الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2121 178 - حدثنا قتيبة قال : حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة : إن الله ورسوله حرم بيع الخمر ، والميتة ، والخنزير ، والأصنام . فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة ، فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ، فقال : لا هو حرام ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك : قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ، ثم باعوه فأكلوا ثمنه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ورجاله قد ذكروا غير مرة ، والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن قتيبة ، وفي التفسير عن عمرو بن خالد عن الليث ببعضه ، وأخرجه مسلم أيضا في البيوع عن قتيبة به ، وعن محمد بن المثنى ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة به ، وعن محمد بن بشار عن أبي عاصم به ، وأخرجه الترمذي والنسائي جميعا فيه عن قتيبة به ، وأخرجه ابن ماجه في التجارات عن عيسى بن حماد عن الليث به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : عن عطاء هذا رواية متصلة ، ولكن نبه البخاري في الرواية المعلقة التي عقيب هذه بأن يزيد بن أبي حبيب لم يسمعه من عطاء ، وإنما كتب به إليه على ما يأتي ، وقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالكتابة ، فذهب إلى صحتها أيوب السختياني ، ومنصور ، والليث بن سعد وآخرون ، واحتج بها الشيخان ، وقال ابن الصلاح : إنه الصحيح المشهور ، وقال أبو بكر بن السمعاني : إنها أقوى من الإجازة ، وتكلم فيها بعضهم ولم يرها حجة ; لأن الخطوط تشتبه ، وبه جزم الماوردي في الحاوي .

                                                                                                                                                                                  قوله : عن جابر ، وفي رواية أحمد عن حجاج بن محمد عن الليث بسنده سمعت جابر بن عبد الله بمكة . قوله : عام الفتح ، أي : فتح مكة . قوله : وهو بمكة جملة حالية فيه بيان تاريخ ذلك ، وكان ذلك في رمضان سنة ثمان من الهجرة ، قيل : يحتمل أن يكون التحريم وقع قبل ذلك ، ثم أعاده - صلى الله تعالى عليه وسلم - يسمعه من لم يكن سمعه . قوله : إن الله ورسوله حرم هكذا هو في الأصول الصحيحة حرم بإفراد الفعل ولم يقل حرما ، وهكذا في الصحيحين وسنن النسائي [ ص: 55 ] وابن ماجه ، وأما أبو داود ، فقال : إن الله حرم ليس فيه ورسوله ، وقد وقع في بعض الكتب : إن الله ورسوله حرما بالتثنية ، وهو القياس ، وهكذا رواه ابن مردويه في تفسيره من طريق الليث أيضا ، والمشهور في الرواية الأولى ، ووجهه أنه لما كان أمر الله هو أمر رسوله ، وكان النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - لا يأمر إلا بما أمر الله به ، كان كأن الأمر واحد ، وقال صاحب المفهم : كان أصله حرما ، لكن تأدب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين ; لأن هذا من نوع ما رده على الخطيب الذي قال : ومن يعصهما فقد غوى ، فقال : بئس الخطيب أنت ! قل : ومن يعص الله ورسوله . قال : وصار هذا مثل قوله تعالى : أن الله بريء من المشركين ورسوله فيمن قرأ بنصب رسوله ، غير أن الحديث فيه تقديم وتأخير ; لأنه كان حقه أن يقدم حرم على رسوله كما جاء في الآية ، وقال شيخنا : قد ثبت في الصحيح تثنية الضمير في غير حديث ، ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه - : فنادى منادي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ، وفي رواية لمسلم : فأمر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أبا طلحة فنادى : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ، وفي رواية النسائي : "إن الله - عز وجل - ورسوله ينهاكم " بالإفراد ، وروى أبو داود من حديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ، أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان إذا تشهد قال : الحمد لله نستعينه ، وفيه : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه . قوله : فقيل يا رسول الله ، وفي رواية عبد الحميد الآتية : فقال رجل . قوله : أرأيت ، أي : أخبرني عن شحوم الميتة ، إلى قوله : الناس ، أي : أخبرني هل يحل بيعها ; لأن فيها منافع مقتضية لصحة البيع .

                                                                                                                                                                                  قوله : فقال لا أي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تبيعوها هو حرام ، أي : بيعها حرام ، هكذا فسر بعض العلماء ، منهم الشافعي ، ومنهم من قال يحرم الانتفاع بها ، فلا يجوز الانتفاع من الميتة أصلا عندهم إلا ما خص بالدليل ، كالجلد إذا دبغ ، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن ثلاثة أشياء : الأول عن طلي السفن ، والثاني عن دهن الجلود ، والثالث عن الاستصباح ، كل ذلك بشحوم الميتة ، وكان سؤالهم عن بيع ذلك ظنا منهم أن ذلك جائز لما فيه من المنافع ، كما جاز بيع الحمر الأهلية لما فيه من المنافع وإن حرم أكلها ، فظنوا أن شحوم الميتة مثل ذلك يحل بيعها وشراؤها وإن حرم أكلها ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك ليس كالذي ظنوا ، وأن بيعها حرام وثمنها حرام إذ كانت نجسة ، نظيره الدم والخمر مما يحرم بيعها وأكل ثمنها ، وأما الاستصباح ودهن السفن والجلود بها فهو بخلاف بيعها وأكل ثمنها إذا كان ما يدهن بها من ذلك يغسل بالماء غسل الشيء الذي أصابته النجاسة فيطهره الماء ، هذا قول عطاء بن أبي رباح وجماعة من العلماء .

                                                                                                                                                                                  وممن أجاز الاستصباح مما يقع فيه الفأرة علي وابن عباس وابن عمر - رضي الله تعالى عنهم - ، والإجماع قائم على أنه لا يجوز بيع الميتة والأصنام ; لأنه لا يحل الانتفاع بها ، ووضع الثمن فيها إضاعة مال ، وقد نهى الشارع عن إضاعته . قلت : على هذا التعليل إذا كسرت الأصنام وأمكن الانتفاع برضاضها جاز بيعها عند بعض الشافعية وبعض الحنفية ، وكذلك الكلام في الصلبان على هذا التفصيل ، وقال ابن المنذر : فإذا أجمعوا على تحريم بيع الميتة فبيع جيفة الكافر من أهل الحرب كذلك . وقال شيخنا : استدل بالحديث على أنه لا يجوز بيع ميتة الآدمي مطلقا ، سواء فيه المسلم والكافر ، أما المسلم فلشرفه وفضله ، حتى إنه لا يجوز الانتفاع بشيء من شعره وجلده وجميع أجزائه ، وأما الكافر فلأن نوفل بن عبد الله بن المغيرة لما اقتحم الخندق وقتل غلب المسلمون على جسده ، فأراد المشركون أن يشتروه منهم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه ، فخلى بينهم وبينه ، ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير ، قال ابن هشام : أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجسده عشرة آلاف درهم فيما بلغني عن الزهري ، وروى الترمذي من حديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين ، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم .

                                                                                                                                                                                  ومنهم من استدل بهذا الحديث على نجاسة ميتة الآدمي إذ هو محرم الأكل ، ولا ينتفع به . قلت : عموم الحديث مخصوص بقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تنجسوا موتاكم ، فإن المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا رواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس ، وقال : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه .

                                                                                                                                                                                  قال القرطبي : اختلف في جواز بيع كل محرم نجس فيه منفعة كالزبل والعذرة ، فمنع من ذلك الشافعي ومالك ، وأجازه الكوفيون والطبري .

                                                                                                                                                                                  وذهب آخرون إلى إجازة ذلك من المشتري دون البائع ، ورأوا أن المشتري أعذر من البائع ; لأنه مضطر إلى [ ص: 56 ] ذلك ، روي ذلك عن بعض الشافعية ، واستدل بالحديث أيضا من ذهب إلى نجاسة سائر أجزاء الميتة من اللحم والشعر والظفر والجلد والسن ، وهو قول الشافعي وأحمد ، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن ما لا تحله الحياة لا ينجس بالموت : كالشعر ، والظفر ، والقرن ، والحافر ، والعظم ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له مشط من عاج ، وهو عظم الفيل ، وهو غير مأكول ، فدل على طهارة عظمه وما أشبهه ، وأجيب بأن المراد بالعاج عظم السمك ، وهو الذبل . قلت : قال الجوهري : العاج من عظم الفيل ، وكذا قاله في العباب ، وفي المحكم : العاج أنياب الفيل ، ولا يسمى غير الناب عاجا ، وقال الخطابي : العاج الذبل ، وهو خطأ ، وفي العباب : الذبل ظهر السلحفاة البحرية تتخذ منها السوار والخاتم وغيرهما ، وقال جرير :


                                                                                                                                                                                  ترى العبس الحولي جونا بلوغها لها مسكا من غير عاج ولا ذبل



                                                                                                                                                                                  فهذا يدل على أن العاج غير الذبل ، وروى الدارقطني من حديث ابن عباس قال : إنما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الميتة لحمها ، فأما الجلد والشعر والصوف ، فلا بأس به ، وروى أيضا من حديث أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء ، فإن قلت : الحديثان كلاهما ضعيفان ; لأن في إسناد الأول عبد الجبار بن مسلم ، قال الدارقطني : هو ضعيف ، وفي إسناد الثاني يوسف بن أبي السفر ، قال الدارقطني : هو متروك الحديث ، قلت : ابن حبان ذكر عبد الجبار في الثقات ، وأما يوسف فإنه لا يؤثر فيه الضعف إلا بعد بيان جهته ، والجرح المبهم غير مقبول عند الحذاق من الأصوليين ، وهو كان كاتب الأوزاعي .

                                                                                                                                                                                  قوله : ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك ، أي : عند . قوله : هو حرام . قوله : قاتل الله اليهود ، أي : لعنهم . قوله : جملوه بالجيم ، أي : أذابوه من جملة الشحم أجمله جملا وإجمالا إذا أذبته واستخرجت دهنه ، وجملت أفصح من أجملت ، وهذا يدل على أن المراد بقوله هو حرام أي : البيع لا الانتفاع ، وقال الكرماني : الضمير في باعوه راجع إلى الشحوم باعتبار المذكور ، أو إلى الشحم الذي في ضمن الشحوم . قلت : الأول له وجه ، والثاني لا وجه له على ما لا يخفى .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية