الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
57 - " أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم؛ ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية؛ ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه " ؛ (خ)؛ عن ابن عباس ؛ (صح).

التالي السابق


(أبغض الناس إلى الله) ؛ أي: أبغض عصاة المؤمنين إليه؛ كما أفاده قول القاضي: المراد بالناس المقول عليهم جميع عصاة الأمة؛ وأن الكافر أبغض من هؤلاء المعدودين؛ وقول الطيبي: أراد بالناس المسلمين؛ بدليل قوله: " ومبتغ في الإسلام" ؛ (ثلاثة) ؛ أحدهم إنسان (ملحد) ؛ بالضم؛ أي: مائل عن الاستقامة؛ (في) ؛ حق (الحرم) ؛ المكي؛ بأن هتك حرمته بفعل محرم فيه؛ من " الإلحاد" ؛ وهو الميل عن الصواب؛ أو من " اللحد" ؛ وهو الحفرة المائلة عن الوسط؛ ومصداقه: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ؛ ذكره القاضي؛ قال الزمخشري : ومن المجاز: " لحد السهم عن الهدف" ؛ و" لحد عن القصد" ؛ عدل عنه؛ و" ألحد في دين الله" ؛ و" ألحد في الحرم" ؛ و" لحد إليه" ؛ مال إليه؛ انتهى؛ وقال الراغب : " ألحد بلسانه إلى كذا" ؛ مال؛ ومنه: الذين يلحدون في آياتنا ؛ و" ألحد" ؛ مال عن الحق؛ و" الإلحاد" ؛ ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله؛ وإلحاد إلى الشرك بالأسباب؛ فالأول ينافي الإيمان ويبطله؛ والثاني يوهن عراه ولا يبطله؛ وذلك لهتك حرمته؛ مع مخالفته أمر ربه؛ فهو عاص من وجهين؛ فهو بالبغض جدير؛ واستشكل بأن ظاهره أن فعل الصغيرة في الحرم المكي أشد به من فعل الكبيرة في غيره؛ وأجيب بأن الإلحاد عرفا يستعمل في الخارج عن الدين؛ فإذا وصف به من ارتكب محرما؛ كان إشارة إلى عظمه؛ ويدل عليه آية: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ؛ الآية؛ فإن الإتيان بالجملة الاسمية يفيد ثبوت الإلحاد ودوامه؛ والتنوين للتعظيم؛ فهو إشارة إلى عظم الذنب؛ قالوا: وهذا من خصائص الحرم؛ فإنه يعاقب الناوي للشر فيه إذا عزم عليه ولم يفعله؛ وذهب بعض الصحابة إلى أن السيئات تتضاعف فيه؛ كالحسنات؛ (و) ؛ ثاني الثلاثة: (مبتغ) ؛ بضم الميم؛ وسكون الموحدة؛ وفتح الفوقية؛ وعين معجمة؛ طالب (في الإسلام) ؛ أي: في دينه؛ (سنة الجاهلية) ؛ أي: إحياء طريقة أهل زمن الفترة؛ سمي به لكثرة الجهالة فيه؛ كقتل البنات؛ والطيرة؛ والكهانة؛ والنياحة؛ والميسر؛ والنيروز؛ ومنع القود عن مستحقه؛ وطلب الحق ممن ليس عليه؛ كأصله وفرعه؛ فإطلاق السنة على فعل الجاهلية ورد على أصل اللغة؛ أو للتهكم؛ (و) ؛ الثالث: (مطلب) ؛ بالضم؛ وشد الطاء؛ وكسر اللام؛ " مفتعل" ؛ من " الطلب" ؛ أي: " متطلب" ؛ فأبدلت التاء طاء؛ وأدغم؛ أي: المتكلف للطلب؛ المبالغ فيه؛ (دم) ؛ أي: إراقة دم (امرئ) ؛ مثلث الراء؛ أي: رجل؛ وهو للذكر؛ وخص بالذكر هنا وفي نظائره لشرفه؛ وأصالته؛ وغلبة دوران الأحكام عليه؛ كما مر في الخنثى؛ والأنثى مثله في الحكم؛ وما ذكر من أن المرء يختص بالذكر؛ هو ما عليه كثير؛ لكن قال الحراني : " المرء" : اسم سن من سنان الضبع؛ يشارك [ ص: 82 ] الرجل فيه المرأة؛ ويكون له فيه فضل ما؛ و" الدم" : رزق البدن؛ والأقرب إليه؛ المحيط به؛ ولم يقيد هنا بالمسلم اكتفاء بقوله: (بغير الحق) ؛ وقيده به في رواية؛ زيادة للبيان؛ فخرج نحو حربي؛ ومرتد؛ وقاطع طريق؛ ومهدر؛ بأي سبب كان؛ والقود؛ (ليهريق) ؛ بضم أوله؛ وهاء مفتوحة؛ قد تسكن؛ أي: يصب؛ (دمه) ؛ أي: يقتله؛ بنحو ذبح؛ أو ضرب عنق بنحو سيف؛ فيسيل دمه؛ وخص هذه الكيفية المشتملة على إسالة الدم؛ لكونها أغلب طرق القتل؛ والمراد إزهاق روحه بمحدد؛ أو مثقل؛ أو غيرهما؛ كنحو سم؛ ولما كان المنع من إراقة الدم أعظم المقاصد - أو هو أعظمها - أعاده صريحا؛ ولم يكتف بـ " يهريقه" ؛ وإن كفى؛ والمراد الطلب المترتب عليه المطلوب؛ أو ذكر الطلب؛ ليلزم في الإهراق بالأولى؛ ففيه مبالغة؛ ذكره الكرماني.

وإنما كان هؤلاء الثلاثة أبغض المؤمنين إليه لأنهم جمعوا بين الذنب وما يزيد به قبحا؛ من الإلحاد؛ وكونه في الحرم؛ وإحداث البدعة في الإسلام؛ وكونها من أمر الجاهلية؛ وقتل نفس لا لغرض؛ بل بمجرد كونه قتلا؛ ويزيد القبح في الأول باعتبار المحل؛ وفي الثاني باعتبار الفاعل؛ وفي الثالث باعتبار الفعل؛ قال القاضي: القاتل بغير حق يقصد ما كرهه الله؛ من وجهين؛ من حيث كونه ظلما؛ والظلم على الإطلاق مكروه مبغوض؛ ومن حيث كونه يتضمن موت العبد ومساءته؛ والله يكره مساءته؛ فلذلك استحق مزيد المقت؛ وفي كل من لفظتي " المبتغي" ؛ و" المطلب" ؛ مبالغة أخرى؛ وذلك لأن هذا الوعيد إذا ترتب على الطالب والمتمني؛ فكيف بالمباشر؟!

(خ)؛ في الديات؛ وكذا في البيهقي ؛ والطبراني ؛ (عن ابن عباس ) ؛ ولم يخرجه مسلم .



الخدمات العلمية