الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  195 61 - حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : أن عائشة قالت : لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه ، استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي ، فأذن له ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين ، تخط رجلاه في الأرض ، بين عباس ورجل آخر . قال عبيد الله : فأخبرت عبد الله بن عباس فقال : أتدري من الرجل الآخر؟ قلت : لا . قال : هو علي . وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه : " هريقوا علي من سبع قرب ، لم تحلل أوكيتهن ، لعلي أعهد إلى الناس " . وأجلس في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا : " أن قد فعلتن " ثم خرج إلى الناس .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم خمسة : الأول : أبو اليمان ، بفتح الياء آخر الحروف ، واسمه الحكم بن نافع .

                                                                                                                                                                                  الثاني : شعيب بن أبي حمزة دينار ، أبو بشر الحمصي .

                                                                                                                                                                                  الثالث : محمد بن مسلم الزهري .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عبيد الله بن عبد الله ، بتصغير الابن وتكبير الأب ، والكل تقدموا في كتاب الوحي .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عائشة أم المؤمنين . رضي الله تعالى عنهم أجمعين .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع ، والإخبار وبصيغة الإفراد ، والقول .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن رواته ما بين حمصي ، ومدني .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن فيه راويين جليلين الزهري ، وعبيد الله .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره :

                                                                                                                                                                                  أخرج البخاري هذا الحديث في سبع مواضع : هنا ، وفي الصلاة في موضعين ، وفي حد المريض يشهد الجماعة ، وإنما جعل الإمام ليؤتم به مختصرا ، وفي الهبة ، والخمس ، وأجر المغازي ، وفي باب مرضه عليه الصلاة والسلام ، وفي الطب .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم [ ص: 91 ] في الصلاة ، عن عبد بن حميد ، ومحمد بن رافع .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي في عشرة النساء ، وفي الوفاة ، عن محمد بن منصور ، وفي الوفاة أيضا ، عن سويد بن نصر ، عن ابن المبارك به ، ولم يذكر ابن عباس ، وأخرجه الترمذي في الجنائز ، عن ابن إسماعيل ، عن سفيان به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات والإعراب :

                                                                                                                                                                                  قوله ( لما ثقل ) بضم القاف ، يقال : ثقل الشيء ثقلا مثال صغر صغرا ، فهو ثقيل . وقال أبو نصر : أصبح فلان ثاقلا إذا أثقله المرض ، والثقل ضد الخفة ، والمعنى ها هنا اشتد مرضه ، ويفسره قولها بعده ، واشتد به وجعه ، وأما الثقل بفتح الثاء ، وسكون القاف ، فهو مصدر " ثقل " بفتح القاف الشيء في الوزن يثقله ثقلا من باب نصر ينصر إذا وزنه ، وكذلك ثقلت الشاة إذا رفعتها للنظر ما ثقلها من خفتها .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم : وفي القاموس ثقل كفرح ، يعني بكسر القاف ، فهو ثاقل وثقيل : اشتد مرضه .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا يحتاج إلى نسبته إلى أحد من أئمة اللغة المعتمد عليهم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( في أن يمرض ) على صيغة المجهول من التمريض ، يقال : مرضه تمريضا إذا أقمت عليه في مرضه ، يعني خدمته فيه ، ويحتمل أن يكون التشديد فيه للسلب والإزالة ، كما تقول : قردت البعير إذا أزلت قراده ، والمعنى هنا أزلت مرضه بالخدمة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فأذن ) بتشديد النون ; لأنه جماعة النساء ، أي أذنت زوجات النبي عليه الصلاة والسلام أن يمرض في بيتها .

                                                                                                                                                                                  قوله ( تخط رجلاه ) بضم الخاء المعجمة ، ورجلاه فاعله ، أي يؤثر برجله على الأرض ، كأنها تخط خطا ، وفي بعض النسخ : تخط ، بصيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله ( قال عبيد الله ) هو الراوي له عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، وهو بالإسناد المذكور بغير واو العطف .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وكانت ) معطوف أيضا بالإسناد المذكور ، وعباس هو ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فأخبرت ) أي بقول عائشة رضي الله عنها .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بعد ما دخل بيته ) ، وفي بعض النسخ ( بيتها ) ، وأضيف إليها مجازا بملابسة السكنى فيه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( هريقوا علي ) كذا في رواية الأكثرين بدون الهمزة في أوله ، وفي رواية الأصيلي ( أهريقوا ) بزيادة الهمزة ، وفي بعض النسخ ( أريقوا ) . اعلم أن في هذه المادة ثلاث لغات : الأولى : هراق الماء يهريقه هراقة ، أي صب ، وأصله أراق يريق إراقة من باب الإفعال ، وأصل أراق أريق على وزن أفعل ، نقلت حركة الياء إلى ما قبلها ، ثم قلبت ألفا لتحركها في الأصل ، وانفتاح ما قبلها بعد النقل ، فصار أراق ، وأصل يريق يؤريق على وزن يؤفعل مثل يكرم أصله يؤكرم ، حذفت الهمزة منه اتباعا لحذفها في المتكلم لاجتماع الهمزتين فيه ، وهو ثقيل .

                                                                                                                                                                                  اللغة الثانية : أهرق الماء يهرقه إهراقا على وزن أفعل إفعالا ، قال سيبويه : قد أبدلوا من الهمزة الهاء ، ثم لزمت ، فصارت كأنها من نفس الكلمة ، حذفت الألف بعد الهاء ، وتركت الهاء عوضا عن حذفهم العين ; لأن أصل أهرق أريق .

                                                                                                                                                                                  اللغة الثالثة : أهراق يهريق إهرياقا ، فهو مهريق ، والشيء مهراق ، ومهراق أيضا بالتحريك ، وهذا شاذ ، ونظيره أسطاع يسطيع إسطياعا ، بفتح الألف في الماضي ، وضم الياء في المضارع ، وهو لغة في أطاع يطيع ، فجعلوا السين عوضا من ذهاب حركة عين الفعل ، فكذلك حكم الهاء ، وقد خبط بعضهم خباطا في هذا الموضع لعدم وقوفهم على قواعد علم الصرف .

                                                                                                                                                                                  قوله ( من سبع قرب ) جمع قربة ، وهي ما يستقى به ، وهو جمع الكثرة ، وجمع القلة قربات بسكون الراء ، وفتحها ، وكسرها .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أوكيتهن ) الأوكية جمع وكاء ، وهو الذي يشد به رأس القربة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أعهد ) بفتح الهاء ، أي أوصي من باب علم يعلم ، يقال : عهدت إليه ، أي أوصيته .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وأجلس ) على صيغة المجهول ، أي النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي بعض الروايات ( فأجلس ) بالفاء ، والمخضب مر تفسيره عن قريب ، وزاد ابن خريمة من طريق عروة ، عن عائشة : أنه كان من نحاس .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثم طفقنا نصب عليه ) بكسر الفاء وفتحها ، حكاه الأخفش ، والكسر أفصح ، وهو من أفعال المقاربة ، ومعناه : جعلنا نصب الماء على رأس النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( تلك ) أي القرب السبع ، وفي بعض الروايات : تلك القرب ، وهو في محل النصب ; لأنه مفعول نصب .

                                                                                                                                                                                  قوله ( حتى طفق ) أي حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلينا ، وفي طفق معنى الاستمرار والمواصلة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أن قد فعلتن ) أي بأن فعلتن ما أمرتكن به من إهراق الماء من القرب الموصوفة ، وفعلتن بضم التاء وتشديد النون ، وهو جمع المؤنث المخاطب .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثم خرج إلى الناس ) أي خرج من بيت عائشة رضي الله عنها ، وزاد البخاري فيه من طريق عقيل ، عن الزهري : فصلى بهم وخطبهم . على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه الدلالة على وجوب القسم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا لم يحتج إلى الاستئذان عنهن ، ثم [ ص: 92 ] وجوبه على غيره بالطريق الأولى .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه لبعض الضرات أن تهب نوبتها للضرة الأخرى .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه استحباب الوصية .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه جواز الإجلاس في المخضب ونحوه ، لأجل صب الماء عليه ، سواء كان من خشب أو حجر أو نحاس ، وقد روي عن ابن عمر كراهة الوضوء في النحاس ، وقد ذكرناه ، وقد روي عنه أنه قال : أنا أتوضأ بالنحاس ، وما يكره منه شيء إلا رائحته فقط ، وقيل : الكراهة فيه ; لأن الماء يتغير فيه ، وروي أن الملائكة تكره ريح النحاس ، وقيل : يحتمل أن تكون الكراهة فيه ; لأنه مستخرج من معادن الأرض ، شبيه بالذهب والفضة ، والصواب جواز استعماله بما ذكرنا من رواية ابن خزيمة ، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والحجة البالغة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه إراقة الماء على المريض بنية التداوي وقصد الشفاء .

                                                                                                                                                                                  السادس : فيه دلالة على فضل عائشة رضي الله تعالى عنها لتمريض النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها .

                                                                                                                                                                                  السابع : فيه إشارة إلى جواز الرقى ، والتداوي للعليل ، ويكره ذلك لمن ليس به علة .

                                                                                                                                                                                  الثامن : فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشتد به المرض ليعظم الله أجره بذلك ، وفي الحديث الآخر : إني أوعك كما يوعك رجلان منكم .

                                                                                                                                                                                  التاسع : فيه جواز الأخذ بالإشارة .

                                                                                                                                                                                  العاشر : فيه إن المريض تسكن نفسه لبعض أهله دون بعض .

                                                                                                                                                                                  الأسئلة والأجوبة :

                                                                                                                                                                                  الأول : ما كانت الحكمة في طلب النبي صلى الله عليه وسلم الماء في مرضه ؟ أجيب : بأن المريض إذا صب عليه الماء البارد ثابت إليه قوته ، لكن في مرض يقتضي ذلك ، والنبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ، فلذلك طلب الماء ، ولذلك بعد استعمال الماء قام وخرج إلى الناس .

                                                                                                                                                                                  الثاني : ما الحكمة في تعيين العدد بالسبعة في القرب ؟ أجيب : بأنه يحتمل أن يكون ذلك من ناحية التبرك ، وفي عدد السبع بركة ; لأن له دخولا كثيرا في كثير من أمور الشريعة ، ولأن الله تعالى خلق كثيرا من مخلوقاته سبعا .

                                                                                                                                                                                  قلت : نهاية العدد عشرة ، والمائة تتركب من العشرات ، والألوف من المئات ، والسبعة من وسط العشرة ، وخير الأمور أوساطها ، وهي وتر ، والله تعالى يحب الوتر بخلاف السادس والثامن ، وأما التاسع فليس من الوسط ، وإن كان وترا .

                                                                                                                                                                                  الثالث : ما الحكمة في تعيين القرب ؟ أجيب : بأن الماء يكون فيها محفوظا ، وفي معناها ما يشاكلها مما يحفظ فيه الماء ، ولهذا جاء في رواية الطبراني في هذا الحديث : من آبار شتى .

                                                                                                                                                                                  الرابع : ما الحكمة في شرطه عليه الصلاة والسلام في القرب : عدم حل أوكيتهن ؟ أجيب : بأن أولى الماء أطهره وأصفاه ; لأن الأيدي لم تخالطه ، ولم تدنسه بعد ، والقرب إنما توكى وتحل على ذكر الله تعالى ، فاشترط أن يكون صب الماء عليه من الأسقية التي لم تحلل ليكون قد جمع بركة الذكر في شدها وحلها معا .

                                                                                                                                                                                  الخامس : ما الحكمة في أن عائشة رضي الله عنها قالت : ورجل آخر ، ولم تعينه ، مع أنه كان هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ؟ أجيب : بأنه كان في قلبها منه ما يحصل في قلوب البشر مما يكون سببا في الإعراض عن ذكر اسمه ، وجاء في رواية : بين الفضل بن عباس ، وفي أخرى : بين رجلين أحدهما أسامة . وطريق الجمع أنهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة ، تارة هذا ، وتارة هذا ، وكان العباس أكثرهم أخذا بيده الكريمة ; لأنه كان أدومهم لها إكراما له ، واختصاصا به ، وعلي وأسامة والفضل يتناوبون اليد الأخرى ، فعلى هذا يجاب بأنها صرحت بالعباس ، وأبهمت الآخر لكونهم ثلاثة ، وهذا الجواب أحسن من الأول .

                                                                                                                                                                                  السادس : قال الكرماني : أين ذكر الخشب في هذه الأحاديث التي في هذا الباب ، ثم أجاب بقوله : لعل القدح كان من الخشب .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية