الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1849 58 - حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا يحيى ، عن أبي سلمة قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : كان يكون علي الصوم من رمضان ، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان ، قال : يحيى الشغل من النبي ، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم . .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إنه يفسر الإبهام الذي في الترجمة ؛ لأن الترجمة متى يقضي قضاء رمضان ، والحديث يدل على أنه يقضي في أي وقت كان ، غير أنه إذا أخره حتى دخل رمضان ثان يجب عليه الفدية عند الشافعي ، وقد ذكرنا الخلاف فيه مستقصى ، وعند أصحابنا : لا يجب عليه شيء غير القضاء لإطلاق النص .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله : وهم خمسة: الأول : أحمد بن يونس ، وهو أحمد بن عبد الله بن يونس ، أبو عبد الله اليربوعي التميمي . الثاني : زهير بن معاوية ، أبو خيثمة الجعفي . الثالث : يحيى ، قال صاحب التلويح :اختلف في يحيى هذا ؛ فزعم الضياء المقدسي أنه يحيى القطان ، وقال ابن التين : قيل : إنه يحيى بن أبي كثير . قلت : وبه قال : الكرماني وجزم به ، والصحيح أنه يحيى بن سعيد الأنصاري ، نص عليه الحافظ المزي عند ذكر هذا الحديث ، وقال بعضهم منكرا على الكرماني وابن التين في قولهما : إنه يحيى بن أبي كثير ، قال : وغفل الكرماني عما أخرجه مسلم ، عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه فقال في نفس السند عن يحيى بن سعيد . قلت : هو أيضا غفل عن إيضاح ما قاله ؛ لأن المذكور في حديث مسلم يحيى بن سعيد ، ولقائل أن يقول : يحتمل أن يكون يحيى هذا هو يحيى بن سعيد القطان ، كما قاله الضياء ، ولو قال مثل ما قلنا لكان أوضح وأصوب . الرابع : أبو سلمة بن عبد الرحمن . الخامس : أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في موضع واحد ، وفيه السماع ، وفيه يحيى عن أبي سلمة ، وفي رواية الإسماعيلي من طريق أبي خالد ، عن يحيى بن سعيد : سمعت أبا سلمة ، وفيه أن شيخه وزهيرا كوفيان ، وأن يحيى وأبا سلمة مدنيان ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية .

                                                                                                                                                                                  ذكر من أخرجه غيره : أخرجه مسلم أيضا في الصوم ، عن أحمد بن يونس به ، وعن محمد بن المثنى ، وعن عمرو الناقد ، وعن إسحاق بن إبراهيم ، وعن محمد بن رافع ، وأخرجه أبو داود فيه ، عن القعنبي ، عن مالك وأخرجه النسائي فيه ، عن عمرو ، عن علي ، عن يحيى بن سعيد القطان ، وأخرجه ابن ماجه فيه عن علي بن المنذر .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " كان يكون " ، وفي الأطراف للمزي " إن كان يكون " ، وفائدة اجتماع كان مع يكون يذكر أحدهما بصيغة الماضي والآخر بصيغة المستقبل تحقيق القضية وتعظيمها ، وتقديره " وكان الشأن يكون كذا " ، وأما تغيير الأسلوب فلإرادة الاستمرار ، وتكرر الفعل ، وقيل : لفظة يكون زائدة كما قال : الشاعر .


                                                                                                                                                                                  وجيران لنا كانوا كرام

                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  وأما رواية " أن كان " فإن كلمة " أن " تكون مخففة من المثقلة . قوله : " أن أقضي " ، أي ما فاتها من رمضان . قوله قال : يحيى أي يحيى المذكور في سند الحديث المذكور إليه ، فهو موصول قوله : " الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم " ، مقول يحيى ، وارتفاع الشغل يجوز أن يكون على أنه فاعل فعل محذوف تقديره قالت : يمنعني الشغل ، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ، أي قال يحيى : الشغل هو المانع لها ، والمراد من الشغل أنها كانت مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك ، وأما في شعبان فإنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه فتتفرغ عائشة لقضاء صومها .

                                                                                                                                                                                  قال الكرماني فإن قلت : شغل منه بمعنى فرغ عنه ، وهو عكس المقصود ؛ إذ الفرض أن الاشتغال برسول الله صلى الله عليه وسلم هو المانع من القضاء لا الفراغ منه . قلت : [ ص: 56 ] المراد الشغل الحاصل من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقع في رواية مسلم ، عن أحمد بن يونس شيخ البخاري قال يحيى : " الشغل " ، إلى آخره ، ووقع في روايته ، عن إسحاق بن إبراهيم قال يحيى بن سعيد بهذا الإسناد غير أنه قال : وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية عن محمد بن رافع قال : فظننت أن ذلك لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . يحيى يقوله . وفي روايته ، عن عمرو الناقد : لم يذكر في الحديث الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم وروايته ، عن يونس بدون ذكر يحيى يدل على أن قوله الشغل من رسول الله أو برسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام عائشة أو من كلام من روى عنها ، وأخرجه أبو داود من طريق مالك والنسائي من طريق يحيى القطان بدون هذه الزيادة ، وكذلك في رواية مسلم في روايته ، عن عمرو الناقد ، كما ذكرناه ، وقال بعضهم : وأخرجه مسلم من طريق محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي سلمة بدون الزيادة ، لكن فيه ما يشعر بها ؛ فإنه قال فيه : " فما أستطيع قضاءها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " . انتهى . قلت : ليس متن حديث هذا الطريق مثل الذي ذكره ، وإنما قال مسلم : حدثني محمد بن أبي عمر المكي قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة أنها قالت : " إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما تستطيع أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان " ، وروى الترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الله البهي ، عن عائشة " ما قضيت شيئا مما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، قيل : مما يدل على ضعف الزيادة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم لنسائه ، فيعدل ، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غير جماع ، فليس في شغلها بشيء من ذلك مما يمنع الصوم ، اللهم إلا أن يقال : كانت لا تصوم إلا بإذنه ، ولم يكن يأذن لاحتمال حاجته إليها ، فإذا ضاق الوقت أذن لها ، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان ، فلذلك كانت لا يتهيأ لها القضاء إلا في شعبان .

                                                                                                                                                                                  قلت : وكانت كل واحدة من نسائه صلى الله تعالى عليه وسلم مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لاستمتاعه من جميع أوقاته إن أراد ذلك ، ولا تدري متى يريده ولا تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن ، وقد يكون له حاجة فيها فتفوتها عليه ، وهذا من عادتهن ، وقد اتفق العلماء على أن المرأة يحرم عليها صوم التطوع وبعلها حاضر إلا بإذنه لحديث أبي هريرة الثابت في مسلم : " ولا تصوم إلا بإذنه " وقال الباجي : والظاهر أنه ليس للزوج جبرها على تأخير القضاء إلى شعبان بخلاف صوم التطوع ، ونقل القرطبي عن بعض أشياخه أن لها أن تقضي بغير إذنه ؛ لأنه واجب ، ويحمل الحديث على التطوع .

                                                                                                                                                                                  ومما يستفاد من هذا الحديث أن القضاء موسع ويصير في شعبان مضيقا ، ويؤخذ من حرصها على القضاء في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان ، فإن دخل فالقضاء واجب أيضا ، فلا يسقط ، وأما الإطعام فليس في الحديث له ذكر لا بالنفي ولا بالإثبات ، وقد تقدم بيان الخلاف فيه ، وفيه أن حق الزوج من العشرة والخدمة يقدم على سائر الحقوق ما لم يكن فرضا محصورا في الوقت ، وقيل : قول عائشة : فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان يدل على أنها كانت لا تتطوع بشيء من الصيام لا في عشر ذي الحجة ولا في عاشوراء ولا في غيرهما ، وهو مبني على أنها ما كانت ترى جواز صيام التطوع لمن عليه دين من رمضان ، ولكن من أين ذلك لمن يقول به والحديث ساكت ، عن هذا .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية