الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2041 وقال بعضهم عن ابن سيرين: صاعا من تمر، ولم يذكر ثلاثا، والتمر أكثر.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا التعليق رواه مسلم حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء".

                                                                                                                                                                                  قوله: "والتمر أكثر" من كلام البخاري أي: أكثر من الطعام، قاله الكرماني، وقيل: أكثر عددا من الروايات التي لم ينص عليه أو أبدلته بذكر الطعام، وقال بعضهم: قد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة، ولا مخالف لهم من الصحابة، وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا أو كثيرا، ولا بين أن يكون تمر تلك البلد أم لا. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: أبو حنيفة غير منفرد بترك العمل بحديث المصراة، بل مذهب الكوفيين وابن أبي ليلى ومالك في رواية مثل مذهب أبي حنيفة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التصرية، وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود أنه قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بيع المحفلات خلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم" انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: والكل مجمعون على أن التصرية حرام وغش وخداع، ولأجل كون بيعها صحيحا مع كونها حراما أجاب [ ص: 273 ] عنها بما ذكرناه فيما مضى عن قريب، وأقوى الوجوه في ترك العمل بها مخالفتها للأصول من ثمانية أوجه:

                                                                                                                                                                                  أحدها: أنه أوجب الرد من غير عيب ولا شرط.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أنه قدر الخيار بثلاثة أيام، وإنما يتقيد بالثلاث خيار الشرط.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أنه أوجب الرد بعد ذهاب جزء من المبيع.

                                                                                                                                                                                  الرابع: أنه أوجب البدل مع قيام المبدل.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أنه قدره بالتمر أو بالطعام، والمتلفات إنما تضمن بأمثالها أو قيمتها بالنقد.

                                                                                                                                                                                  السادس: أن اللبن من ذوات الأمثال فجعل ضمانه في هذا الخبر بالقيمة.

                                                                                                                                                                                  السابع: أنه يؤدي إلى الربا فيما إذا باعها بصاع تمر.

                                                                                                                                                                                  الثامن: أنه يؤدي إلى الجمع بين العوض والمعوض.

                                                                                                                                                                                  وقال هذا القائل أيضا: لم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الأصل، فقد أخرجه أبو داود من حديث عمر، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق عمرو بن عوف المزني، وأخرجه أحمد من رواية رجل من الصحابة لم يسم، وقال ابن عبد البر : هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل.

                                                                                                                                                                                  قلت: أما حديث ابن عمر فرواه أبو داود من رواية صدقة بن سعيد الجعفي، عن جميع بن عمير التيمي قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم -: " من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا " قال الخطابي : ليس إسناده بذلك، وقال البيهقي : تفرد به جميع بن عمير، وقال البخاري : فيه نظر، وذكره ابن حبان في الضعفاء وقال: كان رافضيا يضع الحديث، وقال ابن نمير: كان من أكذب الناس، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وقال أبو حاتم: كوفي صالح الحديث من عنق الشيعة.

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى، وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وأخرجه البيهقي أيضا من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " من اشترى شاة محفلة فإن لصاحبها أن يحتلبها، فإن رضيها فليمسكها وإلا فيردها وصاعا من تمر " والمحفوظ أنه مرسل، وأما حديث رجل من الصحابة فأخرجه أحمد عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يتلقى الجلب، ولا يبيع حاضر لباد، ومن اشترى شاة مصراة أو ناقة -قال شعبة: إنما قال ناقة مرة واحدة- فهو منها بأحد النظرين إذا هو حلب إن ردها رد معها صاعا من طعام" قال الحكم: "أو صاعا من تمر".

                                                                                                                                                                                  ثم إن بعضهم قد تصدى للجواب عما قالت الحنفية في هذا الموضع فما قالوا إن هذا - يعني حديث المصراة - خبر واحد لا يفيد إلا الظن، وهو مخالف لقياس الأصول المقطوع بها فلا يلزم العمل به.

                                                                                                                                                                                  ثم قال هذا القائل: وتعقب بأن التوقف في خبر الواحد إنما هو في مخالفة الأصول لا في مخالفة قياس الأصول، وهذا الخبر إنما خالف قياس الأصول بدليل أن الأصول الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والكتاب والسنة في الحقيقة هما الأصل والآخران مردودان إليهما، فالسنة أصل والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟ بل الحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: إن الأصل يخالف نفسه؟ انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قوله: وهو مخالف لقياس الأصول لم يقل به الحنفية كذا، وكيف ينقل عنهم ما لم يقولوا أو قالوا فينقل عنهم بخلاف ما أرادوا منه لعدم التروي وعدم إدراك التحقيق فيه، فكيف يقال: وهو مخالف لقياس الأصول والحال أن القياس أصل من الأصول; لأن الحنفية عدوا القياس أصلا رابعا على ما في كتبهم المشهورة، فيكون معنى ما نقلوا من هذا، وهو مخالف لأصل الأصول، وهو كلام فاسد. وقوله: "والقياس فرع" كلام فاسد أيضا؛ لأنه عد أصلا رابعا فكيف يقول: "إنه فرع" حتى يترتب عليه قوله: "فكيف يرد الأصل بالفرع"؟! ثم إنه نقل عن ابن السمعاني من قوله: متى ثبت الخبر صار أصلا من الأصول ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر; لأنه إن وافقه فذاك، وإن خالفه لم يجز رد أحدهما؛ لأنه رد للخبر، وهو مردود باتفاق. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: ثم نقل عن ابن السمعاني من قوله: والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة، لكنها ليست لازمة; لأن السنة الثابتة مقدمة عليها، وعلى تقدير التنزل فلا نسلم أنه مخالف لقياس الأصول; لأن الذي ادعوه عليه من المخالفة بينوها بأوجه:

                                                                                                                                                                                  أحدها: أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل والمتقومات بالقيمة، وهاهنا إن كان اللبن مثليا فليضمن باللبن، وإن كان متقوما فليضمن بأحد النقدين، وقد وقع هنا مضمونا بالتمر فخالف الأصل، والجواب منع الحصر، فإن الحر يضمن في ديته بالإبل وليست مثلا له ولا قيمة، وأيضا فضمان المثل بالمثل ليس مطردا، فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت المماثلة، كمن أتلف شاة لبونا كان عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبنا آخر لتعذر المماثلة. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: [ ص: 274 ] قوله: "فلا نسلم أنه مخالف لقياس الأصول إلى آخره" غير مسلم; لأن مخالفته للقاعدة الأصلية ظاهرة وهي أن ضمان المثل بالمثل وضمان المتقوم بالقيمة، وهذه القاعدة مطردة في بابها، وضمان المثل بالقيمة عند التعذر خارج عن باب القاعدة المذكورة، فلا يرد عليها الاعتراض بذلك; لأن باب التعذر مستثنى عنها، والتعذر تارة يكون بالاستحالة كما في ضمان الحر بالإبل وتارة يكون بالعدم كتعذر المماثلة في ضمان لبن الشاة اللبون، وأيضا في مسألة الشاة اللبون اللبن جزء من أجزائها، فيدخل في ضمان الكل، ودفع الصاع من التمر أو غيره مع اللبن في المصراة إنما كان في وقت العقوبة في الأموال بالمعاصي، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أن بيع المحفلات خلابة والخلابة حرام، فكان من فعل هذا وباع صار مخالفا لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداخلا فيما نهى عنه، فكانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمر، ولعله يساوي آصعا كثيرة، ثم نسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، وردت الأشياء إلى ما ذكرناه من القاعدة الأصلية. ثم ذكر ابن السمعاني عن الحنفية أنهم قالوا: إن القواعد تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف، وذلك مختلف، وقد قدر هاهنا بمقدار واحد وهو الصاع، فخرج عن القياس، والجواب منع التعميم في المضمونات كالموضحة فأرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر، والغرة مقدرة في الجنين مع اختلافه. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: لا نسلم منع التعميم في بابه كما ذكرنا، وما مثل به على وجه الإيراد على القاعدة غير وارد؛ لأنا قلنا: إن الذي يفعل من ذلك عند التعذر خارج من باب القاعدة غير داخل فيها حتى يمنع اطراد القاعدة.

                                                                                                                                                                                  ثم ذكر عنهم أيضا أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة، وذلك مانع من الرد، فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه، وإن كان مختلطا فما كان منه موجودا عند العقد وما كان حادثا لم يجب ضمانه، والجواب أن يقال: إنما يمتنع الرد بالنقص إذا لم يكن لاستعلام العيب وإلا فلا يمتنع وهنا كذلك. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: الذي قالوه كلام واضح صحيح، والجواب الذي أجابه ليس بشيء، فهل يرضى أحد أن يرد هذا الكلام بمثل هذا الجواب؟ وليس العجب منه، وإنما العجب من الذي ينقله في تأليفه ويرضى به.

                                                                                                                                                                                  ثم ذكر عنهم فيما قالوا بأنه خالف الأصول في جعل الخيار فيه ثلاثا، مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث، وكذا خيار المجلس عند من يقول به، وخيار الرؤية عند من يثبته، ثم أجاب بأن حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثله، فلا تستغرب أن ينفرد بوصف زائد على غيره. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: لانفراده بأصله عن مماثله قلنا: إنه منسوخ كما ذكرنا فيما مضى.

                                                                                                                                                                                  ثم ذكر عنهم أنهم قالوا: يلزم من الأخذ به الجمع بين العوض والمعوض، ثم أجاب بأن التمر عوض عن اللبن لا عن الشاة، قلت: ليس دفع التمر إلا جزاء لما ارتكب من العصيان حين كانت العقوبة بالأموال في المعاصي.

                                                                                                                                                                                  ثم ذكر عنهم بأنه مخالف لقاعدة الربا فيما إذا اشترى شاة بصاع، فإذا استرد معها صاعا فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع شاة وصاعا بصاع، الجواب: أن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يتفرقا قبل القبض، فلو تقابلا في هذا العقد بعينه جاز التفرق قبل القبض. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: ذكره هذه المسألة تأكيدا لما قاله من الجواب لا يفيده; لأن بالإقالة صار العقد كأنه لم يكن وعاد كل شيء إلى أصله، فلا يحتاج إلى أن يقال: جاز التفرق قبل القبض.

                                                                                                                                                                                  ثم ذكر عنهم بأنهم قالوا: يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجودا، والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالمغصوب، والجواب أن اللبن وإن كان موجودا لكنه تعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد، وتعذر تمييزه فأشبه الآبق بعد الغصب فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه؛ لتعذر الرد. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: لما تعذر رد اللبن لاختلاطه باللبن الحادث صار حكمه حكم العدم، فيضمن بالبدل كالعين المغصوبة إذا هلكت عند الغاصب، وتشبيهه بالعبد الآبق غير صحيح; لأنه إذا تعذر رده صار في حكم الهالك فيتعين القيمة.

                                                                                                                                                                                  ثم نقل عنهم بأنه يلزم منه إثبات الرد بغير عيب ولا شرط، ثم أجاب بأنه لما رأى ضرعا مملوءا لبنا ظن أنه عادة لها، فكأن البائع شرط له ذلك فتبين له الأمر بخلافه، فثبت له الرد لفقد الشرط المعنوي. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: البيع بمثل هذا الشرط فاسد إن كان لفظيا فبالمعنوي بالأولى، ولا يصح من الشروط إلا شرط الخيار بالنص الوارد فيه، وأما العيب فإذا ظهر فإنه يرده، ولا يحتاج فيه إلى الشرط.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية