الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1956 15 - حدثنا محمد بن سلام قال: أخبرنا مخلد بن يزيد قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء، عن عبيد بن عمير أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يؤذن [ ص: 176 ] له وكأنه كان مشغولا فرجع أبو موسى ففرغ عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس، ائذنوا له، قيل: قد رجع، فدعاه فقال: كنا نؤمر بذلك، فقال: تأتيني على ذلك بالبينة، فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري، فذهب بأبي سعيد الخدري، فقال عمر: أخفي علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألهاني الصفق بالأسواق، يعني: الخروج إلى تجارة.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "ألهاني الصفق" ومخلد بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح اللام ابن يزيد من الزيادة الحراني، مر في آخر الصلاة.

                                                                                                                                                                                  وابن جريج عبد الملك، وعطاء بن أبي رباح، وعبيد بن أبي عمير مصغرين ابن قتادة أبو عاصم قاضي أهل مكة، قال مسلم: ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقال البخاري: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وابن جريج وعطاء وعبيد مكيون، وأبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك مشهور باسمه وبكنيته.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه البخاري أيضا في الاعتصام عن مسدد، وأخرجه مسلم في الاستئذان من طرق:

                                                                                                                                                                                  أحدها: عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير "أن أبا موسى استأذن على عمر رضي الله تعالى عنه ثلاثا فكأنه وجده مشغولا فرجع، فقال عمر: ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس، ايذنوا له، فدعي، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنا كنا نؤمر بهذا، قال: لتقيمن على هذا بينة أو لأفعلن، فخرج، فانطلق إلى مجلس من الأنصار فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا، فقام أبو سعيد فقال: كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: أخفي علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني عنه الصفق بالأسواق".

                                                                                                                                                                                  وفي رواية له من حديث أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري قال: "جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم هذا عبد الله بن قيس، فلم يؤذن له، فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا أبو موسى الأشعري، ثم انصرف فقال: ردوا علي، فجاء، فقال: يا أبا موسى ما ردك، كنا في شغل، قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: الاستئذان ثلاثا، فإن أذن لك وإلا فارجع، قال: لتأتيني على هذا ببينة وإلا فعلت وفعلت" الحديث، وفي لفظ له: قال عمر: "أقم عليه البينة وإلا أوجعتك" وفي لفظ له: "لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن قال: يشهد لك على هذا" وأخرجه أبو داود أيضا في الأدب، عن يحيى بن حبيب، وفي لفظه "فقال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

                                                                                                                                                                                  "ذكر معناه" قوله: "استأذن" أي: طلب الإذن على الدخول على عمر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فلم يؤذن له" على صيغة المجهول.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وكأنه" أي: وكأن عمر كان مشغولا بأمر من أمور المسلمين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ايذنوا له" أصله ائذنوا له بالهمزتين فلما ثقلتا قلبت الثانية ياء لكسرة ما قبلها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قيل: قد رجع" أي: أبو موسى.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فدعاه" أي: دعا عمر أبا موسى.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال: كنا نؤمر" فيه حذف، تقديره: فبعث عمر وراءه، فحضر، فقال له: لم رجعت؟ فقال: كنا نؤمر بذلك، أي: بالرجوع حين لم يؤذن للمستأذن.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال" أي: قال عمر: تأتيني بدون لام للتأكيد، وفي رواية مسلم: "لتأتيني" بنون التأكيد "على ذلك" على الأمر بالرجوع.

                                                                                                                                                                                  قوله: فقالوا: أي الأنصار، قال النووي: إنما قال ذلك الأنصار؛ إنكارا على عمر رضي الله عنه فيما قاله، إنه حديث مشهور بيننا، معروف عندنا، حتى إن أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أخفي علي" الهمزة للاستفهام، وعلي بتشديد الياء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ألهاني الصفق" قال المهلب: ألهاني الصفق من قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها فقرن التجارة باللهو، فسماها عمر لهوا مجازا، أراد شغلهم بالبيع والشراء عن ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحيانه حتى حضر من هو أصغر مني ما لم أحضره من العلم.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه أن الاستئذان لا بد منه عند الدخول على من أراد، قال الله تعالى: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها الاستئناس هو الاستئذان، وقال بعض أهل العلم: الاستئذان ثلاث مرات مأخوذ من قوله تعالى: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات قال: يريد ثلاث دفعات، قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجميع، وقال أبو عمر: هذا وإن كان [ ص: 177 ] له وجه، ولكنه غير معروف عند العلماء في تفسير الآية الكريمة، والذي عليه جمهورهم في قوله: "ثلاث مرات " أي: ثلاثة أوقات، ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها: من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثم السنة أن يسلم ويستأذن ثلاثا؛ ليجمع بينهما.

                                                                                                                                                                                  واختلفوا هل يستحب تقديم السلام ثم الاستئذان أو تقديم الاستئذان ثم السلام، وقد صح حديثان في تقديم السلام فذهب جماعة إلى قوله: "السلام عليكم أدخل" وقيل: يقدم الاستئذان.

                                                                                                                                                                                  واختار الماوردي في الحاوي إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن الرجل العالم قد يوجد عند من هو دونه في العلم ما ليس عنده إذا كان طريق ذلك العلم السمع، وإذا جاز ذلك على عمر فما ظنك بغيره بعده؟! قال ابن مسعود: لو أن علم عمر وضع في كفة ووضع علم أحياء أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر عليهم.

                                                                                                                                                                                  وفيه دلالة على أن طلب الدنيا يمنع من استفادة العلم، وكلما ازداد المرء طلبا لها ازداد جهلا وقل علما.

                                                                                                                                                                                  وفيه طلب الدليل على ما يعكر من الأقوال حتى يثبت عنده.

                                                                                                                                                                                  وفيه الدلالة على أن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" محمول على الرفع.

                                                                                                                                                                                  (ذكر الأسئلة والأجوبة) منها أن طلب عمر البينة يدل على أنه لا يحتج بخبر الواحد، وزعم قوم أن مذهب عمر هذا.

                                                                                                                                                                                  والجواب عنه: أن عمر قد ثبت عنده خبر الواحد، وقبوله، والحكم به، أليس هو الذي نشد الناس بمنى: من كان عنده علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية فليخبرنا، وكان رأيه أن المرأة لا ترث من دية زوجها; لأنها ليست من عصبة الذين يعقلون عنه، فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: كتب إلي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ورث امرأة أشيم من دية زوجها، وكذلك نشد الناس في دية الجنين، فقال حمل بن النابغة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو وليدة، فقضى به عمر، ولا يشك ذو لب ومن له أقل منزلة من العلم أن موضع أبي موسى من الإسلام ومكانه من الفقه والدين أجل من أن يرد خبره ويقبل خبر الضحاك وحمل، وكلاهما لا يقاس به في حال.

                                                                                                                                                                                  وقد قال له عمر في الموطأ: "إني لم أتهمك" فدل ذلك على اعتماد كان من عمر، وطلب البينة في ذلك الوقت لمعنى الله أعلم به، وقد يحتمل أن يكون عمر عنده في ذلك الحين من ليست له صحبة من أهل العراق أو الشام ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم لقرب عهدهم بالإسلام فخشي عليهم أن يختلقوا الكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند الرغبة أو الرهبة.

                                                                                                                                                                                  ومنها: أن قول عمر: "ألهاني الصفق بالأسواق" يدل على أنه كان يقل المجالسة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يكن لائقا بحقه.

                                                                                                                                                                                  والجواب: أن هذا القول من عمر على معنى الذم لنفسه، وحاشاه أن يقل من مجالسته وملازمته، وقد كان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول: فعلت أنا وأبو بكر وعمر، وكنت أنا وأبو بكر وعمر، ومكانهما منه عال، وكان خروجه في بعض الأوقات إلى الأسواق للكفاف، وكان من أزهد الناس; لأنه وجد فترك.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: إن عمر قال لأبي موسى: "أقم البينة وإلا أوجعتك" وفي رواية: "فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك" وفي رواية: "لأجعلنك نكالا" فما معنى هذا وأبو موسى كان عنده أمينا، ولهذا استعمله وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ساعيا وعاملا على بعض الصدقات، وهذه منزلة رفيعة في الثقة والأمانة؟

                                                                                                                                                                                  وأجيب بأن هذا كله محمول على أن تقديره: لأفعلن بك هذا الوعيد إن بان أنك تعمدت كذبا.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية