الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1833 42 - حدثنا عبد الله بن منير قال : سمع يزيد بن هارون قال : حدثنا يحيى هو ابن سعيد أن عبد الرحمن بن القاسم أخبره ، عن محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام بن خويلد ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : أخبره أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول : إن رجلا أتى النبي صلى الله [ ص: 25 ] عليه وسلم فقال : إنه احترق ، قال : ما لك ؟ قال : أصبت أهلي في رمضان ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق ، فقال : أين المحترق ؟ قال : أنا . قال : تصدق بهذا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " أصبت أهلي في رمضان " أراد أنه جامع في نهار رمضان .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله ، وهم سبعة :

                                                                                                                                                                                  الأول : عبد الله بن منير بضم الميم وكسر النون الزاهد أبو عبد الرحمن .

                                                                                                                                                                                  الثاني : يزيد من الزيادة ابن هارون أبو خالد .

                                                                                                                                                                                  الثالث : يحيى بن سعيد الأنصاري .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  الخامس : محمد بن جعفر .

                                                                                                                                                                                  السادس : عباد بفتح العين وتشديد الباء الموحدة ابن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  السابع : أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه الإخبار بصيغة الإفراد في موضعين ، وفيه السماع في موضعين ، وفيه أن شيخه مروزي وأنه من أفراده ، وأن يزيد بن هارون واسطي والبقية مدنيون ، وفيه أربعة من التابعين في نسق واحد ، ويحيى وعبد الرحمن تابعيان صغيران من طبقة واحدة وفوقهما قليلا محمد بن جعفر ، وأما ابن عمه عباد فمن أوساط التابعين .

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ، أخرجه البخاري أيضا في المحاربين وأخرجه مسلم في الصوم ، عن محمد بن رمح وعن محمد بن المثنى وعن أبي الطاهر ، وأخرجه أبو داود فيه عن سليمان بن داود ، وعن محمد بن عوف ، وأخرجه النسائي فيه عن الحارث بن مسكين وعن عيسى بن حماد ، وعن إسحاق بن إبراهيم وعن يحيى بن حبيب .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " إن رجلا " زعم ابن بشكوال أن هذا الرجل هو سلمة بن صخر البياضي فيما ذكره ابن أبي شيبة في مسنده ، وعند ابن الجارود سلمان بن صخر ، وفي جامع الترمذي سلمة بن صخر ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا هارون بن إسماعيل ، حدثنا علي بن المبارك ، حدثنا يحيى بن أبي كثير، " حدثنا أبو سلمة أن سلمة بن صخر البياضي جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان ، فلما مضى نصف رمضان وقع عليها ليلا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فقال : أعتق رقبة ، قال : لا أجدها ، قال : فصم شهرين متتابعين ، قال : لا أستطيع ، قال : أطعم ستين مسكينا ، قال : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفروة بن عمرو : أعطه ذلك العرق وهو مكتل يأخذ خمسة عشر أو ستة عشر صاعا " وقال صاحب التلويح : فهذا غير ما ذكره ابن بشكوال فينظر والله أعلم .

                                                                                                                                                                                  قلت : لا شك أنه غيره ؛ لأن ابن بشكوال استند إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق سلمان بن يسار ، عن سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته في رمضان وأنه وطئها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حرر رقبة . قلت : لا أملك رقبة غيرها ، وضرب صفحة رقبته ، قال : فصم شهرين متتابعين ، قال : وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام ، قال : فأطعم ستين مسكينا ، قال : والذي بعثك بالحق ما لنا طعام ، قال : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك. انتهى. والظاهر أنهما واقعتان فإن في قصة المجامع في حديث الباب أنه كان صائما ، وفي قصة سلمة بن صخر أن ذلك كان ليلا كما في رواية الترمذي المذكورة آنفا ، فافترقا واجتماعهما في كونهما من بني بياضة ، وفي صفة الكفارة وكونها مرتبة وفي كون كل منهما كان لا يقدر على شيء من خصالها لا يستلزم اتحاد القصتين والله أعلم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إنه احترق " وفي رواية أبي هريرة إنه عبر بقوله : " هلكت " ورواية الاحتراق تفسر رواية الهلاك ، وكأنه لما اعتقد أن مرتكب الإثم يعذب بالنار أطلق على نفسه أنه احترق لذلك ، أو مراده أنه يحترق بالنار يوم القيامة ، فجعل المتوقع كالواقع ، واستعمل بدله لفظ الماضي أو شبه ما وقع فيه من الجماع في الصوم بالاحتراق ، وفي رواية البيهقي " جاءه رجل وهو ينتف شعره ويدق صدره ويقول : هلك الأبعد وأهلكت " وفي رواية " وهو يدعو بالويل " وفي رواية " يلطم وجهه " وفي رواية الحجاج بن أرطاة " يدعو ويله " وفي مرسل سعيد بن المسيب عند الدارقطني "ويحثي على رأسه التراب" .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال ما لك ؟ " أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شأنك وما جرى عليك . قوله : " أصبت أهلي في رمضان " كناية عن وطئها ، وفي رواية الطحاوي : " وقعت على امرأتي في رمضان " . قوله : " فأتي النبي صلى الله عليه وسلم " بضم الهمزة وكسر التاء على صيغة المجهول . قوله : " بمكتل " بكسر الميم الزنبيل الكبير قيل: إنه يسع خمسة عشر صاعا ، كان فيه مكتلا من التمر أي قطعا مجتمعة ، ويجمع على مكاتل ، وقال القاضي : المكتل [ ص: 26 ] والقفة والزنبيل سواء ، وسمي الزبيل لحمل الزبل فيه ، قاله ابن دريد ، والزبيل بكسر الزاي ويقال بفتحها ، وكلاهما لغتان ، وفي المحكم : الزبيل الجراب ، وقيل : الوعاء يحمل فيه ، والزبيل القفة والجمع زبل وزبلان ، وفي الصحاح : الزبيل معروف، فإذا كسرته شددته فقلت زبيل؛ لأنه ليس في كلام العرب فعليل بالفتح ، وجاء فيه لغة أخرى وهي زنبيل بكسر الزاي وسكون النون ، قال بعضهم : وقد تدغم النون فتشدد الياء مع بقاء وزنه وجمعه على اللغات الثلاث زنابيل .

                                                                                                                                                                                  قلت : ليس جمعه على اللغتين الأوليين إلا ما نقلنا عن المحكم ، وأما زنابيل فليس إلا جمع المشدد فقط .

                                                                                                                                                                                  قوله : " يدعى العرق " ذكر أبو عمر أنه بفتح الراء وهو الصواب عند أهل اللغة قال : وأكثرهم يروونه بسكون الراء ، وفي شرح الموطأ لابن حبيب رواه مطرف ، عن مالك بتحريك الراء ، وقال ابن التين في رواية أبي الحسن بسكون الراء ، ورواية أبي ذر بفتحها ، وأنكر بعض العلماء إسكان الراء ، وفي كتاب العين : العرق مثال شجر ، والعرقات كل مضفور أو مصطف ، والعرق أيضا السقيفة من الخوص قبل أن يجعل منها زنبيلا ، وسمي الزنبيل عرقا لذلك ، ويقال العرقة أيضا ، وعن أبي عمر : والعرق أكبر من المكتل ، والمكتل أكبر من القفة ، والعرقة زنبيل من قد بلغه كلب ، ذكره في الموعب ، وفي المحكم العرق واحدته عرقة ، قال أحمد بن عمران : العرق المكتل العظيم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أين المحترق " يدل على أنه كان عامدا لأنه صلى الله عليه وسلم أثبت له حكم العمد ، وأثبت له هذا الوصف إشارة إلى أنه لو أصر غير ذلك لاستحق ذلك .

                                                                                                                                                                                  قوله : " تصدق بهذا " مطلق ، والمراد تصدق على ستين مسكينا هكذا رواه مختصرا ، ورواه مسلم وقال : حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر قال : أخبرنا الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير " عن عائشة قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : احترقت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم ؟ قال : وطئت امرأتي في رمضان نهارا . قال : تصدق . قال : ما عندي شيء . فأمره أن يجلس ، فجاءه عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق بهما " وفي رواية أخرى : " أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان فقال : يا رسول الله احترقت احترقت ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شأنك ؟ فقال : أصبت أهلي ، فقال : تصدق . فقال : والله يا نبي الله ما لي شيء وما أقدر عليه . قال : اجلس فجلس ، فبينما هو كذلك أقبل رجل يسوق حمارا عليه طعام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين المحترق آنفا ، فقام الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدق بهذا . فقال : يا رسول الله أغيرنا فوالله إنا لجياع ما لنا شيء . قال : كلوه " وأخرجه أبو داود أيضا .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : ومن الحديثين اللذين يأتيان بعده وغيرها من الأحاديث التي في هذا الباب وهو على أنواع :

                                                                                                                                                                                  النوع الأول : أن قوما استدلوا بقوله : " تصدق بهذا " على أن الذي يجب على من جامع في نهار رمضان عامدا الصدقة لا غير ، وقال صاحب التوضيح : وذكر الطحاوي عن هؤلاء القوم هكذا ولم يبين من هم .

                                                                                                                                                                                  قلت : هم عوف بن مالك الأشجعي ومالك في رواية وعبد الله بن رهم فإنهم قالوا في هذا تجب عليه الصدقة ولا تجب عليه الكفارة ، واحتجوا في ذلك بظاهر حديث المحترق ، وأجيب بأن حديث أبي هريرة الذي يأتي في الكتاب زاد فيه العتق والصيام والأخذ به أولى ؛ لأن أبا هريرة حفظ ذلك ولم تحفظه عائشة ، ويقال إنها لم تجب عليه في الحال لعجزه عن الكل ، وأخرت إلى زمن الميسرة ، وفي المبسوط وما أمره به صلى الله عليه وسلم كان تطوعا لأنها لم تكن واجبة عليه في الحال لعجزه ، ولهذا أجاز صرفها إلى نفسه وعياله ، وعن أبي جعفر الطبري أن قياس قول أبي حنيفة والثوري وأبي ثور إن الكفارة دين عليه لا تسقط عنه لعسرته ، وعليه أن يأتي بها إذا أيسر كسائر الكفارات ، وعند الشافعية فيه وجهان ، وذهب بعضهم إلى أن إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل أكل الكفارة لعسرته رخصة له ، ولهذا قال ابن شهاب : ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير ، وقيل هو منسوخ ، وقيل هو خاص بذلك الرجل ، وقال بعض أصحابنا : خص هذا الرجل بأحكام ثلاثة ؛ بجواز الإطعام مع القدرة على الصيام ، وصرفه على نفسه ، والاكتفاء بخمسة عشر صاعا .

                                                                                                                                                                                  النوع الثاني : لو أنهم اختلفوا في كمية هذه الصدقة فقال الشافعي ومالك : إن الواجب فيها مد وهو ربع صاع لكل مسكين ، وهو خمسة عشر صاعا لما روى أبو داود من رواية هشام بن سعد ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وفيه " فأتي بعرق [ ص: 27 ] قدر خمسة عشر صاعا ، وروى الدارقطني من رواية سفيان عن منصور عن الزهري ، عن حميد، عن أبي هريرة ، وفيه " فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكتل فيه خمسة عشر صاعا من تمر " ورواه البيهقي أيضا ثم قال : وكذلك رواه إبراهيم بن طهمان ، عن منصور بن المعتمر قال فيه " بمكتل فيه خمسة عشر صاعا من تمر " ورواه الدارقطني أيضا من رواية روح ، عن محمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن حميد قال : وفيه بزبيل وهو المكتل فيه خمسة عشر صاعا أحسبه تمرا قال : وكذلك قال هقل بن زياد والوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، وقال الخطابي : وظاهره يدل على أن قدر خمسة عشر صاعا يكفي للكفارة عن شخص واحد لكل مسكين مد ، قال : وقد جعله الشافعي أصلا لمذهبه في أكثر المواضع التي يجب فيها الإطعام ، وعندنا الواجب لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر كما في كفارة الظهار لما روى الدارقطني ، عن ابن عباس : " يطعم كل يوم مسكينا نصف صاع من بر " وعن عائشة في هذه القصة : " أتي بعرق فيه عشرون صاعا " ذكره السفاقسي في شرح البخاري ، ويروى " ما بين خمسة عشر صاعا إلى عشرين " وفي صحيح مسلم : فأمره أن يجلس ، فجاء عرقان فيهما طعام ، فأمره أن يتصدق به ، فإذا كان العرق خمسة عشر صاعا فالعرقان ثلاثون صاعا على ستين مسكينا لكل مسكين نصف صاع ، وقال بعضهم : ووقع في بعض طرق عائشة عند مسلم : فجاءه عرقان ، والمشهور في غيرها عرق ، ورجحه البيهقي ، وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة ، وقال : الذي يظهر أن التمر كان قدر عرق ، لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل في الحمل ، فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر ، فمن قال : عرقان أراد ابتداء الحال ، ومن قال : عرق أراد ما آل إليه .

                                                                                                                                                                                  قلت : كون المشهور في غير طرق عائشة عرقا لا يستلزم رد ما روي في بعض طرق عائشة أنه عرقان ، ومن أين ترجيح رواية غير مسلم على رواية مسلم ، فهذا مجرد دعوى لتمشية مذهبه وقول من يدعي تعدد الواقعة غير صحيح لأن مخرج الحديث واحد ، والأصل عدم التعدد ، وقول هذا القائل والذي يظهر إلى آخره ساقط جدا ، وتأويل فاسد ، فمن أين هذا الظهور الذي يذكره بغير أصل ولا دليل من نفس الكلام ولا قرينة من الخارج ، وإنما هو من آثار أريحية التعصب نصرة لما ذهب إليه ، والحق أحق أن يتبع ، والله ولي العصمة .

                                                                                                                                                                                  النوع الثالث : احتج به الشافعي وداود وأهل الظاهر على أنه لا يلزم في الجماع على الرجل والمرأة إلا كفارة واحدة ، إذ لم يذكر له النبي صلى الله عليه وسلم حكم المرأة وهو موضع البيان ، وقال أبو حنيفة ومالك وأبو ثور : تجب الكفارة على المرأة أيضا إن طاوعته ، وقال القاضي وسوى الأوزاعي بين المكرهة والطائعة على مذهبه ، وقال مالك في المشهور من مذهبه في المكرهة يكفر عنها بغير الصوم ، وقال سحنون : لا شيء عليها ولا عليه لها ، وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر ، ولم يختلف مذهبنا في قضاء المكرهة والنائمة إلا ما ذكره ابن القصار عن القاضي إسماعيل ، عن مالك : أنه لا غسل على الموطوءة نائمة ولا مكرهة ولا شيء عليها إلا أن تلتذ ، قال ابن قصار : فتبين من هذا أنها غير مفطرة ، وقال القاضي : وظاهره أنه لا قضاء على المكرهة إلا أن تلتذ ، ولا على النائمة لأنها كالمحتلمة وهو قول أبي ثور في النائمة والمكرهة .

                                                                                                                                                                                  واختلف في وجوب الكفارة على المكره على الوطء لغيره على هذا ، وحكى ابن القصار ، عن أبي حنيفة : لا يلزم المكره عن نفسه ولا على من أكرهه ، وقال صاحب البدائع : وأما على المرأة فتجب عليها أيضا الكفارة إذا كانت مطاوعة ، وللشافعي قولان في قول لا يجب عليها أصلا ، وفي قول يجب عليها ويتحملها الزوج ، وأما الجواب عن قولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر حكم المرأة وهو موضع البيان أن المرأة لعلها كانت مكرهة أو ناسية لصومها أو من يباح لها الفطر ذلك اليوم لعذر المرض أو السفر أو الصغر أو الجنون أو الكفر أو الحيض أو طهارتها من حيضها في أثناء النهار .

                                                                                                                                                                                  النوع الرابع : في أن الواجب إطعام ستين مسكينا خلافا لما روي عن الحسن أنه رأى أن يطعم أربعين مسكينا عشرين صاعا حكاه ابن التين عنه ، وحكوا عن أبي حنيفة أنه قال : يجزيه أن يدفع طعام ستين مسكينا إلى مسكين واحد ، قالوا : والحديث حجة عليه . قلت : الذي حكى مذهب أبي حنيفة لم يعرف مذهبه فيه ، وحكى من غير معرفة ، ومذهبه أنه إذا دفع إلى مسكين واحد في شهرين يجوز فلا يكون الحديث حجة عليه ؛ لأن المقصود سد خلة المحتاج ، والحاجة تتجدد بتجدد الأيام ، فكان في اليوم الثاني كمسكين آخر حتى لو أعطى مسكينا واحدا كله في يوم واحد لا يصح إلا عن يومه ذلك لأن الواجب [ ص: 28 ] عليه التفريق ولم يوجد ثم الشرط في الإطعام غداءان وعشاءان مشبعان أو غداء وعشاء في يوم واحد .

                                                                                                                                                                                  النوع الخامس : في أن الترتيب في الكفارة واجب فتحرير رقبة أولا فإن لم يوجد فصيام شهرين وإن لم يستطع الصوم فإطعام ستين مسكينا ، بدليل عطف بعض الجمل على البعض بالفاء المرتبة المعقبة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن حبيب من المالكية ، وذهب مالك وأصحابه إلى التخيير لقوله في حديث أبي هريرة " صم شهرين أو أطعم " فخيره بأو التي موضوعها التخيير ، وعن ابن القاسم : لا يعرف مالك غير الإطعام ، وذكر مقلدوه حججا لذلك كثيرة لا تقاوم ما دل عليه الحديث من وجوب الترتيب أو استحبابه ، وزعم بعضهم أن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات قال ابن التين : وإليه ذهب المتأخرون من أصحابنا ، فوقت المجاعة الإطعام أولى وإن كان خصبا فالعتق أولى ، وأمر بعض المفتين أهل الغنى الواسع بالصوم لمشقته عليه ، وعن أبي ليلى هو مخير في العتق والصيام ، فإن لم يقدر عليهما أطعم ، وإليه ذهب ابن جرير ، قالا : ولا سبيل إلى الإطعام إلا عند العجز عن العتق أو الصيام ، وقال ابن قدامة : المشهور من مذهب أحمد أن كفارة الوطء في رمضان ككفارة الظهار في الترتيب ؛ العتق إن أمكن فإن عجز انتقل إلى الصيام فإن عجز انتقل إلى الإطعام وهو قول جمهور العلماء ، وعن أحمد رواية أخرى أنها على التخيير بين العتق والصيام والإطعام ، وبأيها كفر أجزأه وهو رواية عن مالك ، فإن عجز عن هذه الأشياء سقطت الكفارة عنه في إحدى الروايتين عن أحمد ؛ لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما رأى عجز الأعرابي عنها قال : " أطعمه أهلك " ولم يأمره بكفارة أخرى ، وهو قول الأوزاعي ، وعن الزهري : لا بد من التكفير ، وقد مر الكلام فيه في أول الأنواع .

                                                                                                                                                                                  النوع السادس : في أن إطلاق الرقبة في الحديث يدل على جواز المسلمة والكافرة والذكر والأنثى والصغير والكبير وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وجعلوا هذا كالظهار مستدلين بما رواه الدارقطني من حديث إسماعيل بن سالم ، عن مجاهد " عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أفطر في رمضان يوما بكفارة الظهار " وإطلاق الحديث أيضا يقتضي جواز الرقبة المعيبة وهو مذهب داود ، ومالك وأحمد والشافعي شرطوا الإيمان في إجزاء الرقبة بدليل تقييدها في كفارة القتل ، وهي مسألة حمل المطلق على المقيد ، وقال عطاء : إن لم يجد رقبة أهدى بدنة فإن لم يجد فبقرة ، وقال ابن العربي : ونحوه عن الحسن .

                                                                                                                                                                                  النوع السابع : في أن التتابع في صوم الشهرين شرط بالنص بشرط أن لا يكون فيهما رمضان وأيام منهية وهي يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق ، وهو قول كافة العلماء إلا ابن أبي ليلى فإنه قال : لا يجب التتابع في الصيام ، والحديث حجة عليه .

                                                                                                                                                                                  النوع الثامن : اختلف الفقهاء في قضاء ذلك اليوم مع الكفارة ، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور وأحمد وإسحاق : عليه قضاؤه ، وقال الأوزاعي : إن كفر بالعتق والإطعام صام يوما مكان ذلك اليوم الذي أفطر وإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم ، وقال قوم : ليس في الكفارة صيام ذلك اليوم ، قال أبو عمر : لأنه لم يرد في حديث عائشة ولا في حديث أبي هريرة في نقل الحفاظ للأخبار التي لا علة فيها ذكر القضاء ، وإنما فيها الكفارة . قلت : جاء في خبر أبي هريرة وغيره القضاء ، وروى ابن ماجه ، عن حرملة بن يحيى ، عن عبد الله بن وهب ، عن عبد الجبار بن عمر، عن يحيى بن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أي بالحديث الذي فيه هلكت ، وقد تقدم قبله ثم قال : " ويصوم يوما مكانه " .

                                                                                                                                                                                  النوع التاسع : أجمعوا على أن من وطئ في رمضان ثم وطئ في يوم آخر أن عليه كفارة أخرى ، وأجمعوا أنه ليس على من وطئ مرارا في يوم واحد إلا كفارة واحدة ، فإن وطئ في يوم من رمضان ولم يكفر حتى وطئ في يوم آخر ، فذهب مالك والشافعي وأحمد أن عليه لكل يوم كفارة كفر أم لا ، وقال أبو حنيفة : عليه كفارة واحدة إذا وطئ قبل أن يكفر ، وقال الثوري : أحب إلي أن يكفر عن كل يوم وأرجو أن يجزيه كفارة واحدة ما لم يكفر .

                                                                                                                                                                                  النوع العاشر : في حديث الباب دلالة على التمليك الضمني من قوله : " تصدق بهذا " قال صاحب المفهم : يلزم منه أن يكون قد ملكه إياه ليتصدق به عن كفارته قال : ويكون هذا كقول القائل أعتقت عبدي عن فلان ، فإنه يتضمن سبقية الملك عند قوم قال : وأباه أصحابنا مع الاتفاق على أن الولاء للمعتق فيه ، وأن الكفارة تسقط بذلك .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية