الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1894 105 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت عبد الله بن عيسى ، عن [ ص: 114 ] الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، وعن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهم قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن ، إلا لمن لم يجد الهدي .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إنه يوضح الإطلاق الذي فيها ، وكان إطلاقها لأجل الاختلاف في صوم أيام التشريق ، فأوضح الخلاف الذي يتضمن هذا الإطلاق بأثر عائشة ، وبأثرها أيضا ، وأثر ابن عمر أن الجواز لمن لم يجد الهدي ، لا مطلقا .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : أثر عائشة المذكورة أولا مطلق ، والثاني مقيد ، فما وجه ذلك ؟

                                                                                                                                                                                  قلت : يجوز أن تكون عائشة عدت أيام التشريق من أيام الحج ، وخفي عليها ما كان من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام في هذه الأيام الذي يدل على أنها لا تدخل فيما أباح الله عز وجل صومه من ذلك .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : كيف يخفي عليها هذا المقدار مع مكانتها في العلم وقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا منها اجتهاد ، والمجتهد قد يخفى عليه ما لا يخفى على غيره .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله ، وهم تسعة :

                                                                                                                                                                                  الأول : محمد بن بشار ، بالباء الموحدة ، وقد تكرر ذكره .

                                                                                                                                                                                  الثاني : غندر ، هو محمد بن جعفر .

                                                                                                                                                                                  الثالث : شعبة بن الحجاج .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وهو ابن أخي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه المشهور ، وكان عبد الله أسن من عمه محمد ، وكان يقال : إنه أفضل من عمه .

                                                                                                                                                                                  الخامس : محمد بن مسلم الزهري .

                                                                                                                                                                                  السادس : عروة بن الزبير بن العوام .

                                                                                                                                                                                  السابع : عائشة أم المؤمنين .

                                                                                                                                                                                  الثامن : سالم بن عبد الله بن عمر .

                                                                                                                                                                                  التاسع : أبوه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده :

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع . وفيه العنعنة في أربعة مواضع . وفيه السماع . وفيه أن عبد الله بن عيسى ليس له في البخاري سوى هذا الحديث ، وآخر في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من روايته ، عن جده عبد الرحمن ، عن كعب بن عجرة . وفيه شعبة ، سمعت عبد الله بن عيسى ، عن الزهري ، وفي رواية الدارقطني من طريق النضر بن شميل ، عن شعبة ، عن عبد الله بن عيسى سمعت الزهري. وفيه ، وعن سالم هو من رواية الزهري ، عن سالم ، فهو موصول .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه :

                                                                                                                                                                                  قوله ( قالا ) أي : عائشة وعبد الله بن عمر .

                                                                                                                                                                                  قوله ( لم يرخص ) بضم الياء على صيغة المجهول ، كذا رواه الحفاظ من أصحاب شعبة ، وقوله ( يصمن ) على صيغة المجهول للجمع المؤنث ، أي : يصام فيهن ، فحذف الجار ، وأوصل الفعل إلى الضمير ، وقال بعضهم : ووقع في رواية يحيى بن سلام ، عن شعبة عند الدارقطني ، والطحاوي : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا لفظ الدارقطني ، ولفظ الطحاوي ليس كذلك ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا يحيى بن سلام قال : حدثنا شعبة ، عن ابن أبي ليلى ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال في المتمتع ، إذا لم يجد الهدي ولم يصم في العشر : إنه يصوم أيام التشريق . وذكر الطحاوي هذا في معرض الاحتجاج لمالك ، والشافعي ، وأحمد ، فإنهم قالوا : للمتمتع إذا لم يصم في أيام العشر لعدم الهدي يجوز له أن يصوم في أيام التشريق ، وكذا القارن والمحصر ، ثم احتج لأبي حنيفة وأصحابه بحديث علي رضي الله عنه قال : خرج منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أيام التشريق ، فقال : إن هذه الأيام أيام أكل وشرب . وأخرجه بإسناد حسن ، وأخرجه النسائي ، وابن ماجه ، وأحمد ، والدارمي ، والطبراني ، والبيهقي بأطول منه . وفيه : إن هذه الأيام أيام أكل وشرب . وأخرج أيضا من حديث إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، عن جده قال : أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أنادي أيام منى : إنها أيام أكل وشرب ، فلا صوم فيها . يعني أيام التشريق . وأخرجه أحمد في ( مسنده ) ، وأخرجه أيضا من حديث عطاء ، عن عائشة قالت : قال رسول الله : أيام التشريق أيام أكل وشرب . وأخرج أيضا من حديث سعيد بن أبي كثير أن جعفر بن المطلب ، أخبره أن عبد الله بن عمرو بن العاص دخل على عمرو بن العاص ، فدعاه إلى الغداء ، فقال : إني صائم ، ثم الثانية فكذلك ، ثم الثالثة فكذلك ، فقالا : لا إلا أن تكون سمعته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، قال : فإني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . يعني النهي عن الصيام أيام التشريق .

                                                                                                                                                                                  وأخرج أيضا من حديث سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن حذافة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي في أيام التشريق : إنها أيام أكل وشرب . وإسناده صحيح ، وأخرجه الطبراني ، وأخرج أيضا من حديث عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله [ ص: 115 ] عز وجل . وأخرج أيضا من حديث أبي المليح الهذلي ، عن نبيشة الهذلي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وأخرجه مسلم ، وأخرج أيضا من حديث عمرو بن دينار أن نافع بن جبير ، أخبره عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر ، وقد سماه نافع فنسيته : أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لرجل من بني غفار ، يقال له بشر بن سحيم : قم فأذن في الناس أنها أيام أكل وشرب في أيام منى . وأخرجه النسائي ، وابن ماجه .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أيضا من حديث يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر . وأخرجه أبو يعلى في ( مسنده ) من حديث يزيد الرقاشي ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن صوم خمسة أيام من السنة : يوم الفطر ، ويوم النحر ، وأيام التشريق . وهذه حجة قوية لأصحابنا في حرمة الصوم في الأيام الخمسة .

                                                                                                                                                                                  وأخرج أيضا من حديث عبد الرحمن بن جبير ، عن معمر بن عبد الله العدوي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أؤذن في أيام التشريق بمنى : لا يصومن أحد ، فإنها أيام أكل وشرب . وأخرجه أبو القاسم البغوي في ( معجم الصحابة ) ، وأخرج أيضا من حديث سليمان بن يسار ، وقبيصة بن ذؤيب يحدثان ، عن أم الفضل امرأة عباس بن عبد المطلب قالت : كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى أيام التشريق ، فسمعت مناديا يقول : إن هذه الأيام أيام طعم وشرب وذكر لله . قالت : فأرسلت رسولا : من الرجل ومن أمره ، فجاءني الرسول ، فحدثني أنه رجل يقال له حذافة يقول : أمرني بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  وأخرج أيضا عمر بن خلدة الزرقي ، عن أمه قالت : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في أوسط أيام التشريق ، فنادى في الناس : لا تصوموا في هذه الأيام ، فإنها أيام أكل وشرب وبعال . وأخرجه ابن أبي شيبة في ( مسنده ) . وأخرج أيضا من حديث مسعود بن الحكم الزرقي قال : حدثتني أمي قالت : لكأني أنظر إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء حين قام إلى شعب الأنصار ، وهو يقول : يا معشر المسلمين ، إنها ليست بأيام صوم إنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل . وأخرجه النسائي أيضا ، وأخرج أيضا من حديث مخرمة بن بكير ، عن أبيه قال : سمعت سليمان بن يسار يزعم أنه سمع ابن الحكم الزرقي يقول : حدثنا أبي أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعوا راكبا ، وهو يصرخ : لا يصومن أحد ، فإنها أيام أكل وشرب . وابن الحكم هو مسعود بن الحكم ، وأبوه الحكم الزرقي ذكره ابن الأثير في الصحاب ، وأخرج أيضا من حديث يحيى بن سعيد أنه سمع يوسف بن مسعود بن الحكم الزرقي يقول : حدثتني جدتي .. فذكر نحوه . وجدته حبيبة بنت شريق .

                                                                                                                                                                                  وأخرج أيضا من حديث مسعود بن الحكم الأنصاري ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله بن حذافة أن يركب راحلته أيام منى ، فيصيح في الناس : ألا لا يصومن أحد ، فإنها أيام أكل وشرب ، قال : فلقد رأيته على راحلته ينادي بذلك ، وأخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف . وفي آخره : ألا إن هذه أيام عيد وأكل وشرب وذكر ، فلا يصومن إلا محصر أو متمتع لم يجد هديا ولم يصم في أيام الحج المتتابعة ، فليصمهن . فهذا الطحاوي أخرج أحاديث النهي عن الصوم في أيام التشريق عن ستة عشر نفسا من الصحابة ، وهذا هو الإمام الجهبذ صاحب اليد الطولى في هذا الفن .

                                                                                                                                                                                  وفي الباب حديث أم عمرو بن سليم عند أحمد ، وعقبة بن عامر عند الترمذي ، وحمزة بن عمرو الأسلمي عند الطبراني ، وكعب بن مالك عند أحمد ، ومسلم ، وعبد الله بن عمرو عند النسائي ، وعمرو بن العاص عند أبي داود ، وبديل بن ورقاء عند الطبراني ، وزيد بن خالد عند أبي يعلى الموصلي ، ولفظه : ألا إن هذه الأيام أيام أكل وشرب ونكاح . وجابر عند ..

                                                                                                                                                                                  ثم قال الطحاوي : فلما ثبت بهذه الآثار عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم النهي عن صيام أيام التشريق ، وكان نهيه عن ذلك بمنى ، والحاج مقيمون بها ، وفيهم المتمتعون والقارنون ، ولم يستثن منهم متمتعا ولا قارنا - دخل المتمتعون والقارنون في ذلك ، ثم أجاب عن حديثهم ، وهو حديث عبد الله بن عمران ، في إسناده يحيى بن سلام : أنه حديث منكر لا يثبته أهل العلم بالرواية لضعف يحيى بن سلام ، وابن أبي ليلى ، وفساد حفظهما ، والدارقطني أيضا ضعف يحيى بن سلام ، وابن أبي ليلى فيه مقال ، وكان يحيى بن سعيد يضعفه ، وعن أحمد : كان سيئ الحفظ مضطرب الحديث ، وعن أبي حاتم : يكتب حديثه ، ولا يحتج به .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ابن أبي ليلى هو عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن [ ص: 116 ] ابن أبي ليلى ، وهو ثقة عند الكل .

                                                                                                                                                                                  قلت : ذكر الطحاوي ابن أبي ليلى بفساد حفظه وضعفه يدل على أنه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى إذ لو كان هو عبد الله بن عيسى لما ذكره هكذا ، على أنا نقول : قد قال ابن المديني : عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى عندي منكر ، وكان يتشيع ، وأيضا فالحديث الذي فيه عبد الله بن عيسى ليس بمرفوع بخلاف الحديث الذي ذكره الطحاوي ، وقد اختلفوا في قول الصحابي : أمرنا بكذا ، ونهينا عن كذا ، هل له حكم الرفع ؟ على أقوال : ثالثها : إن أضافه إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع ، وإلا فلا ، واختلف الترجيح فيما إذا لم يضفه ، ويلتحق به : رخص لنا في كذا أو عزم علينا أن لا نفعل كذا ، فالكل في الحكم سواء ، وقد حصل الجواب عن أثر عائشة ، وابن عمر عند ذكره عن عبد الله بن عيسى .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية