الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2179 3 - ( حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدثني يوسف بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن جده عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال : كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة ، وأحفظه في صاغيته بالمدينة ، فلما ذكرت الرحمن قال : لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، فكاتبته عبد عمرو ، فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس ، فأبصره بلال ، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار ، فقال أمية بن خلف : لا نجوت إن نجا أمية ، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا ، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم ، فقتلوه ثم أبوا حتى يتبعونا - وكان رجلا ثقيلا - فلما أدركونا قلت له : ابرك فبرك ، فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه ، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه ، وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن عبد الرحمن بن عوف وهو مسلم في دار الإسلام كاتب إلى أمية بن خلف وهو كافر في دار الحرب بتفويضه إليه لينظر فيما يتعلق به ، وهو معنى التوكيل ; لأن الوكيل إنما هو مرصد لمصالح موكله وقضاء حوائجه ، ورد بهذا ما قاله ابن التين ليس في هذا الحديث وكالة إنما تعاقد أن يجير كل واحد منهما صاغية صاحبه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : بمجرد هذا أيصح توكيل مسلم حربيا في دار الحرب قلت : الظاهر أن عبد الرحمن لم يفعل هذا إلا باطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه ، فدل على صحته .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : الترجمة في شيئين ، والحديث لا يدل إلا على أحدهما ، وهو توكيل المسلم حربيا وهو في دار الحرب قلت : إذا صح هذا فتوكيله إياه في دار الإسلام يكون بطريق الأولى أن يصح ، وقال ابن المنذر : توكيل المسلم حربيا مستأمنا وتوكيل الحربي المستأمن مسلما لا خلاف في جواز ذلك .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم خمسة ، الأول : عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو ، أبو القاسم القرشي العامري الأويسي ، الثاني : يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، بفتح الجيم وكسرها ، الثالث : صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي ، يكنى أبا عمرو ، الرابع : أبوه إبراهيم بن عبد الرحمن القرشي ، يكنى أبا إسحاق ، وقيل : أبا محمد ، توفي سنة ست وتسعين ، الخامس : عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف القرشي ، أبو محمد ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، توفي سنة اثنتين وثلاثين ، ودفن بالبقيع .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في موضعين ، وفيه أن شيخه من أفراده ، ولفظ الماجشون هو لقب يعقوب ، وهو لفظ فارسي ومعناه المورد ، وفيه أن الرواة [ ص: 129 ] كلهم مدنيون .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي مختصرا ، عن عبد العزيز بن عبد الله أيضا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) :

                                                                                                                                                                                  قوله : " كاتبت أمية بن خلف " ، يعني : كتبت إليه كتابا . وفي رواية الإسماعيلي : عاهدت أمية بن خلف وكاتبته ، وأمية بضم الهمزة وفتح الميم المخففة ، وتشديد الياء آخر الحروف ابن خلف بالخاء واللام المفتوحتين ابن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر . وقال علماء السير : كان أمية بن خلف الجمحي أشد الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء في يوم بعظم نخر ، ففته في يده . وقال : يا محمد تزعم أن ربك يحيي هذا ، ثم نفخه ، فطار ، فأنزل الله تعالى : قال من يحيي العظام وهي رميم قوله : " صاغيتي " بصاد مهملة وغين معجمة هي المال . وقيل : الحاشية ، يقال : صاغية الرجل حاشيته ، وكل من يصغي إليه ، أي : يميل ، وعن القزاز صاغية الرجل أهله ، يقال : أكرموا فلانا في صاغيته ، أي : في أهله . وقال الهروي : خالصته . وقال الكرماني : الصاغية هم القوم الذين يميلون إليه ويأتونه ، أي : أتباعه وحواشيه . ( قلت ) : فعلى هذا تكون الصاغية مشتقة من صغيت إلى فلان ، أي : ملت بسمعي إليه ، ومنه : ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وكل مائل إلى شيء أو معه ، فقد صغى إليه ، وأصغى . وفي حديث الهرة : أنه كان يصغي لها الإناء ، أي : يميله إليها ليسهل عليها الشرب منه . وقال ابن الأثير : الصاغية خاصية الإنسان والمائلون إليه ، ذكره في تفسير هذا الحديث . وقيل : الأشبه أن يكون هذا هو الأليق بتفسير هذا الحديث ، والله تعالى أعلم . وقال ابن التين : ورواه الداودي : ظاعنتي ، بالظاء المشالة المعجمة والعين المهملة بعدها نون ، ثم فسره بأنه الشيء الذي يسفر إليه ، قال : ولم أر هذا لغيره . قوله : " لا أعرف الرحمن " قال بعضهم : أي : لا أعترف بتوحيده . ( قلت ) : هذا الذي فسره لا يقتضيه قوله : " لا أعرف الرحمن " وإنما معناه : أنه لما كتب إليه ذكر اسمه بعبد الرحمن ، فقال : ما أعرف الرحمن الذي جعلت نفسك عبدا له ، ألا ترى أنه قال : كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو ، فلذلك كاتبه عبد عمرو . وقيل : كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة ، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن . وقال صاحب التوضيح معناه : لا أعبد من تعبده ، وهذه حمية الجاهلية التي ذكرت حين لم يقرؤوا كتابه - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية لما كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا : لا نعرف الرحمن ، اكتب باسمك اللهم . قوله : " ولما كان يوم بدر " ، يعني : غزوة يوم بدر ، وكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية قاله عروة بن الزبير وقتادة والسدي ، وأبو جعفر الباقر . وقيل : غير ذلك ، ولكن لا خلاف أنها في السنة الثانية من الهجرة ، وبدر بئر لرجل كان يدعى بدرا ، قاله الشعبي . وقال البلاذري : بدر اسم ماء لخالد بن النضر بينه وبين المدينة ثمانية برد . قوله : " لأحرزه " بضم الهمزة من الإحراز ، أي : لأحفظه . وقال الكرماني : لأحوزه من الحيازة ، أي : الجمع ، وفي بعضها من الحوز ، أي : الضبط والحفظ ، وفي بعضها من التحويز ، أي : التبعيد . قوله : " حين نام الناس " ، أي : حين رقدوا ، وأراد بذلك اغتنام غفلتهم ليصون دمه . قوله : " فأبصره بلال " ، أي : أبصر أمية بلال بن حمامة رضي الله تعالى عنه . قوله : " فقال " ، أي : بلال . قوله : " أمية بن خلف " بالنصب على الإغراء ، أي : الزموا أمية . وفي رواية أبي ذر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أمية . وقال بعضهم : خبر مبتدأ مضمر . ( قلت ) : لا يقال لمثل هذا المحذوف مضمر ، وليس بمصطلح هذا ، والفرق بين المضمر والمحذوف قائم . قوله : " لا نجوت إن نجى أمية " إنما قال ذلك بلال ; لأن أمية كان يعذب بلالا بمكة عذابا شديدا لأجل إسلامه ، وكان يخرجه إلى الرمضاء إذا حميت ، فيضجعه على ظهره ، ثم يأخذ الصخرة العظيمة ، فيضعها على صدره ويقول : لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد ، فيقول بلال : أحد أحد . قوله : " فخرج معه " ، أي : فخرج مع بلال فريق من الأنصار ، وكان قد استصرخ بالأنصار ، وأغراهم على قتله . قوله : " خلفت لهم ابنه " ، أي : ابن أمية واسمه علي . قوله : " لأشغلهم " بضم الهمزة من الإشغال ، يعني : يشتغلون بابنه عن أبيه أمية . قوله : " فقتلوه " ، أي : قتلوا ابنه . وقال عبد الرحمن بن عوف : فكنت بين أمية وابنه آخذ بأيديهما ، فلما رآه بلال صرخ بأعلى صوته : يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف ، فأحاطوا بنا ، وأنا أذب عنه ، فضرب رجل ابنه بالسيف ، فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط ، فقلت : انج نفسك ، فوالله لا أغني عنك شيئا . قوله : " ثم أبوا " من الإباء بمعنى الامتناع ، ويروى : ثم أتوا من الإتيان . قوله : " وكان رجلا ثقيلا " ، أي : كان أمية رجلا ضخما . قوله : " فلما أدركونا " ، أي : قال [ ص: 130 ] عبد الرحمن لما أدركنا الأنصار وبلال معهم . ( قلت له ) : أي : لأمية ابرك أمر من البروك ، فبرك ، فألقيت عليه نفسي لأمنعه منهم . قوله : " فتجللوه بالسيوف بالجيم " ، أي : غشوه بها ، هكذا في رواية الأصيلي ، وأبي ذر . وفي رواية غيرهما بالخاء المعجمة ، أي : أدخلوا أسيافهم خلاله حتى وصلوا إليه وطعنوا بها من تحتي من قولهم خللته بالرمح ، واختللته : إذا طعنته به . ووقع في رواية المستملي : فتحلوه بلام واحدة مشددة ، والذي قتل أمية رجل من الأنصار من بني مازن . وقال ابن هشام : ويقال قتله معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب بن أساف اشتركوا في قتله ، والذي قتل علي بن أمية عمار بن ياسر . قوله : " وأصاب أحدهم " ، أي : أحد الذين باشروا قتل أمية رجلي بسيفه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) :

                                                                                                                                                                                  فيه : أن قريشا لم يكن لهم أمان يوم بدر ، ولهذا لم يجز بلال ومن معه من الأنصار أمان عبد الرحمن ، وقد نسخ هذا بحديث يجير على المسلمين أدناهم .

                                                                                                                                                                                  وفيه : الوفاء بالعهد ; لأن عبد الرحمن كان صديقا لأمية بمكة ، فوفى بالعهد الذي كان بينهما . وقال عبد الرحمن : وكان اسمي عبد عمرو ، فسميت عبد الرحمن حين أسلمت كما ذكرناه ، وكان يلقاني بمكة ، فيقول : يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك ، فأقول : نعم ، فيقول : إني لا أعرف الرحمن ، فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به ، فسماه عبد الإله ، فلما كان يوم بدر مررت به ، وهو واقف مع ابنه علي بن أمية ومعي أدراع ، وأنا أحملها ، فلما رآني قال : يا عبد عمرو ، فلم أجبه ، قال : يا عبد الإله . ( قلت ) : نعم . قال : هل لك في ، فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك . ( قلت ) : نعم ، فطرحت الأدراع من يدي ، وأخذت بيده ويد ابنه ، وهو يقول : ما رأيت كاليوم قط ، فرآهما بلال ، فصار أمره ما ذكرنا ، وكان عبد الرحمن يقول : رحم الله بلالا ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري .

                                                                                                                                                                                  وفيه : مجازاة المسلم الكافر على البر يكون منه للمسلم والإحسان إليه على جميل فعله ، والسعي له في تخليصه من القتل وشبهه .

                                                                                                                                                                                  وفيه أيضا : المجازاة على سوء الفعل بمثله ، والانتقام من الظالم .

                                                                                                                                                                                  وفيه : أن من أصيب حين يتقي عن مشرك أنه لا شيء فيه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية