الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  203 [ ص: 102 ] 69 - حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا زكرياء ، عن عامر ، عن عروة بن المغيرة ، عن أبيه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأهويت لأنزع خفيه فقال : " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " فمسح عليهما .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم خمسة : الأول : أبو نعيم الفضل بن دكين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : زكريا بن أبي زائدة الكوفي .

                                                                                                                                                                                  الثالث : عامر بن شراحيل الشعبي التابعي ، قال : أدركت خمسمائة صحابي أو أكثر يقولون : علي ، وطلحة ، والزبير في الجنة . تقدم هو وزكريا في باب فضل من استبرأ لدينه .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عروة بن المغيرة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع ، والعنعنة .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن رواته كلهم كوفيون .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن فيه رواية التابعي .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره : قد مر ، عن قريب .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات والإعراب :

                                                                                                                                                                                  قوله ( في سفر ) هو سفرة غزوة تبوك كما ورد مبينا في رواية أخرى في ( الصحيح ) ، وكانت في رجب سنة تسع .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فأهويت ) أي مددت يدي ، ويقال : أي أشرت إليه ، قال الجوهري : يقال : أهوى إليه بيديه ليأخذه ، قال الأصمعي : أهويت بالشيء إذا أومأت به .

                                                                                                                                                                                  وقال التيمي : أهويت أي قصدت الهوي من القيام إلى القعود ، وقيل : الإهواء الإمالة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( لأنزع ) بكسر الزاي من باب ضرب يضرب .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : فيه حرف الحلق ، وما فيه حرف من حروف الحلق يكون من باب فعل يفعل بالفتح فيهما . قلت : ليس الأمر كذلك ، وإنما إذا وجد فعل يفعل بالفتح فيهما ، فالشرط فيه أن يكون فيه حرف من حروف الحلق ، وأما إذا كانت كلمة فيها حرف حلق ، لا يلزم أن تكون من باب فعل يفعل بالفتح فيهما .

                                                                                                                                                                                  قوله ( خفيه ) أي خفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( دعهما ) أي دع الخفين ، فقوله "دع" أمر معناه اترك ، وهو من الأفعال التي أماتوا ماضيها .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فإني أدخلتهما ) أي الرجلين .

                                                                                                                                                                                  قوله ( طاهرتين ) أي من الحدث ، وهو منصوب على الحال ، وهذا رواية الأكثرين ، وفي رواية الكشميهني : وهما طاهرتان ، وهي جملة اسمية حالية ، وفي رواية أبي داود : فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان .

                                                                                                                                                                                  وللحميدي في ( مسنده ) : قلت : يا رسول الله ، أيمسح أحدنا على خفيه ؟ قال : نعم ، إذا أدخلهما وهما طاهرتان . ولابن خزيمة من حديث صفوان بن غسان : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ، ثلاثا إذا سافرنا ، ويوما وليلة إذا أقمنا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فمسح عليهما ) أي على الخفين ، وفيه إضمار تقديره : فأحدث فمسح عليهما ; لأن وقت جواز المسح بعد الحدث والوضوء ، ولا يجوز قبله ; لأنه على طهارة .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه جواز المسح على الخفين ، وبيان مشروعيته .

                                                                                                                                                                                  الثاني : احتجت به الشافعية على أن شرط جواز المسح لبسهما على طهارة كاملة قبل لبس الخف ; لأن الحديث جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطا لجواز المسح ، والمعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم : قال صاحب ( الهداية ) من الحنفية : شرط إباحة المسح لبسهما على طهارة كاملة ، قال : والمراد بالكاملة وقت الحدث ، لا وقت اللبس انتهى . فقال : والحديث حجة عليه ، وذكر ما ذكرناه الآن عن الشافعية .

                                                                                                                                                                                  قلت : نقول أولا ما قاله صاحب ( الهداية ) ثم نرد على هذا القائل ما قاله ، أما عبارة صاحب الهداية ، فهي قوله : ( إذا لبسهما على طهارة كاملة ) لا يفيد اشتراط الكمال وقت اللبس ، بل وقت الحدث ، وهو المذهب عندنا ، حتى لو غسل رجليه ولبس خفيه ، ثم أكمل الطهارة ، ثم أحدث ، يجزئه المسح ، وهذا لأن الخف مانع حلول الحدث بالقدم ، فيراعى كمال الطهارة وقت المنع ، وهو وقت الحدث ، حتى لو كانت ناقصة عند ذلك كان الخف رافعا ، وأما بيان الرد على هذا القائل بأن الحديث المذكور ليس بحجة على صاحب ( الهداية ) فهو أنا نقول : أولا إن اشتراط اللبس على طهارة كاملة لا خلاف فيه لأحد ، وإنما الخلاف في أنه هل يشترط الكمال عند اللبس أو عند الحدث ، فعندنا عند الحدث ، وعند الشافعي عند اللبس ، وتظهر ثمرته فيما إذا غسل رجليه أولا ولبس خفيه ، ثم أتم الوضوء قبل أن يحدث ، ثم أحدث - جاز له المسح عندنا خلافا له ، وكذا لو توضأ فرتب ، لكن غسل إحدى رجليه ، ولبس الخف ، ثم غسل الأخرى ، ولبس الخف الآخر ، يجوز عندنا خلافا له ، ثم قوله ( المعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط ) سلمناه ، ولكن لا نسلم أنه شرط كمال الطهارة وقت اللبس ; لأنه لا يفهم من نص الحديث ، غاية ما في الباب أنه أخبر أنه لبسهما ، وقدماه كانتا طاهرتين ، فأخذنا من هذا اشتراط الطهارة لأجل جواز المسح ، سواء كانت الطهارة حاصلة وقت اللبس أو وقت [ ص: 103 ] الحدث ، وتقييده بوقت اللبس أمر زائد لا يفهم من العبارة ، فإذا تقرر هذا على هذا لم يكن الحديث حجة على صاحب ( الهداية ) ، بل هو حجة له حيث اشترط الطهارة لأجل جواز المسح ، وحجة عليه حيث يأخذ منه ما ليس يدل على مدعاه .

                                                                                                                                                                                  وقال الطحاوي : معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( أدخلتهما طاهرتين ) : يجوز أن يقال : غسلتهما ، وإن لم يكمل الطهارة صلى ركعتين قبل أن يتم صلاته ، ويحتمل أن يريد : طاهرتان من جنابة أو خبث ، ولو قلت : دخلنا البلد ونحن راكبان ، يشترط أن يكون كل واحد راكبا عند دخوله ، ولا يشترط اقترانهم في الدخول ، فتكون كل واحدة من رجليه عند إدخالها الخف طاهرة إذا لم يدخلهما الخفين معا ، وهما طاهرتان ; لأن إدخالهما معا غير متصور عادة ، وإن أراد إدخال كل واحدة الخف ، وهي طاهرة بعد الأخرى ، فقد وجد المدعى ، ومع هذا فإن هذه المسألة مبنية على أن الترتيب شرط عند الشافعي ، وليس بشرط عندنا .

                                                                                                                                                                                  وقال هذا القائل أيضا : ولابن خزيمة من حديث صفوان بن عسال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ، ثلاثا إذا سافرنا ، ويوما وليلة إذا أقمنا . قال ابن خزيمة : ذكرته للمزني فقال لي : حدث به أصحابنا ، فإنه أقوى حجة للشافعي .

                                                                                                                                                                                  قلت : فإن كان مراده من قوله ( فإنه من أقوى حجة ) كون مدة المسح للمسافر ثلاثة أيام ، وللمقيم يوما وليلة - فمسلم ، ونحن نقول به ، وإن كان مراده اشتراط الطهارة وقت اللبس فلا نسلم ذلك ; لأنه لا يفهم ذلك من نص الحديث على ما ذكرناه الآن .

                                                                                                                                                                                  وقال أيضا : وحديث صفوان وإن كان صحيحا ، لكنه ليس على شرط البخاري ، لكن حديث الباب موافق له في الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس .

                                                                                                                                                                                  قلت : بعد أن صح حديث صفوان عند جماعة من المحدثين - لا يلزم أن يكون على شرط البخاري ، وقوله ( موافق له في الدلالة ... إلى آخره ) غير مسلم في كون الطهارة عند اللبس ، نعم ، موافق له في مطلق اشتراط الطهارة لا غير ، فإن ادعى هذا القائل أنه يدل على كونها عند اللبس ، فعليه البيان بأي نوع من أنواع الدلالة .

                                                                                                                                                                                  الثالث من الأحكام : فيه خدمة العالم ، وللخادم أن يقصد إلى ما يعرف من خدمته دون أن يؤمر بها .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه إمكان الفهم عن الإشارة ، ورد الجواب بالعلم على ما يفهم من الإشارة ; لأن المغيرة أهوى لينزع الخفين ، ففهم عنه صلى الله عليه وسلم ما أراد ، فأجاب بأنه يجزئه المسح .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه أن من لبس خفيه على غير طهارة أنه لا يمسح عليهما بلا خلاف .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية