الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2115 ( باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان نسيئة )

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي هذا باب في بيان حكم بيع العبد نسيئة ، وبيع الحيوان بالحيوان نسيئة هذا تقدير الكلام ، وقوله : والحيوان بالحيوان من عطف العام على الخاص . قوله : نسيئة بفتح النون وكسر السين المهملة وفتح الهمزة ، أي : مؤجلا ، وانتصابه على التمييز ، وقال بعضهم : وكأنه أراد بالعبد جنس ما يستعبد فيدخل الذكر والأنثى . قلت : لا نسلم أن يكون المراد بالعبد جنس ما يستعبد ، وليس هذا موضوعه في اللغة ، وإنما هو خلاف الأمة كما نص عليه أهل اللغة ، ولا حاجة لإدخال الأنثى فيه إلى هذا التكلف والتعسف ، وقد علم أنه إذا أورد حكم في الذكور يدخل فيه الإناث إلا بدليل يخص الذكور .

                                                                                                                                                                                  واعلم أن هذه الترجمة مشتملة على حكمين :

                                                                                                                                                                                  الأول : في بيع العبد بالعبد نسيئة ، وبيع العبد بعبدين أو أكثر نسيئة ، فإنه يجوز عند الشافعي وأحمد وإسحاق ، وقال مالك : إنما يجوز إذا اختلف الجنس ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون : لا يجوز ذلك ، وقال الترمذي : باب ما جاء في شراء العبد بالعبدين : حدثنا قتيبة ، أخبرنا الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : جاء عبد يبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة ، ولا يشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عبد ، فجاء سيده يريده ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بعنيه ، فاشتراه بعبدين أسودين ، ثم لم يبايع أحدا بعد حتى يسأله أعبد هو ، ثم قال : والعمل على هذا عند أهل العلم ، أنه لا بأس عبد بعبدين يدا بيد ، واختلفوا فيه إذا كان نسأ ، وأخرجه مسلم وبقية أصحاب السنن .

                                                                                                                                                                                  الحكم الثاني : في بيع الحيوان بالحيوان ، فالعلماء اختلفوا فيه ، فقالت طائفة : لا ربا في الحيوان ، وجائز بعضه ببعض نقدا ونسيئة ، اختلف أو لم يختلف ، هذا مذهب علي وابن عمر وابن المسيب ، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور ، وقال مالك : لا بأس بالبعير النجيب بالبعيرين من حاشية الإبل نسيئة ، وإن كانت من نعم واحدة إذا اختلفت وبان اختلافها ، وإن اشتبه بعضها بعضا واتفقت أجناسها ، فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل ويؤخذ يدا بيد ، وهو قول سليمان بن يسار وربيعة ويحيى بن سعيد ، وقال الثوري والكوفيون وأحمد : لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة اختلفت أجناسها أو لم تختلف ، واحتجوا في ذلك بما رواه الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، وقال الترمذي : باب ما جاء في كراهة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، ثم روى حديث سمرة هذا ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وسماع الحسن من سمرة صحيح ، هكذا قال علي بن المديني وغيره ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وبه يقول أحمد . وقال الترمذي : وفي الباب عن ابن عباس وجابر وابن عمر رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  قلت : حديث ابن عمر أخرجه الترمذي في كتاب العلل : حدثنا محمد بن عمرو المقدمي ، عن زياد بن جبير ، عن ابن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وحديث جابر أخرجه ابن ماجه عن أبي سعيد الأشج ، عن حفص بن غياث وأبي خالد ، عن حجاج ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا بأس بالحيوان بالحيوان واحد باثنين يدا بيد ، وكرهه نسيئة ، وحديث ابن عباس أخرجه الترمذي في العلل : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا محمد بن حميد هو الأحمري ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال البيهقي بعد تخريجه حديث سمرة : أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة . قلت : قول الحافظين الكبيرين الحجتين الترمذي وعلي بن المديني كاف في هذا ، مع أنهما مثبتان ، والبيهقي ينقل النفي فلا يفيد شيئا ، فإن قلت : حديث ابن عمر قال فيه الترمذي : سألت محمدا عن هذا الحديث ، فقال : إنما يروى عن زياد بن جبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 45 ] مرسلا . قلت : رواه الطحاوي موصولا بإسناد جيد قال : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ ، وعبيد الله بن محمد بن حشيش ، وإبراهيم بن محمد الصيرفي قالوا : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن دينار ، عن موسى بن عبد ، عن زياد بن جبير ، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - ، أن النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال البيهقي : هذا الحديث ضعيف بمحمد بن دينار الطاحي البصري بما روي عن ابن معين أنه ضعيف ، قلت : البيهقي لتحامله على أصحابنا يثبت بما لا يثبت ، وقد روى أحمد بن أبي خيثمة عن ابن معين أنه قال : ليس به بأس . وكذا قاله النسائي ، وقال أبو زرعة : صدوق ، وقال ابن عدي : حسن الحديث .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : حديث جابر فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف ، قلت : قال ابن حبان : صدوق يكتب حديثه ، وقال الذهبي في الميزان : أحد الأعلام على لين في حديثه ، روى له مسلم مقرونا بغيره ، وروى له الأربعة .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : حديث ابن عباس قال فيه البيهقي : إنه عن عكرمة ، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مرسل ، قلت : أخرجه الطحاوي من طريقين متصلين ، وأخرجه البزار أيضا متصلا ، ثم قال : ليس في هذا الباب حديث أجل إسنادا منه ، وهذه الأحاديث مع اختلاف طرقها يؤيد بعضها بعضا ، ويرد قول الشافعي أنه لا يثبت الحديث في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، ثم إن الشافعي ومن معه احتجوا لما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمرو أخرجه أبو داود : حدثنا حفص بن عمر قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، وعن يزيد بن أبي حبيب ، عن مسلم بن جبير ، عن أبي سفيان ، عن عمرو بن حريش ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل ، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة ، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ، ورواه الطحاوي أيضا ، وفي روايته : في قلاص الصدقة ، والقلاص بكسر القاف جمع قلص بضم القاف واللام ، وهو جمع قلوص ، فيكون القلاص جمع الجمع ، وقال : القلوص يجمع على قلص وقلائص ، وجمع القلص قلاص ، والقلوص من النوق الشابة ، وهي بمنزلة الجارية من النساء ، وأجابوا عنه بأن في إسناده اختلافا كثيرا .

                                                                                                                                                                                  وذكر عبد الغني في الكمال في باب الكنى : أبو سفيان روى عن عمر بن حريش ، روى عنه مسلم بن جبير ، ولم يذكر شيئا غير ذلك . وقال الذهبي في ترجمة عمرو بن حريش : ما روى عنه سوى أبي سفيان ، ولا يدرى من أبو سفيان ؟ وقال الطحاوي بعد أن رواه ثم نسخ ذلك بآية الربا : بيان ذلك أن آية الربا تحرم كل فضل خال عن العوض ، ففي بيع الحيوان بالحيوان نسيئة يوجد المعنى الذي حرم به الربا ، فنسخ كما نسخ بآية الربا استقراض الحيوان ; لأن النص الموجب للحظر يكون متأخرا عن الموجب للإباحة ، ومثل هذا النسخ يكون بدلالة التاريخ ، فيندفع بهذا قول النووي وأمثاله أن النسخ لا يكون إلا بمعرفة التاريخ ، وأن حديث أبي رافع الذي رواه مسلم وغيره ، أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - استسلف من رجل بكرا ، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة ، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره ، فرجع إليه أبو رافع فقال : لم أجد فيها إلا جملا خيارا رباعيا ، فقال : أعطه إياه ، إن خيار الناس أحسنهم قضاء .

                                                                                                                                                                                  احتج به الأوزاعي ، والليث ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق فيما ذهبوا إليه من جواز استقراض الحيوان ، قالوا : وهو حجة على من منع ذلك ، وأجاب المانعون عن ذلك بأنه منسوخ بآية الربا بالوجه الذي ذكرناه الآن ، ومع هذا ليس فيه إلا الثناء على من أحسن القضاء ، فأطلق ذلك ولم يقيده بصفة ، ولم يكن ذلك بشرط الزيادة ، وقد أجمع المسلمون بالنقل عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربا حرام ، وكذلك أجابوا عن كل حديث يشبه حديث أبي رافع بأنه كان قبل آية الربا .

                                                                                                                                                                                  وعن هذا قال أبو حنيفة وأصحابه وفقهاء الكوفة والثوري والحسن بن صالح : إن استقراض الحيوان لا يجوز ، ولا يجوز الاستقراض إلا مما له مثل : كالمكيلات ، والموزونات ، والعدديات المتقاربة ، فلا يجوز قرض ما لا مثل له من المزروعات والعدديات المتفاوتة ; لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العين ، ولا إلى إيجاب القيمة ; لاختلاف تقويم المقومين ، فتعين أن يكون الواجب فيه رد المثل ، فيختص جوازه بما له مثل ، وعن هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف : لا يجوز القرض في الخبز ، لا وزنا ولا عددا ، وقال محمد : يجوز عددا .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية