الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1834 43 - حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت ، قال : ما لك ؟ قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . فقال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا . قال : فمكث النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر - والعرق المكتل - قال : أين السائل ؟ فقال : أنا ، قال : خذها فتصدق به . فقال الرجل : أعلى أفقر مني يا رسول الله ، فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ، ثم قال : أطعمه أهلك .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة لأن قوله : " وقعت على امرأتي وأنا صائم " عبارة عن الجماع .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله : وهم خمسة كلهم قد ذكروا غير مرة ، وأبو اليمان الحكم بن نافع الحمصي وشعيب هو ابن أبي حمزة الحمصي ، والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب ، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع ، والإخبار كذلك في موضع ، وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في موضع ، وفيه القول في موضعين ، وفيه أن الراوي عن الزهري هو شعيب ، والزهري هو الراوي عن حميد ، وروى ما ينيف على أربعين نفسا عن الزهري عن حميد ، عن أبي هريرة ، وهم ابن عيينة والليث ومعمر ومنصور عند الشيخين، والأوزاعي وشعيب وإبراهيم بن سعد عند البخاري، ومالك وابن جريج عند مسلم ، ويحيى بن سعيد وعراك بن مالك عند النسائي، وعبد الجبار بن عمر عند أبي عوانة، والجوزقي وعبد الرحمن بن مسافر عند الطحاوي ، وعقيل عند ابن خزيمة ، وابن أبي حفصة عند أحمد، ويونس وحجاج بن أرطاة ، وصالح بن أبي الأخضر عند الدارقطني ، ومحمد بن إسحاق عند البزار ، والنعمان بن راشد عند الطحاوي ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ، وعبد الرحمن بن نمر وأبو أويس وعبد الجبار بن عمر الأيلي ، وعبيد الله بن عمر وإسماعيل بن أمية ، ومحمد بن أبي عتيق ، وموسى بن عقبة ، وعبد الله بن عيسى ، وإسحاق بن يحيى العوصي ، وهبار بن عقيل وثابت بن ثوبان ، وقرة بن عبد الرحمن ، وزمعة بن صالح ، وفخر السقاء ، والوليد بن محمد ، وشعيب بن خالد ، ونوح بن أبي مريم ، وعبد الله بن أبي بكر ، وفليح بن سليمان ، وعمرو بن عثمان المخزومي ، ويزيد بن عياض ، وشبل بن عباد ، وقد رواه هشام بن سعد عن الزهري فخالف الجماعة في إسناده ، فرواه عنه ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة وزاد فيه " وصم يوما مكانه " رواه أبو داود وسكت عليه ، وقال أبو عوانة الإسفراييني : غلط فيه هشام بن سعد ، وقد رواه أيضا عبد الجبار بن عمر الأيلي بإسناد آخر رواه عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه ابن ماجه ورواه البيهقي من رواية عبد الجبار بن عمر ، عن يحيى بن سعيد وعطاء الخراساني ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، وقال : عبد الجبار ليس بالقوي ، وقد ورد من حديث مجاهد ، عن أبي هريرة مختصرا ، ومن حديث محمد بن كعب ، عن أبي هريرة [ ص: 30 ] رواهما الدارقطني وضعفهما ، وفيه أن أبا هريرة قال ، وفي رواية ابن جريج عند مسلم وعقيل عند ابن خزيمة وأبي أويس عند الدارقطني التصريح بالتحديث بين حميد وأبي هريرة .

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن موسى بن إسماعيل ، وعن محمد بن مقاتل ، وعن القعنبي ، وفي النفقات عن أحمد بن يونس ، وفي النذور عن علي بن عبد الله ، وفي الصوم أيضا عن عثمان ، وفي المحاربين عن قتيبة ، وفي الهبة والنذور أيضا عن محمد بن محبوب ، وأخرجه مسلم في الصوم ، عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وعن يحيى بن يحيى ، وقتيبة ومحمد بن رمح ، وعن إسحاق بن إبراهيم ، وعن عبد بن حميد ، وعن محمد بن رافع ، عن إسحاق وعن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق ، وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد ومحمد وعيسى ، وعن القعنبي به ، وعن الحسن بن علي ، وأخرجه الترمذي فيه عن نصر بن علي وأبي عمار ، وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به ، وعن محمد بن منصور ، وعن محمد بن قدامة ، وعن محمد بن عبد الله ، وعن محمد بن نصر ، وعن محمد بن إسماعيل ، وعن الربيع بن سليمان ، عن أبي الأسود وإسحاق بن مضر ، وفي الشروط عن هارون بن عبد الله ، وأخرجه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان به .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " بينما " قد مر غير مرة أن أصل بينما بين فأشبعت فتحة النون وصار بينا ثم زيدت فيه الميم فصار بينما ، ويضاف إلى جملة اسمية وفعلية ، ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى ، والأفصح في جوابها أن لا يكون فيه إذ وإذا ، ولكن يجيء بهذا كثيرا هنا كذلك وهو قوله : " إذ جاءه رجل " وقال بعضهم : ومن خاصة بينما أنها تتلقى بإذ وبإذا حيث تجيء للمفاجأة بخلاف بينا فلا تتلقى بواحدة منهما ، وقد ورد في هذا الحديث كذلك .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا تصرف في العربية من عنده ، وليس ما قاله بصحيح ، وقد ذكروا أن كلا منهما يتلقى بواحدة منهما ، غير أن الأفصح كما ذكرنا أن لا يتلقيا بهما ، وقد ورد في الحديث بإذ في الأول وفي الثاني بدون إذ وإذا على الأصل الذي هو الأفصح ، فأي شيء دعوى الخصوصية في بينما بإذ وإذا ونفيها في بينا ، ولم يقل بهذا أحد .

                                                                                                                                                                                  قوله : " عند النبي صلى الله عليه وسلم " وفي رواية الكشميهني : " مع النبي صلى الله عليه وسلم " وقال بعضهم : فيه حسن الأدب في التعبير كما تشعر العندية بالتعظيم بخلاف ما لو قال : مع .

                                                                                                                                                                                  قلت : لفظة عند موضوعها الحضرة ، ومن أين الإشعار فيه بالتعظيم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إذا جاء رجل " قد مر الكلام فيه في حديث عائشة . قوله : " هلكت " وفي حديث عائشة: " احترقت " كما مر ، وفي رواية ابن أبي حفصة : " ما أراني إلا قد هلكت " وقد روي في بعض طرق هذا الحديث : " هلكت وأهلكت " قال الخطابي : وهذه اللفظة غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث ، قال : وأصحاب سفيان لم يرووها عنه إنما ذكروا قوله : " هلكت " حسب قال : غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان ، فذكر هذا الحرف فيه ، وهو غير محفوظ ، والمعلى ليس بذلك في الحفظ والإتقان . انتهى . وقال البيهقي : إن هذه اللفظة لا يرضاها أصحاب الحديث ، وقال القاضي عياض : إن هذه اللفظة ليست محفوظة عند الحفاظ الأثبات .

                                                                                                                                                                                  وقال شيخنا زيد الدين رحمه الله : وردت هذه اللفظة مسندة من طريق ثلاثة : أحدها الذي ذكره الخطابي ، وقد رواها الدارقطني من رواية أبي ثور قال : حدثنا معلى بن منصور ، حدثنا سفيان بن عيينة ، فذكره الدارقطني تفرد به أبو ثور ، عن معلى بن منصور ، عن ابن عيينة بقوله : " وأهلكت " قال : وهم ثقات .

                                                                                                                                                                                  الطريق الثاني : من رواية الأوزاعي ، عن الزهري ، وقد رواها البيهقي بسنده ثم نقل عن الحاكم أنه ضعف هذه اللفظة وحملها على أنها أدخلت على محمد بن المسيب الأرغياني ، ثم استدل على ذلك .

                                                                                                                                                                                  والطريق الثالث : من رواية عقيل ، عن الزهري رواها الدارقطني في غير السنن وقال : حدثنا النيسابوري ، حدثنا محمد بن عزيز ، حدثني سلامة بن روح ، عن عقيل ، عن الزهري فذكره ، وقد تكلم في سماع محمد بن عزيز من سلامة ، وفي سماع سلامة من عقيل وتكلم فيهما ، أما محمد بن عزيز فضعفه النسائي مرة ، وقال مرة : لا بأس به ، وأما سلامة فقال أبو زرعة : ضعيف منكر ، وأجود طرق هذه اللفظة طريق المعلى بن منصور على أن المعلى وإن اتفق الشيخان على إخراج حديثه فقد تركه أحمد ، وقال : لم أكتب عنه كان يحدث بما وافق الرأي ، وكان كل يوم يخطئ في حديثين أو ثلاثة .

                                                                                                                                                                                  قلت : هو من أصحاب أبي حنيفة [ ص: 31 ] ووثقه يحيى بن معين ، وقال يعقوب بن شيبة : ثقة فيما تفرد به وشورك فيه ، متقن صدوق فقيه مأمون ، وقال العجلي : ثقة صاحب سنة وكان نبيلا ، طلبوه للقضاء غير مرة فأبى ، وقال ابن سعد : كان صدوقا صاحب حديث ورأي وفقه، مات سنة أحد عشرة ومائتين .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال ما لك " بفتح اللام وهو استفهام عن حاله ، وفي رواية عقيل : " ويحك ما شأنك " ولابن أبي حفصة : " وما الذي أهلكك وما ذاك " وفي رواية الأوزاعي : " ويحك ما صنعت " أخرجه البخاري في الأدب ، وفي رواية الترمذي : " وما الذي أهلكك " وكذا في رواية الدارقطني .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وقعت على امرأتي " وفي رواية ابن إسحاق : " أصبت أهلي " وفي حديث عائشة : " وطئت امرأتي " . قوله : " وأنا صائم " جملة وقعت حالا من الضمير الذي في وقعت ، فإن قلت : من أين يعلم أنه كان صائما في رمضان حتى يترتب عليه وجوب الكفارة ؟

                                                                                                                                                                                  قلت : وقع في أول هذا الحديث في رواية مالك وابن جريج : " أن رجلا أفطر في رمضان " الحديث، ووقع أيضا في رواية عبد الجبار بن عمر : " وقعت على أهلي اليوم وذلك في رمضان " وفي رواية ساق مسلم إسنادها وساق أبو عوانة في مستخرجه متنها أنه قال : " أفطرت في رمضان " وبهذا يرد على القرطبي في دعواه تعدد القصة ؛ لأن مخرج الحديث واحد والقصة واحدة ، ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور : " أصبت امرأتي ظهرا في رمضان " وبتعيين رمضان يفهم الفرق في وجوب كفارة الجماع في الصوم بين رمضان وغيره من الواجبات كالنذر ، وبعض المالكية أوجبوا الكفارة على من أفسد صومه مطلقا ، واحتجوا بظاهر هذا الحديث ، ورد عليهم بالذي ذكرناه الآن .

                                                                                                                                                                                  قوله : " هل تجد رقبة تعتقها " وفي رواية منصور : " أتجد ما تحرر رقبة " وفي رواية ابن أبي حفصة : " أتستطيع أن تعتق رقبة " وفي رواية إبراهيم بن سعد والأوزاعي: " فقال : أعتق رقبة " وزاد في رواية عن أبي هريرة : " فقال بئس ما صنعت أعتق رقبة " وفي حديث عبد الله بن عمر أخرجه الطبراني في الكبير " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني أفطرت يوما من رمضان ، فقال : من غير عذر ولا سقم ؟ قال : نعم . قال : بئس ما صنعت . قال : أجل ما تأمرني . قال : أعتق رقبة " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال : لا " أي قال الرجل : لا أجد رقبة ، وفي رواية ابن مسافر : " فقال لا والله يا رسول الله " وفي رواية ابن إسحاق : " ليس عندي " وفي حديث ابن عمر : " فقال والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط " . قوله : " فهل تستطيع أن تصوم شهرين " قال القرطبي : أي تقوى وتقدر ، وفي حديث سعد : " قال : لا أقدر " وفي رواية ابن إسحاق : " وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام " وقال الشيخ تقي الدين : رواية ابن إسحاق هذه تقتضي أن عدم استطاعته شدة شبقه وعدم صبره عن الوقاع ، فهل يكون ذلك عذرا في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام حتى يعد صاحبه غير مستطيع للصوم أم لا ، والصحيح عند الشافعية اعتبار ذلك فيسوغ له الانتقال إلى الإطعام ، ويلتحق به من يجد رقبة وهو غير مستغن عنها ، فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها لكونه في حكم غير الواجد . انتهى .

                                                                                                                                                                                  قلت : في هذا كله نظر لأن الشارع رتب هذه الخصال بالفاء التي هي للترتيب والتعقيب ، فكيف ينقض هذا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " متتابعين " فيه اشتراط التتابع ، وقد مر الكلام فيه . قوله : " فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا " وزاد في رواية ابن مسافر : " يا رسول الله " ووقع في رواية سفيان : " هل تستطيع إطعام ستين مسكينا " ووقع في رواية إبراهيم بن سعد وعراق بن مالك : " فأطعم ستين مسكينا ، قال : لا أجد " وفي رواية ابن أبي حفصة : " أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا " وذكر الحاجة ، وفي حديث ابن عمر قال : " والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي " وقال ابن دقيق العيد : أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين فلا يكون ذلك موجودا في حق من أطعم ستة مساكين عشرة أيام مثلا ، ومن أجاز ذلك فكأنه استنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال ، والمشهور عن الحنفية الإجزاء حتى لو أطعم الجميع مسكينا واحدا في ستين يوما كفى .

                                                                                                                                                                                  قلت : هؤلاء الذين يشتغلون بالحنفية يحفظون شيئا وتغيب عنهم أشياء ، أفلا يعلمون أن المراد هاهنا سد خلة الفقير ، فإذا وجد ذلك مع مراعاة معنى الستين فلا طعن فيه ، ثم المراد من الإطعام الإعطاء لهم بحيث يتمكنون من الأكل ، وليس المراد حقيقة الإطعام من وضع المطعوم في فم الآكل .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما الحكمة في هذه الخصال الثلاثة ، وما المناسبة بينها ؟

                                                                                                                                                                                  قلت : الذي انتهك حرمة الصوم بالجماع عمدا في نهار رمضان فقد أهلك نفسه بالمعصية ، فناسب أن يعتق رقبة فيفدي نفسه بها وثبت في الصحيح " أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو [ ص: 32 ] منها عضوا من النار " وأما الصيام فمناسبته ظاهرة لأنه كالمقاصة بجنس الجناية ، وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء ، فلما أفسد منه يوما كان كمن أفسد الشهر كله من حيث إنه عبادة واحدة بالنوع ، فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده ، وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة لأن مقابلة كل يوم بإطعام مسكين ثم إن هذه الخصال جامعة لاشتمالها على حق الله تعالى وهو الصوم وحق الأحرار بالإطعام وحق الأرقاء بالإعتاق وحق الجاني بثواب الامتثال .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فمكث " بالميم وفتح الكاف وضمها وبالثاء المثلثة وفي رواية أبي نعيم في المستخرج من وجهين ، عن أبي اليمان أحدهما " مكث " مثل ما هو هنا والآخر " فسكت " من السكوت ، وفي رواية أبي عيينة " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اجلس فجلس " . قوله : " فبينا نحن على ذلك " وفي رواية ابن عيينة " فبينما هو جالس كذلك " قيل يحتمل أن يكون سبب أمره بالجلوس لانتظار ما يوحى إليه في حقه ، ويحتمل أنه كان عرف أنه سيؤتى بشيء يعينه به . قوله : " أتي النبي صلى الله عليه وسلم " كذا هو على بناء المجهول عند الأكثرين ، وفي رواية ابن عيينة " إذ أتي " وهو جواب قوله بينا ، وقد مر في قوله : " بينما نحن جلوس " أن بعضهم قال : إن بينا لا يتلقى بإذ ولا بإذا ، وهاهنا في رواية ابن عيينة جاء بإذ وهو يرد ما قاله ، فكأنه ذهل عن هذا والآتي من هو لم يدر ، وقال بعضهم : والآتي المذكور لم يسم . قلت : في أين ذكر الآتي حتى قال : لم يسم لكن وقع في الكفارات على ما سيأتي في رواية معمر: " فجاء رجل من الأنصار " وهو أيضا غير معلوم فإن قلت : عند الدارقطني من طريق داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب مرسلا " فأتى رجل من ثقيف " . قلت : رواية الصحيح أصح ، ويمكن أن يحمل على أنه كان حليفا للأنصار ، فأطلق عليه الأنصاري وقال بعضهم أو إطلاق الأنصاري بالمعنى الأعم . قلت : لا وجه لذلك ؛ لأنه يلزم منه أن يطلق على كل من كان من أي قبيلة كان أنصاريا بهذا المعنى ، ولم يقل به أحد . قوله : " بعرق " قد مر تفسيره عن قريب مستوفى . قوله : " والمكتل " تفسير العرق ، وقد مر تفسير المكتل أيضا ، وفي رواية ابن عيينة عند الإسماعيلي وابن خزيمة " المكتل " الضخم فإن قلت : تفسير العرق بالمكتل ممن ؟ قلت : الظاهر أنه من الصحابي ، ويحتمل أن يكون من الرواة ، قيل : في رواية ابن عيينة ما يشعر بأنه الزهري ، وفي رواية منصور في الباب الذي يلي هذا وهو باب المجامع في رمضان : فأتي بعرق فيه تمر، وهو الزبيل ، وفي رواية ابن أبي حفصة " فأتي بزبيل " وقد مر تفسير الزبيل أيضا مستوفى . قوله : " أين السائل " قال الكرماني : فإن قلت : لم يكن لذلك الرجل سؤال بل كان له مجرد إخبار بأنه هلك ، فما وجه إطلاق لفظ السائل عليه ؟ قلت : كلامه متضمن للسؤال ، أي هلكت فما مقتضاه وما يترتب عليه . فإن قلت : لم يبين في هذا الحديث مقدار ما في المكتل من التمر . قلت : وقع في رواية ابن أبي حفصة " فيه خمسة عشر صاعا " وفي رواية مؤمل عن سفيان " فيه خمسة عشر أو نحو ذلك " وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثوري عند ابن خزيمة " فيه خمسة عشر أو عشرون " وكذا هو عند مالك ، وفي مرسل سعيد بن المسيب عند الدارقطني الجزم بعشرين صاعا ، ووقع في حديث عائشة عند ابن خزيمة " فأتي بعرق فيه عشرون صاعا " وقال بعضهم : من قال عشرون أراد أصل ما كان فيه ، ومن قال : خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة ، ويبين ذلك حديث علي عند الدارقطني " يطعم ستين مسكينا لكل مسكين مد " ، وفيه " فأتي بخمسة عشر صاعا فقال : أطعمه ستين مسكينا " وكذا في رواية حجاج ، عن الزهري عند الدارقطني في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : وفيه رد على الكوفيين في قولهم : إن واجبه من القمح ثلاثون صاعا ، ومن غيره ستون صاعا ، وعلى أشهب في قوله : لو غداهم أو عشاهم كفى لصدق الإطعام ، ولقول الحسن : " يطعم أربعين مسكينا عشرين صاعا " ولقول عطاء : إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعا أو بالجماع أطعم خمسة عشر ، وفيه رد على الجوهري حيث قال : في الصحاح المكتل تشبه الزبيل يسع خمسة عشر صاعا ؛ لأنه لا حصر في ذلك . انتهى . قلت : ليت شعري كيف فيه رد على الكوفيين وهم قد احتجوا بما رواه مسلم " فجاءه عرقان فيهما طعام " وقد ذكرنا فيما مضى أن ما في العرقين يكون ثلاثين صاعا ، فيعطى لكل مسكين نصف صاع ، بل الرد على أئمتهم حيث احتجوا فيما ذهبوا إليه بالروايات المضطربة ، وفي بعضها الشك فالعجب [ ص: 33 ] منه أن يرد على الكوفيين مع علمه أن احتجاجهم قوي صحيح ، وأعجب منه أنه قال في رواية مسلم هذه : ووجهه أن كان محفوظا ، وقد ردينا عليه ما قاله فيما مضى عن قريب ، وكذلك قوله وفيه رد على الجوهري غير صحيح لأنه لم يحصر ما قاله في ذلك ، غاية ما في الباب أنه نقل أحد المعاني التي قالوا في المكتل وسكت عليه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فتصدق به " وزاد ابن إسحاق : " فتصدق عن نفسك " ويؤيده رواية منصور في الباب الذي يليه بلفظ : " أطعم هذا عنك " . قوله : " أعلى أفقر مني " أي أتصدق به على شخص أفقر مني ، وفي حديث ابن عمر أخرجه البزار والطبراني في الأوسط " إلى من أدفعه قال : إلى أفقر من تعلم " وفي رواية إبراهيم بن سعد " أعلى أفقر من أهلي " ولابن مسافر " أعلى أهل بيت أفقر مني " والأوزاعي" أعلى غير أهلي " ولمنصور " أعلى أحوج منا " ولابن إسحاق " وهل الصدقة إلا لي وعلي " . قوله : " فوالله ما بين لابتيها " اللابتان بالباء الموحدة المفتوحة ثم بالتاء المثناة من فوق عبارة عن حرتين تكتنفان المدينة، وهي تثنية لابة ، والحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء الأرض ذات حجارة سود .

                                                                                                                                                                                  قوله : " يريد الحرتين " من كلام بعض رواته ، ووقع في حديث ابن عمر المذكور : " ما بين حرتيها " وفي رواية الأوزاعي الآتي في الأدب " والذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة " وهو تثنية طنب بضم الطاء المهملة والنون أحد أطناب الخيمة ، واستعاره للطرف . قوله : " أهل بيت أفقر من أهل بيتي " لفظ أهل مرفوع لأنه اسم ما النافية ، وأفقر منصوب لأنه خبرها ، ويجوز رفعه على لغة تميم ، وفي رواية يونس : " أفقر مني ومن أهل بيتي " وفي رواية عقيل : " ما أحد أحق به من أهلي ما أحد أحوج إليه مني " وفي مرسل سعيد من رواية داود عنه : " والله ما لعيالي من طعام " وفي حديث عند ابن خزيمة : " ما لنا عشاء ليلة " . قوله : " فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه " وفي رواية ابن إسحاق : " حتى بدت نواجذه " ولأبي قرة في السنن ، عن ابن جريج : " حتى بدت ثناياه " قيل : لعلها تصحيف من أنيابه ، فإن الثنايا تتبين بالتبسم غالبا ، وظاهر السياق إرادة الزيادة على التبسم ، ويحمل ما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أن ضحكه كان تبسما غالب أحواله ، وقيل : كان لا يضحك إلا في أمر يتعلق بالآخرة ، فإن كان في أمر الدنيا لم يزد على التبسم ، وقيل : إن سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم كان من تباين حال الرجل حيث جاء خائفا على نفسه راغبا في فداها مهما أمكنه ، فلما وجد الرخصة طمع أن يأكل ما أعطيه في الكفارة ، وقيل : ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه وحسن تأتيه وتلطفه في الخطاب ، وحسن توسله في توصله إلى مقصوده . قوله : " ثم قال : أطعمه أهلك " وفي رواية لابن عيينة في الكفارات : " أطعمه عيالك " وفي رواية إبراهيم بن سعد : " فأنتم إذا " وقدم ذلك على ذكر الضحك ، وفي رواية أبي قرة ، عن ابن جريج : " ثم قال : كله " ، وفي رواية ابن إسحاق : " خذها وكلها وأنفقها على عيالك " .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : قد ذكرنا في الباب الذي قبله ما يتعلق به وبغيره من الأحكام ، فلنذكر هنا ما لم نذكر هناك . ففيه أن من جاء مستفتيا فيما فيه الاجتهاد دون الحدود المحدودة أنه لا يلزمه تعزير ولا عقوبة كما لم يعاقب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأعرابي على هتك حرمة الشهر ، قاله عياض ، قال : لأن في مجيئه واستفتائه ظهور توبته وإقلاعه ، قال : ولأنه لو عوقب كل من جاء بجيئه لم يستفت أحدا غالبا عن نازلة مخافة العقوبة بخلاف ما فيه حد محدود ، وقد بوب عليه البخاري في كتاب المحاربين: باب من أصاب ذنبا دون الحد فأخبر الإمام فلا عقوبة عليه بعد أن جاء مستفتيا ، وفي رواية أبي ذر مستعتبا ثم قال البخاري : وقال ابن جريج ولم يعاقب الذي جامع في رمضان . فإن قلت : وقع في شرح السنة للبغوي أن من جامع متعمدا في رمضان فسد صومه وعليه القضاء والكفارة ، ويعزر على سوء صنيعه . قلت : هو محمول على من لم يقع منه ما وقع من صاحب هذه القصة من الندم والتوبة .

                                                                                                                                                                                  وفيه أن الكفارة مرتبة ككفارة الظهار ، وهو قول أكثر العلماء ، إلا أن مالك بن أنس زعم أنه مخير بين عتق الرقبة وصوم شهرين والإطعام ، وحكي عنه أنه قال : الإطعام أحب إلي من العتق ، ووقع في المدونة : ولا يعرف مالك غير الإطعام ، ولا يأخذ بعتق ولا صيام ، وقال ابن دقيق العيد : وهي معضلة لا يهتدي إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت ، غير أن بعض المحققين من أصحابه حل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال ، وذكر أصحابه في هذا [ ص: 34 ] وجوها كثيرة كلها لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصيام ثم الإطعام .

                                                                                                                                                                                  وفيه أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب المذكور ، قال ابن العربي : لأنه عليه الصلاة والسلام نقله من أمر بعد عدمه إلى أمر آخر ، وليس هذا شأن التخيير ، وقال البيضاوي : ترتب الثاني بالفاء على فقد الأول ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني يدل على عدم التخيير مع كونها في معرض البيان ، وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط المحكم ، وقيل : سلك الجمهور في ذلك مسلك الترجيح بأن الذين رووا الترتيب عن الزهري أكثر ممن روى التخيير ، واعترض ابن التين بأن الذين رووا الترتيب ابن عيينة ومعمر والأوزاعي، والذين رووا التخيير مالك وابن جريج وفليح بن سليمان وعمر بن عثمان المخزومي ، وأجيب بأن الذين رووا الترتيب عن الزهري ثلاثون نفسا أو أكثر ، ورجح الترتيب أيضا بأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها ، فمعه زيادة علم من صورة الواقعة ، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث ، فدل على أنه من تصرف بعض الرواة إما لقصد الاختصار أو لغير ذلك ، ويترجح الترتيب أيضا بأنه أحوط ، وحمل المهلب والقرطبي الأمر على التعدد وهو بعيد ؛ لأن القصة واحدة ، والأصل عدم التعدد ، وحمل بعضهم الترتيب على الأولوية ، والتخيير على الجواز .

                                                                                                                                                                                  وفيه إعانة المعسر في الكفارة ، وعليه بوب البخاري في النذور .

                                                                                                                                                                                  وفيه إعطاء القريب من الكفارة، وبوب عليه البخاري في النذور ، وفيه إعطاء القريب من الكفارة ، وبوب عليه البخاري أيضا ، وفيه أن الهبة والصدقة لا يحتاج فيهما إلى القبول باللفظ بل القبض كاف ، وعليه بوب البخاري أيضا ، وفيه أن الكفارة لا تجب إلا بعد نفقة من تجب عليه، وقد بوب عليه البخاري أيضا في النفقات ، وفيه جواز المبالغة في الضحك عند التعجب لقوله : " حتى بدت أنيابه " ، وفيه جواز قول الرجل في الجواب : ويحك أو ويلك ، وفيه جواز الحلف بالله وصفاته وإن لم يستحلف كما في البخاري وغيره : " والذي بعثك بالحق " وفي رواية له : " والله ما بين لابتيها " إلى آخره ، وفيه أن القول قول الفقير أو المسكين وجواز عطائه مما يستحقه الفقراء لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكلفه البينة حين ادعى أنه ما بين لابتي المدينة أهل بيت أحوج منهم ، وفيه جواز الحلف على غلبة الظن وإن لم يعلم ذلك بالدلائل القطعية لحلف المذكور أنه ليس بالمدينة أحوج منهم ، مع جواز أن يكون بالمدينة أحوج منهم لكثرة الفقراء فيها ، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه استعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه لقوله : " وقعت أو أصبت " فإن قلت : ورد في بعض طرقه : " وطئت " . قلت : هذا من تصرف الرواة ، وفيه الرفق بالمتعلم والتلطف في التعليم ، والتأليف على الدين ، والندم على المعصية واستشعار الخوف ، وفيه الجلوس في المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية كنشر العلم ، وفيه التعاون على العبادة ، وفيه السعي على خلاص المسلم ، وفيه إعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة ، وفيه إعطاء الكفارة لأهل بيت واحد.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية