل على الجواز عن جماعة من الصحابة، قال أبو هريرة: لأن أتعجل في صوم رمضان بيوم أحب إلي من أن أتأخر؛ لأني إذا تعجلت لم يفتني، وإذا تأخرت فاتني، ومثله عن عمرو بن العاص، وعن معاوية: لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان، وروى مثله عن عائشة وأسماء بنتي أبي بكر رضي الله تعالى عنهم فإن حال دون منظره غيم وشبهه فكذلك لا يجب صومه عند الكوفيين ومالك، والشافعي، والأوزاعي، والثوري. ورواية عن أحمد، فلو صامه وبان أنه من رمضان يحرم عندنا، وبه قال الثوري والأوزاعي، وقال ابن عمر وأحمد رضي الله تعالى عنه وطائفة قليلة: يجب صومه في الغيم دون الصحو.

                                                                                                                                                                                  وقال قوم: الناس تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، وهو قول الحسن، وابن سيرين، وسوار العنبري، والشعبي في رواية، وأحمد في رواية.

                                                                                                                                                                                  وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير، وابن شريح عن الشافعي، وابن قتيبة، والداودي، وآخرون: ينبغي أن يصبح يوم الشك مفطرا متلوما، غير آكل ولا عازم على الصوم، حتى إذا تبين أنه من رمضان قبل الزوال نوى وإلا أفطر فيما ذكره الطحاوي.

                                                                                                                                                                                  ويوم الشك هو أن يشهد عند القاضي من لا تقبل شهادته أنه رآه أو أخبره من يثق به من عبد أو امرأة، فلو صامه ونوى التطوع به فهو غير مكروه عند الحنفية، وبه قال مالك، وفي (شرح الهداية): والأفضل في حق الخواص صومه بنية التطوع بنفسه وخاصته، وهو مروي عن أبي يوسف، وفرض العوام التلوم إلى أن يقرب الزوال. وفي (المحيط): إلى الزوال، فإن ظهر أنه من رمضان نوى الصوم وإلا أفطر، وإن صام قبل رمضان ثلاثة أيام أو شعبان كله أو وافق يوم الشك يوما كان يصومه، فالأفضل صومه بنية النفل.

                                                                                                                                                                                  وفي (المبسوط): الصوم أفضل، قال: وتأويل النهي أن ينوي الفرض فيه، وفي (المحيط): إن وافق يوما كان يصومه فالصوم أفضل وإلا فالفطر أفضل، والصوم قبله بيوم أو يومين مكروه، أي صوم كان، ولا يكره بثلاثة وهو قول أحمد.

                                                                                                                                                                                  وقال الشافعي: يكره التطوع إذا انتصف شعبان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " قال الترمذي : حسن صحيح، وقال النسائي : لا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير العلاء بن عبد الرحمن، وروى عن أحمد أنه قال: هو ليس بمحفوظ، قال: وسألنا عبد الرحمن بن مهدي عنه فلم يصححه ولم يخدش به وكان يتوقاه، قال أحمد والعلاء: لا ينكر من حديثه إلا هذا، وفي رواية المروزي: سألنا أحمد عنه فأنكره، وقال أبو عبد الله: هذا خلاف الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى تقدير صحة قول الترمذي يعارضه حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: " أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين " وسرر الشهر آخره، سمي بذلك لاستتار القمر فيه، وروى أبو داود بإسناد جيد من حديث معاوية، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " صوموا الشهر وسره وأنا متقدم بالصيام فمن أحب فليفعله " وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا كاملا إلا شعبان يصله برمضان ، قال الترمذي : حديث حسن، وعند الحاكم على شرطهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصوم شعبان ثم يصله برمضان ، وفي (معجم الحافظ المنذري) في حرف العين المهملة بسند فيه ابن صالح كاتب الليث بن سعد، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب عن سالم قال: كان عبد الله بن عمر يصوم قبل هلال رمضان بيوم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية