الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2282 4 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين ، قيل : من فعل هذا بك ؟ أفلان ؟ أفلان ؟ حتى سمي اليهودي ، فأومت برأسها فأخذ اليهودي فاعترف ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إنه يشتمل على خصومة بين يهودي وجارية من الأنصار ، وموسى هو ابن إسماعيل المذكور [ ص: 253 ] وهمام على وزن فعال بالتشديد ابن يحيى بن دينار البصري .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الوصايا عن حسان بن أبي عباد ، وفي الديات عن حجاج بن منهال وعن إسحاق عن ابن حبان ، وأخرجه مسلم في الحدود عن هدبة بن خالد ، وأخرجه أبو داود في الديات عن علي بن محمد عن محمد بن كثير ، وأخرجه الترمذي فيه والنسائي في القود جميعا عن علي بن حجر ، وأخرجه ابن ماجه في الديات عن علي بن محمد عن وكيع .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله " رض " بتشديد الضاد المعجمة أي دق ، يقال : رضضت الشيء رضا فهو رضيض ومرضوض ، وقال ابن الأثير : الرض الدق الجريش ، قوله " رأس جارية " كانت هذه الجارية من الأنصار كما صرح به في رواية أبي داود ، واختلفت ألفاظ هذا الحديث فهاهنا " رض رأس جارية بين حجرين " وفي رواية للبخاري على ما سيأتي أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتلها بين حجرين ، وفي رواية للطحاوي : عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورضخ رأسها ، وفي رواية لمسلم : فرضخ رأسها بين حجرين ، وفي رواية لأبي داود : أن يهوديا قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في قليب ، رضخ رأسها بالحجارة فأخذ ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات ، وفي رواية الترمذي : خرجت جارية عليها أوضاح فأخذها يهودي فرضخ رأسها وأخذ ما عليها من حلي ، قال : فأدركت وبها رمق ، فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : من قتلك ؟ الحديث .

                                                                                                                                                                                  قلت : الاختلاف في الألفاظ لا في المعاني ، فإن الرضخ والرض والرجم كله عبارة هاهنا عن الضرب بالحجارة ، والأوضاح جمع وضح بالضاد المعجمة والحاء المهملة وهو نوع من الحلي يعمل من الفضة سميت بها لبياضها ، والرضخ بالضاد والخاء المعجمتين وهو الدق والكسر هنا ويجيء بمعنى الشدخ أيضا وبمعنى العطية ، قوله : أفلان أفلان ؟ الهمزة فيهما للاستفهام على سبيل الاستخبار ، قوله " فأومت " كذا ذكره ابن التين ، ثم قال : صوابه فأومأت وثلاثيه ومأ ، وفي المطالع : يقال منه ومأ وأومأ ، وفي الصحاح : أومأت إليه أشرت ، ولا تقل : أوميت وومأت إليه إماء ووماء لغة ، وهذا معتل الفاء مهموز اللام .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) احتج به عمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن ، وابن سيرين ومالك والشافعي ، وأحمد وأبو ثور وإسحاق ، وابن المنذر وجماعة من الظاهرية على أن القاتل يقتل بما قتل به ، وقال ابن حزم : قال مالك : إن قتله بحجر أو بعصا أو بالنار أو بالتفريق قتل بمثل ذلك يكرر عليه أبدا حتى يموت ، وقال الشافعي : إن ضربه بحجر أو بعصا حتى مات ضرب بحجر أو بعصا أبدا حتى يموت ، فإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات حبس مثل المدة حتى يموت فإن لم يمت قتل بالسيف ، وهكذا إن غرقه وهكذا إن ألقاه من مهواة عالية فإن قطع يديه ورجليه فمات قطعت يدا القاتل ورجلاه فإن مات وإلا قتل بالسيف ، وقال أبو محمد : إن لم يمت ترك كما هو حتى يموت لا يطعم ولا يسقى ، وكذلك إن قتله جوعا أو عطشا عطش أو جوع حتى يموت ولا تراعى المدة أصلا ، وقال ابن شبرمة : إن غمسه في الماء حتى مات غمس حتى يموت ، وقال عامر الشعبي وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله : لا يقتل القاتل في جميع الصور إلا بالسيف ، واحتجوا في ذلك بما رواه أبو داود الطيالسي ، عن قيس ، عن جابر الجعفي ، عن أبي عازب ، عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا قود إلا بحديدة . ورواه الطحاوي ، حدثنا ابن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن جابر ، عن أبي عازب ، عن النعمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا قود إلا بالسيف ، وأخرجه الدارقطني : حدثنا محمد بن سليمان النعماني ، حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الجرجرائي ، حدثنا موسى بن داود ، عن مبارك ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا قود إلا بالسيف ، قيل للحسن : عمن ؟ قال : سمعت النعمان بن بشير يذكر ذلك ، وقيل : عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن أبي بكرة مرفوعا . رواه الوليد بن صالح عنه ، وأخرجه ابن أبي شيبة مرسلا ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن أشعث وعمرو بن عبيد ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا قود إلا بالسيف . وجه الاستدلال به أن معناه لا قصاص حاصل إلا بالسيف ، وقد علم أن النكرة في موضع النفي تعم ، ويكون المعنى لا فرد من أفراد القود إلا وهو مستوفى بالسيف ، وقيل : النفي والاستثناء ، وهو طريق من طرق القصر وتحقيق القصر فيه أنه لما قيل : لا قود ، توجه النفي إلى ذات القود ، فانتفى القود المنكر الشامل لكل واحد من أفراد القود ، ولما قيل : إلا بالسيف جاء القصر وفيه [ ص: 254 ] إثبات ذلك القود المنفي بالسيف ، وإنما قلنا : توجه النفي إلى ذات القود ; لأن القود معنى من المعاني وليس له قيام إلا بالذات ، والذات لا يتوجه إليه النفي ، ولهذا نقول : المنفي في قولنا إنما زيد قائم هو اتصاف زيد بالقيام لا ذات زيد لأن أنفس الذوات أي الأجسام يمتنع نفيها كما بين ذلك في الطبيعيات .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال البيهقي : هذا حديث لم يثبت له إسناد ، وجابر الجعفي مطعون فيه ، قلت : الجعفي وإن طعن فيه فقد قال وكيع : مهما تشككتم فيه فلا تشكوا في أن جابرا ثقة ، وقال شعبة : صدوق في الحديث ، وقال الثوري لشعبة : لئن تكلمت في جابر لتكلمت فيك ، وقال الذهبي في الكاشف : إن ابن حبان أخرج له في صحيحه وقد تابع الثوري أيضا قيس بن الربيع كما ذكرنا في رواية الطيالسي ، وقال عفان : كان قيس ثقة وثقه الثوري وشعبة ، وقال أبو داود الطيالسي : هو ثقة حسن الحديث ، ثم إنا ولئن سلمنا ما قاله البيهقي فقد وجدنا شاهدا لحديث النعمان المذكور وهو ما رواه ابن ماجه : حدثنا إبراهيم بن المستمر ، حدثنا الحر بن مالك العنبري ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن أبي بكرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا قود إلا بالسيف . وسنده جيد ،

                                                                                                                                                                                  وابن المستمر صدوق ، كذا قال النسائي والحر : قال ابن أبي حاتم في كتابه : سألت أبي عنه ، فقال : صدوق ، والمبارك وإن تكلم فيه فقد أخرج له البخاري في المبايعات في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : يخوف الله عباده بالكسوف ، وأخرج له ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ووثقه ، وقال عفان : كان ثقة ووثقه ابن معين مرة وضعفه أخرى ، وكان يحيى القطان يحسن الثناء عليه ، وروي أيضا نحوه عن أبي هريرة ، أخرجه البيهقي من سننه من حديث ابن مصفى : حدثنا بقية ، حدثنا سليمان ، عن الزهري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا قود إلا بالسيف ، ثم قال البيهقي : ورواه بقية بن الوليد عن أبي معاذ هو سليمان بن أرقم ، عن الزهري هكذا ، وعن أبي معاذ ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا قود إلا بسلاح ، ورواه معلى بن هلال عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا قود إلا بحديدة ، وروى أيضا عن أبي سعيد الخدري أخرجه الدارقطني ، عن عبد الصمد بن علي ، عن الفضل بن عباس ، عن يحيى بن غيلان ، عن عبد الله بن بزيع ، عن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان ، عن جابر ، عن أبي عازب ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : القود بالسيف والخطأ على العاقلة ، وهذا الحديث كما رأيت قد روي عن النعمان بن بشير ، وأبي بكرة ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن مسعود ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم . ولا شك أن بعضها يشهد لبعض وأقل أحواله أن يكون حسنا ، فإذا كان حسنا صح الاحتجاج به .

                                                                                                                                                                                  وأجابوا عن حديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن ذلك القاتل يجب قتله لله تعالى إذا كان إنما قتل على مال ، قد بين ذلك في الحديث الذي فيه الأوضاح كما يجب دم قاطع الطريق لله تعالى ، فكأن له أن يقتله كيف شاء بسيف أو بغيره ، وأيضا روي في هذا الحديث فيما رواه مسلم وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم أمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات ، وقد مر عن قريب فدل ذلك أن قتل القاتل لا يتعين أن يكون بما قتل به ، وجواب آخر أن ذلك كان حين كانت المثلة مباحة كما فعل صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ثم نسخت بعد ذلك ونهى عنها صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  وفيه إيماء تلك الجارية ، واختلف العلماء في إشارة المريض ، فذهب الليث ومالك والشافعي إلى أنه إذا ثبتت إشارته على ما يعرف من حضره جازت وصيته ، وقال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري : إذا سئل المريض عن الشيء فأومأ برأسه أو بيده فليس بشيء حتى يتكلم ، قال أبو حنيفة : وإنما تجوز إشارة الأخرس أو من لحقته سكتة لا يتكلم ، وأما من اعتقل لسانه ولم يوم به ذلك فلا تجوز إشارته ، وقال صاحب التوضيح : قلت : الحديث حجة عليه ، قلت : لو أدرك ما ذكرناه آنفا لما اجترأ بإبراز هذا الكلام فلا يكثر مثل هذا على قاصر الفهم وفائت الإدراك ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بإشارة الجارية في قتل اليهودي وإنما قتله باعترافه ، وقال الإسماعيلي : من أطاق الإبانة عن نفسه لم تكن إشارته فيما له أو عليه واقعة موقع الكلام لكن تقع موقع الدلالة على ما يراد لا فيما يؤدي إلى الحكم على إنسان بإشارة غيره ، ولو كان كذلك لقبلت شهادة الشاهدين بالإشارة والإيماء ، وقال بعض الشافعية : في هذا الحديث حجة على أبي حنيفة حيث لم يوجب القصاص فيمن قتل بمثقل عمدا ، وإنما يجب عنده دية مغلظة ، والحديث حجة عليه وخالفه غيره من الأئمة : مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء ، والجواب عن هذا أن عادة ذلك اليهودي كانت قتل الصغار بذلك الطريق فكان ساعيا في الأرض بالفساد ، فقتل سياسة واعترضوا بأنه لو قتل [ ص: 255 ] لسعيه في الأرض بالفساد لما قتل مماثلة برض رأسه بين الحجرين ، ورد بأن قتله مماثلة كان قبل تحريم المثلة فلما حرمت نسخت فكان القتل بعد ذلك بالسيف ، وفيه بيان أن الرجل يقتل بالمرأة وهو مجمع عليه عند من يعتد بإجماعه ، وفيه خلاف شاذ ، وفيه قتل الكافر بالمسلم والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية