الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2033 90 - حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "ولا يبيع الرجل على بيع أخيه".

                                                                                                                                                                                  وعلي بن عبد الله هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، والزهري هو محمد بن مسلم.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم في النكاح، عن عمرو الناقد وزهير بن حرب وابن أبي عمر، وفي البيوع، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأخرجه أبو داود، عن أبي الطاهر بن السرح في البيوع ببعضه "لا تناجشوا" وفي النكاح ببعضه "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" وأخرجه الترمذي، عن قتيبة بن سعيد وأحمد بن منيع في البيوع ببعضه "لا يبيع حاضر لباد" وفي موضع آخر منه ببعضه "لا تناجشوا" وفي النكاح ببعضه "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه" وفيه، عن قتيبة وحده ببعضه "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها" وأخرجه النسائي في النكاح، عن محمد بن منصور وسعيد بن عبد الرحمن بتمامه، ولم يذكر السوم، وأخرجه ابن ماجه، عن هشام بن عمار وسهل بن أبي سهل في النكاح ببعضه "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" وفي التجارات ببعضه "لا تناجشوا" وفيه، عن هشام بن عمار وحده ببعضه "لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه" وفيه، عن أبي بكر بن أبي شيبة ببعضه "لا يبيع حاضر لباد".

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: "لباد" البادي هو الذي يكون في البادية مسكنه المضارب والخيام، وصورة البيع للبادي أن يقدم غريب من البادية بمتاع ليبيعه بسعر يومه فيقول له بلدي: اتركه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى منه، وهذا فعل حرام، لكن يصح بيعه; لأن النهي راجع إلى أمر خارج عن نفس العقد، وقيل: أن لا يكون الحاضر سمسارا للبدوي، وحينئذ يصير أعم ويتناول البيع والشراء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولا تناجشوا" هذا عطف على مقدر لأنه لا يصح عطفه على قوله: "نهى" ولا على قوله: "أن يبيع" والتقدير نهى، وقال: لا تناجشوا، والنجش بفتح النون والجيم وفي آخره شين معجمة، وفي المغرب: النجش بفتحتين ويروى بسكون الجيم، ويقال: نجش ينجش نجشا، من باب نصر ينصر، وفي الزاهر: أصل النجش مدح الشيء وإطراؤه، وفي الغريبين: النجش تنفير الناس من الشيء إلى غيره، وفي الجامع: أصله من الختل، يقال: نجش الرجل إذا ختل، ويقال: أصل النجش الإثارة، وسمي الناجش ناجشا؛ لأنه يثير الرغبة في السلعة ويرفع ثمنها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولا يبيع الرجل على بيع أخيه" قد فسرناه عن قريب، وقال ابن قرقول: يأتي كثير من الأحاديث على لفظ الخبر، وقد أتى بلفظ النهي وكلاهما صحيح، وقال ابن الأثير: كثير من روايات هذا الحديث "لا يبيع" بإثبات الياء، والفعل غير مجزوم، وذلك لحن، وإن صحت الرواية فتكون لا نافية، وقد أعطاها معنى النهي؛ لأنه إذا نفى هذا البيع، فكأنه قد استمر عدمه، والمراد [ ص: 259 ] من النهي عن الفعل إنما هو طلب إعدامه أو استبقاء عدمه، فكان النهي الوارد من الواجب صدقه يفيد ما يراد من النهي.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولا يخطب على خطبة أخيه" الخطبة بالكسر اسم من خطب يخطب من باب نصر ينصر فهو خاطب، وأما الخطبة بالضم فهو من القول والكلام، وصورته أن يخطب الرجل المرأة فتركن هي إليه ويتفقا على صداق معلوم ويتراضيا ولم يبق إلا العقد، فيجيء آخر ويخطب ويزيد في الصداق، ويأتي الكلام فيه عن قريب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولا تسأل" بالرفع خبر بمعنى النهي وبالكسر نهي حقيقي، ومعناه نهي المرأة الأجنبية أن تسأل الزوج طلاق زوجته لينكحها ويصير لها من نفقته ومعاشرته ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بإكفاء ما في الإناء إذا كبته وكفأته، وأكفأته إذا أملته، وقال التيمي: هذا مثل لإمالة الضرة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لتكفأ" بفتح الفاء كذا في رواية أبي الحسن، وقال ابن التين: وهو ما سمعناه، ووقع في بعض رواياته كسر الفاء، وقال ابن قرقول: ويروى "لتكفئ وتستكفئ مما في صحفتها" أي: تقلبه لتفرغه من خير زوجها لطلاقه إياها، وقد تسهل الهمزة، وذكر الهروي الحديث "لتكتفي" تفتعل من كفأت الإناء إذا كببته ليفرغ ما فيه، وقيل: صورته أن يخطب الرجل المرأة وله امرأة فتشترط عليه طلاق الأولى لتنفرد به، قال النووي: المراد بأختها غيرها، سواء كانت أختها في النسب أو الإسلام أو كافرة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) وهو على وجوه.

                                                                                                                                                                                  الأول: بيع الحاضر للبادي إنما نهي عنه; لأن فيه التضييق على الناس، وأهل الحاضرة أفضل لإقامتهم الجماعات، وعلمهم، وغير ذلك، واختلف في أهل القرى هل هم مرادون بهذا الحديث فقال مالك: إن كانوا يعرفون الأثمان فلا بأس به، وإن كانوا يشبهون أهل البادية فلا يباع ولا يشار عليهم، وقال شيخنا: لا يلزم من النهي عن البيع تحريم الإشارة عليه إذا استشاره، وهو قول الأوزاعي، قال: وقد أمر بنصحه في بعض طرق هذا الحديث وهو قوله: "إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له" وحكى الرافعي عن أبي الطيب وأبي إسحاق المروزي أنه يجب عليه إرشاده إليه بذلا للنصيحة، وعن أبي حفص بن الوكيل أنه لا يرشده توسعا على الناس، ونقل مثله عن مالك، بل حكى ابن العربي عنه أنه لو سأله عن السعر لا يخبره به لحق أهل الحضر، ثم ظاهر الحديث تحريم بيع الحاضر للبادي، سواء كان الحضري هو الذي التمس ذلك من البدوي أو كان البدوي هو الذي سأله الحضري في ذلك، وجزم الرافعي بأنه إنما يحرم إذا ابتدأ الحضري لسؤال ذلك، وفيه نظر; لخروجه عن ظاهر الحديث، وخصص بعض أصحاب الشافعي تحريم بيع الحاضر للبادي بما إذا تربص الحاضر بسلعة البادي ليغالي في ثمنها، فأما إذا باعها الحضري للبادي بسعر يومه فلا بأس به.

                                                                                                                                                                                  (قلت): في التقييد بذلك مخالفة لظاهر الحديث ولفهم راوي الحديث وهو ابن عباس؛ إذ سئل عن ذلك فقال: لا يكون له سمسارا، فلم يفرق بين أن يبيع له في ذلك اليوم بسعر يومه أو يتربص به ليزداد ثمنه، وظاهر الحديث أيضا تحريم بيع الحاضر للبادي، سواء كان البادي يريد بيعه في يومه أو يريد الإقامة والتربص بسلعته، وحمل الرافعي النهي على الصورة الأولى فقال فيما إذا قصد البدوي الإقامة في البلد ليبيعه على التدريج فسأله تفويضه إليه فلا بأس به؛ لأنه لم يضر بالناس، ولا سبيل إلى منع المالك عنه؛ لما فيه من الإضرار له، وفي الحديث حجة لمن ذهب إلى تحريم بيع الحاضر للبادي، وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو قول مالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق، وحكى مجاهد جوازه، وهو قول أبي حنيفة وآخرين، وقالوا: إن النهي منسوخ، ثم اختلفوا هل يقتضي النهي الفساد أم لا؟ فذهب مالك وأحمد إلى أنه لا يصح بيع الحاضر للبادي، وذهب الشافعي والجمهور إلى أنه يصح، وإن حرم تعاطيه، وفيه حجة لمن ذهب إلى تعميم التحريم في بيع الحاضر للبادي، سواء كان البلد كبيرا بحيث لا يظهر لتأخير الحضري متاع البدوي فيه تأثير أو صغيرا، وسواء كان متاع البادي كثيرا أو قليلا لا يوسع على أهل البلد لو باعه البادي بنفسه، وسواء كان ذلك المتاع يعم وجوده أم يعز، وسواء رخص سعر ذلك المتاع أم غلى، وحمل البغوي في التهذيب النهي فيه على ما تعم الحاجة إليه سواء فيه المطعومات وغيرها كالصوف وغيره، أما ما لا تعم الحاجة إليه كالأشياء النادرة فلا يدخل تحت النهي، وفيه نظر لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  وفي التوضيح: فإن فعل وباع هل يؤدب؟ قال ابن القاسم: نعم إن اعتاده، وقال ابن وهب: يزجر عالما أو جاهلا، ولا يؤدب.

                                                                                                                                                                                  الثاني من الوجوه في النجش، ولا خيار فيه إذا وقع، خلافا لمالك [ ص: 260 ] وابن حبيب، وعن مالك إنما له الخيار إذا علم، وهو عيب من العيوب كما في المصراة، وعن ابن حبيب: لا خيار إذا لم يكن للبائع مواطأة، وقال أهل الظاهر: البيع باطل مردود على بائعه إذا ثبت ذلك عليه.

                                                                                                                                                                                  الثالث: البيع على بيع أخيه، وقد بينا صورته في أول الباب، وهذا محله عند التراكن والاقتراب، فأما البيع والشراء فيمن يزيد فلا بأس فيه في الزيادة على زيادة أخيه، وذلك لما رواه الترمذي من حديث أنس : أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - باع حلسا وقدحا وقال: من يشتري هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه بقية الأربعة، وهو قول مالك والشافعي وجمهور أهل العلم، وكره بعض أهل العلم الزيادة على زيادة أخيه ولم يروا صحة هذا الحديث، وضعفه الأزدي بالأخضر بن عجلان في سنده، وحجة الجمهور على تقدير عدم الثبوت أنه لو ساوم وأراد شراء سلعته وأعطى فيها ثمنا لم يرض به صاحب السلعة ولم يركن إليه ليبيعه، فإنه يجوز لغيره طلب شرائها قطعا، ولا يقول أحد: إنه يحرم السوم بعد ذلك قطعا كالخطبة على خطبة أخيه إذا رد الخاطب الأول؛ لأنه لا فرق بين الموضعين، وذكر الترمذي عن بعض أهل العلم جواز ذلك، يعني بيع من يزيد في الغنائم والمواريث، قال ابن العربي: الباب واحد والمعنى مشترك لا تختص به غنيمة ولا ميراث.

                                                                                                                                                                                  (قلت): روى الدارقطني من رواية ابن لهيعة، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن بيع المزايدة، ولا يبع أحدكم على بيع أخيه إلا الغنائم والمواريث، ثم رواه من طريقين آخرين أحدهما عن الواقدي بمثله، وقال شيخنا رحمه الله: والظاهر أن الحديث خرج على الغالب وعلى ما كانوا يعتادون فيه مزايدة وهي الغنائم والمواريث، فإنه وقع البيع في غيرهما مزايدة، فالمعنى واحد، كما قاله ابن العربي.

                                                                                                                                                                                  الرابع: لا يخطب على خطبة أخيه، هذا إنما يحرم إذا حصل التراضي صريحا، فإن لم يصرح ولكن جرى ما يدل على التراضي كالمشاورة والسكوت عند الخطبة، فالأصح أن لا تحريم، وقال بعض المالكية: لا يحرم حتى يرضوا بالزوج ويسمى المهر، واستدل بفاطمة بنت قيس: خطبني أبو جهم ومعاوية، فلم ينكر الشارع ذلك، بل خطبها لأسامة، وقد يقال: لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول، وأما الشارع فأشار لأسامة لأنه خطب ولم يعلم أنها رضيت بواحد منهما، ولو أخبرته لم يشر عليها، وقال القرطبي: اختلف أصحابنا في التراكن فقيل: هو مجرد الرضى بالزوج والميل إليه، وقيل: تسمية الصداق، وزعم الطبري أن النهي فيها منسوخ بخطبته عليه الصلاة والسلام فاطمة بنت قيس لأسامة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: لا تسأل المرأة إلى آخره، وقد ذكرناه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية