الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  190 56 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أنه قال : كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة غير ظاهرة ; لأنه لا يدل على الترجمة صريحا ; لأن المذكور فيها شيئان ، والحديث ليس فيه إلا شيء واحد .

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : يدل على الأول صريحا ، وعلى الثاني التزاما .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت هذا لا يدل على أن الرجال والنساء كانوا يتوضئون من إناء واحد . قلت : قال الدارقطني : وروى هذا الحديث محمد بن النعمان ، عن مالك بلفظ : من الميضأة ، وفي رواية القعنبي ، وابن وهب عنه : كانوا يتوضئون زمن النبي عليه الصلاة والسلام في الإناء الواحد .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود أيضا من حديث أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كنا نتوضأ نحن والنساء من إناء واحد على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ندلي فيه أيدينا . ولا شك أن الأحاديث يفسر بعضها بعضا .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم أربعة ، كلهم تقدموا ، وعبد الله هو التنيسي .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع ، والإخبار بصيغة الجمع ، والعنعنة ، والقول .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن رواته ما بين تنيسي ومدني .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن هذا السند من سلسلة الذهب ، وعن البخاري أصح الأسانيد مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : قال بعضهم : ظاهر "كان الرجال" التعميم ، لكن اللام للجنس لا للاستغراق .

                                                                                                                                                                                  قلت : أخذ هذا من كلام الكرماني حيث قال : فإن قلت : تقرر في علم الأصول أن الجمع المحلى بالألف واللام للاستغراق ، فما حكمه ها هنا ؟ قلت : قالوا بعمومه إلا إذا دل الدليل على الخصوص ، وها هنا القرينة العادية مخصصة بالبعض .

                                                                                                                                                                                  قلت : الجمع مثل الرجال والنساء ، وما في معناه من العام المتناول للمجموع إذا عرف باللام يكون مجازا عن الجنس مثلا إذا قلت : فلان يركب الخيل ويلبس الثياب البيض ، يكون للجنس ; للقطع بأن ليس القصد إلى عهد أو استغراق ، فلو حلف لا يتزوج النساء ، ولا يشتري العبيد أو لا يكلم الناس يحنث بالواحد إلا أن ينوي العموم ، فلا يحنث قط ; لأنه نوى حقيقة كلامه ، ثم هذا الجنس بمنزلة النكرة يخص في الإثبات ، كما إذا حلف أن يركب الخيل يحصل البر بركوب واحد ، ثم قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما "كان الرجال والنساء" إثبات ، فيقع على الأقل بقرينة العادة ، وإن كان يحتمل الكل .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : لا يصلح التمسك به ; لأن قوله "جميعا" ينافي وقوعه على الأقل . قلت : معناه مجتمعين ، فالاجتماع راجع إلى حالة كونهم يتوضئون لا إلى كون الرجال والنساء مطلقا ، فافهم ، فإنه موضع دقيق .

                                                                                                                                                                                  ثم قال الكرماني : فإن قلت : لا يصح التمسك به ; لأن فعل البعض ليس بحجة . قلت : التمسك ليس بالإجماع ، بل بتقرير الرسول عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                  أقول : حاصل السؤال أنه لا يصح التمسك بما روي عن ابن عمر من قوله ( كان الرجال والنساء [ ص: 85 ] يتوضئون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ) لأنك قد قلت : إن المراد البعض لقيام القرينة عليه بذلك ، واجتماع الكل متعذر ، فلا يكون حجة لعدم الإجماع عليه ، وحاصل الجواب : أن التمسك ليس بطريق الاجتماع ، بل بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قررهم على ذلك ، ولم ينكر عليهم ، فيكون ذلك حجة للجواز ، وقد ذكر أهل الأصول أن قول الصحابي كان الناس يفعلون ، ونحو ذلك حجة في العمل ، لا سيما إذا قيد الصحابي ذلك بزمن النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم قال الكرماني : لم لا يكون من باب الإجماع السكوتي ، وهو حجة عند الأكثر .

                                                                                                                                                                                  قلت : لا يتصور الإجماع إلا بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه أن الصحابي إذا أسند الفعل إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون حكمه الرفع عند الجمهور خلافا لقوم .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم : يستفاد منه أن البخاري يرى ذلك .

                                                                                                                                                                                  قلت : لا نسلم ذلك ; لأن البخاري وضع هذا المروي عن ابن عمر لبيان جواز وضوء الرجال والنساء جميعا من إناء واحد ، ومع هذا لا يطابق هذا ترجمة الباب بحسب الظاهر كما قررناه .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه دليل على جواز توضؤ الرجل والمرأة من إناء واحد ، وأما فضل المرأة فيجوز عند الشافعي الوضوء به أيضا للرجل ، سواء خلت به أو لا . قال البغوي وغيره : فلا كراهة فيه للأحاديث الصحيحة فيه ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء .

                                                                                                                                                                                  وقال أحمد ، وداود : لا يجوز إذا خلت به ، وروي هذا عن عبد الله بن سرجس ، والحسن البصري .

                                                                                                                                                                                  وروي عن أحمد كمذهبنا ، وعن ابن المسيب والحسن - كراهة فضلها مطلقا .

                                                                                                                                                                                  وحكى أبو عمر فيها خمسة مذاهب : أحدها : أنه لا بأس أن يغتسل الرجل بفضلها ما لم تكن جنبا أو حائضا ، والثاني : يكره أن يتوضأ بفضلها ، وعكسه ، والثالث : كراهة فضلها له ، والرخصة في عكسه ، والرابع : لا بأس بشروعهما معا ، ولا ضير في فضلها ، وهو قول أحمد ، والخامس : لا بأس بفضل كل منهما شرعا جميعا أو خلا كل واحد منهما به ، وعليه فقهاء الأمصار .

                                                                                                                                                                                  أما اغتسال الرجال والنساء من إناء واحد فقد نقل الطحاوي ، والقرطبي ، والنووي الاتفاق على جواز ذلك .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم : وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر ، عن أبي هريرة : أنه كان ينهى عنه . وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم .

                                                                                                                                                                                  قلت : في نظره نظر ; لأنهم قالوا بالاتفاق دون الإجماع ، فهذا القائل لم يعرف الفرق بين الاتفاق والإجماع ، على أنه روى جواز ذلك عن تسعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وهم : علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وجابر ، وأنس ، وأبو هريرة ، وعائشة ، وأم سلمة ، وأم هانئ ، وميمونة .

                                                                                                                                                                                  فحديث علي رضي الله عنه عن أحمد ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلون من إناء واحد .

                                                                                                                                                                                  وحديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير من حديث عكرمة عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة اغتسلا من إناء واحد من جنابة ، وتوضآ جميعا للصلاة .

                                                                                                                                                                                  وحديث جابر رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة في مصنفه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه يغتسلون من إناء واحد .

                                                                                                                                                                                  وحديث أنس عند البخاري ، عن أبي الوليد ، عن شعبة ، عن عبد الله بن جبير ، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل هو والمرأة من نسائه من الإناء الواحد . وروى الطحاوي نحوه عن أبي بكرة القاضي .

                                                                                                                                                                                  وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار في ( مسنده ) قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله أو بعض أهله يغتسلون من إناء واحد .

                                                                                                                                                                                  وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها عند الطحاوي ، والبيهقي ، قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، فيبدأ قبلي .

                                                                                                                                                                                  وحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها عند ابن ماجه والطحاوي قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه الصلاة والسلام من إناء واحد . وأخرجه البخاري بأتم منه .

                                                                                                                                                                                  وحديث أم هانئ رضي الله عنها عند النسائي : أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين .

                                                                                                                                                                                  وحديث ميمونة عند الترمذي بإسناده إلى ابن عباس قال : حدثتني ميمونة قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة . وقال : هذا حديث حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                  فهذه الأحاديث كلها حجة على من يكره أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة أو تتوضأ المرأة بفضل الرجل ، وبقي الكلام في ابتداء أحدهما قبل الآخر .

                                                                                                                                                                                  وجاء حديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : اغتسلت من جنابة ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل ، فقالت له : يا رسول الله ، إني كنت جنبا ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن الماء لا يجنب .

                                                                                                                                                                                  وجاء أيضا حديث أم حبيبة الجهنية عند ابن ماجه والطحاوي قالت : ربما اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد . وهذا في حق الوضوء . قال الطحاوي : هذا يدل على أن أحدهما كان يأخذ من الماء بعد صاحبه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : روي عن عبد الله بن سرجس ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل [ ص: 86 ] المرأة ، والمرأة بفضل الرجل ، ولكن يشرعان جميعا .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الطحاوي ، والدارقطني ، وروي أيضا من حديث الحكم الغفاري ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة أو بسؤر المرأة . لا يدري أبو حاجب أيهما قال . وأبو حاجب هو الذي روى عن الحكم ، واسم أبي حاجب سوادة بن عاصم العنزي .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والطحاوي ، وروي أيضا عن حميد بن عبد الرحمن ، قال : كنت لقيت من صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة أربع سنين ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم . . فذكر مثله . أخرجه الطحاوي ، والبيهقي في المعرفة .

                                                                                                                                                                                  قلت : نقل عن الإمام أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل المرأة ، وفي جواز ذلك مضطربة ، قال : لكن صح من الصحابة المنع فيما إذا خلت به ، ولكن يعارض هذا ما روي بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة الذين ذكرناهم .

                                                                                                                                                                                  وأشهر الأحاديث عند المانعين حديث عبد الله بن سرجس ، وحديث حكم الغفاري . وأما حديث عبد الله بن سرجس فإنه روي مرفوعا وموقوفا . وقال البيهقي : الموقوف أولى بالصواب ، وقد قال البخاري : أخطأ من رفعه .

                                                                                                                                                                                  قلت : الحكم للرافع ; لأنه زاد ، والراوي قد يفتي بالشيء ، ثم يرويه مرة أخرى ، ويجعل الموقوف فتوى ، فلا يعارض المرفوع ، وصححه ابن حزم مرفوعا من حديث عبد العزيز بن المختار الذي في مسنده ، والشيخان أخرجا له ، ووثقه ابن معين ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة ، فلا يضره وقف من وقفه ، وتوقف ابن القطان في تصحيحه ; لأنه لم يره إلا في كتاب الدارقطني ، وشيخ الدارقطني فيه لا يعرف حاله .

                                                                                                                                                                                  قلت : شيخه فيه عبد الله بن محمد بن سعد المقبري ، ولو رآه عند ابن ماجه أو عند الطحاوي لما توقف ; لأن ابن ماجه رواه عن محمد بن يحيى ، عن المعلى بن أسد ، والطحاوي رواه عن محمد بن خزيمة ، وهما مشهوران .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث الحكم الغفاري ، فقالت جماعة من أهل الحديث : إن هذا الحديث لا يصح ، وأشار الخطابي أيضا إلى عدم صحته .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن منده : لا يثبت من جهة السند .

                                                                                                                                                                                  قلت : لما أخرجه الترمذي ، قال : هذا حديث حسن ، ورجحه ابن ماجه على حديث عبد الله بن سرجس ، وصححه ابن حبان ، وأبو محمد الفارسي ، والقول قول من صححه ، لا من ضعفه ; لأنه مسند ظاهره السلامة من تضعف وانقطاع .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن قدامة : الحديث رواه أحمد ، واحتج به ، وتضعيف البخاري له بعد ذلك لا يقبل لاحتمال أن يكون وقع له من غير طريق صحيح ، ويرد بهذا أيضا قول النووي : اتفق الحفاظ على تضعيفه .

                                                                                                                                                                                  الثالث من الأحكام : أن ظاهر الحديث يدل على جواز تناول الرجال والنساء الماء في حالة واحدة ، وحكى ابن التين ، عن قوم : أن الرجال والنساء كانوا يتوضئون جميعا من إناء واحد ، هؤلاء على حدة ، وهؤلاء على حدة .

                                                                                                                                                                                  قلت : الزيادة في الحديث ، وهو قوله ( من إناء واحد ) يرد عليهم ، وكأنهم استبعدوا اجتماع الرجال والنساء الأجنبيات ، وأجاب ابن التين عن ذلك بما حكاه عن سحنون : أن معناه : كان الرجال يتوضئون ويذهبون ، ثم تأتي النساء ، فيتوضأن .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا خلاف الذي يدل عليه جميعا ، ومع هذا جاء صريحا وحدة الإناء في ( صحيح ابن خزيمة ) في هذا الحديث من طريق معتمر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون ، والنساء معهم من إناء واحد ، كلهم يتطهرون منه . قيل : ولنا أن نقول : ما كان مانع من ذلك قبل نزول آية الحجاب ، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم ، وفيه نظر ، والله تعالى أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية